الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،
فلقد انتشر مقطعٌ مجتزأٌ للشيخ صالح المغامسي -وفقه الله- من بعض دروسه يقرر فيه أن فرقة الإسماعيلية من جملة فرق المسلمين، وأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد تكفّل بالرد عليه وبيان عِظم ما وقع فيه من الخطأ والزلل جملة من أهل العلم منهم الدكتور عبد العزيز السعيد -وفقه الله-، وهو منشور في موقعه في الشبكة العنكبوتية، وقد أبان السعيد حقيقة فرقة الإسماعيلية، وأوضح كونها من الفرق الباطنية التي أجمع العلماء على كفرها ومروقها من الإسلام.
وقد ظننت أن توالي الردود على فضيلة الشيخ المغامسي كاف في إرجاعه إلى الحق، وهو حقيقٌ بذلك، إلا أنه -عفا الله عنا وعنه- نشر مقطعاً آخر يبرر فيه مقالته، ويذكر فيه عذره، وأنه إنما أراد بالإسماعيلية: إسماعيلية نجران خاصة.
والحقيقة أن مقطع الشيخ الأخير لم يدفع مواضع النقد عنه، بل زادها، فقد وقع في عدة أخطاء علمية وواقعية، بيانها باختصار على النحو التالي:
أولاً: أن إخراجه إسماعيلية نجران من جملة الإسماعيلية أمرٌ مخالف للصواب يأباه التحقيق العلمي والواقعي، وذلك أن الإسماعيلية فرقة لها أصول عقدية مبسوطة في كتب الفرق والعقائد، وهذه الأصول العقدية لا تختلف باختلاف الزمان أو المكان، فنسبة شخص أو طائفة إليهم تقتضي موافقته لأصول اعتقادهم، إذ لا يصح أن يُنسب شخص إلى فرقة عقدية حال كونه مخالفاً لأصولها العقدية التي تميزت واختصت بها، فلا يصح أن ينسب شخص إلى المعتزلة مثلاً أو ينتسب إليهم مع مخالفته لهم فيما تميزوا واختصوا به من الأصول العقدية، وعلى هذا، فنسبة الشيخ المغامسي لمن يعنيهم في نجران إلى الإسماعيلية، وانتسابهم أنفسهم إليها يقتضي موافقتهم لفرقة الإسماعيلية وانسحاب حكمها عليهم، فإن كان إسماعيلية نجران مخالفين لعقيدة فرقة الإسماعيلية غير موافقين لأصولهم الكفرية، لم يصح حينئذ أن ينسبهم الشيخ إليها، ولا أن ينتسبوا هم إليها، بل يُنسبون إلى ما يدينون به من العقائد؛ سنية كانت أو بدعية أو كفرية، فاتفاق الشيخ المغامسي معهم على انتسابهم إلى الإسماعيلية يوجب أن يُحكم عليهم بحكمها، ولا يمكن بحال إثبات النسبة وإلغاء حكمها.
ثانياً: أنه إن سلمنا بصحة ما ذكره الشيخ المغامسي عنهم من مخالفتهم لما عليه فرقة الإسماعيلية المعروفة، فإنه يتعين عليهم حينئذٍ أمران:
الأمر الأول: عدم الانتساب إلى الإسماعيلية، ورفض ذلك رفضاً قاطعاً.
الثاني: التبرؤ من عقائد الإسماعيلية وإعلان ذلك، وبيان ما هم عليه من الاعتقاد الصحيح، تحقيقاً لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا}، فلا بد لكل تائب من عقيدة فاسدة أو معتقدٍ كفري من البيان، ولقوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}، وقد أجمع العلماء على أن من عُرف بعقيدة كفرية فإن من تمام توبته أن يتبرأ منها، وأن يظهر من العقيدة الصحيحة مثل ما ظهر من العقيدة الباطلة الكفرية.
قال أبو حاتم محمد بن إدريس: (ذُكر لأبي عبد الله أحمد بن حنبل رجلٌ من أهل العلم، كانت له زلة، وأنه تاب من زلته، فقال: لا يقبل الله ذلك منه حتى يظهر التوبة والرجوع عن مقالته، وليُعلمن أنه قال مقالته كيت وكيت، وأنه تاب إلى الله تعالى من مقالته، ورجع عنه، فإذا ظهر ذلك منه حينئذ تقبل، ثم تلا أبو عبد اللّه {إلاَّ ا الَذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا}). [ذيل طبقات الحنابلة 1/53]
ثالثاً: أن استدلال الشيخ المغامسي بحديث: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته»، استدلال في غير موضعه، فإن الحديث إنما هو فيمن يُظهر الإسلام، ولا يظهر منه ما يناقضه، وهو كسائر الأحاديث العامة في وجوب الكف عمن نطق بالشهادتين والحكم عليه بالإسلام، كحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه حينما قتل المشرك بعدما قال لا إله إلا الله، وحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا ً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»، ونحو ذلك من الأحاديث.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن –رحمه الله-: (وقد أجمع العلماء على أن من قال: لا إله إلا الله، ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها، أنه يُقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي الإثبات.
قال أبو سليمان الخطابي -رحمه الله- في قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»: معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله ثم يُقاتلون ولا يرفع عنهم السيف.
وقال القاضي عياض –رحمه الله-: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره. انتهى ملخصاً). [فتح المجيد ص135]
أما من وقع في ناقض من نواقض الإسلام، فإن صلاته واستقباله للقبلة وتلفظه بالشهادتين غير مانع له من الكفر، كحال المنافقين.
قال كل من الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله تعالى: (وأما ما ذكرته من استدلال المخالف بقوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا» وأشباه هذه الأحاديث، فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنة، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فإن هذا فرضه ومحله في أهل الأهواء، من هذه الأمة، ومن لا تخرجه بدعته من الإسلام، كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون، لأن أصل الإيمان الثابت، لا يحكم بزواله إلا بحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله، والعمدة: استصحاب الأصل وجوداً وعدماً، لكنهم يبدعون ويضللون، ويجب هجرهم وتضليلهم، والتحذير عن مجالستهم ومجامعتهم، كما هو طريقة السلف في هذا الصنف. وأما الجهمية وعباد القبور، فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم، إلا من لم يعرف حقيقة الإسلام…). [الدرر السنية 10/431]
ومعلوم أن الإسماعيلية أشد كفراً من الجهمية وعباد القبور باتفاق المسلمين، لما انطووا عليه من المذهب الباطني الإلحادي، كما هو مبسوط في كتب الفرق والعقائد.
وهذا الحديث الذي استدل به الشيخ المغامسي تفسره نصوص الكتاب والسنّة، كقوله تعالى في حق المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة تبوك: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}، ومعلوم أنهم كانوا ينطقون بالشهادتين، ويصلون، ويستقبلون القبلة، ويؤمنون بالقرآن، وبالجنة والنار، ويجاهدون، ولم يكن ذلك كله مانعاً من تكفيرهم بنص القرآن لوقوعهم في ناقض من نواقضه.
ومما يفسره في أيضًا من السنّة حديث: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله».
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (إن من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله»، فلم يجعل مجرد التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ولا دمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ولا دمه). [كتاب التوحيد/ باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله الله]
وأما قول الشيخ المغامسي بأنه لم يُعرف في تاريخ الإسلام أن أحداً من هذه الفرق مُنع من حج البيت، فإن هذا لا يقتضي الحكم بإسلامهم قطعاً مع تحقق وقوعهم في النواقض، ولا يمكن للشيخ المغامسي أن يلتزم ذلك، فلا يمكن له أن يدعي: بأن القبوري الذي يستغيث بالأموات، والذي يعبد آل البيت والأولياء ويعتقد أنه لهم تصرفاً في الكون، ويصفهم بصفة الرب، إذا حج ولم يُمنع يكون مسلماً بمجرد ذلك.
والسبب في عدم منعهم من الحج هو عدم إظهارهم لعقائدهم الكفرية فيه، وإلا فلو أظهروا شعائر الكفر والشرك في الحج لوجب منعهم والإنكار عليهم، كما حصل من الدولة السعودية الأولى في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز حينما منعت قوافل الحجيج من مصر والشام بسبب اصطحابهم للمعازف وإصرارهم على ارتكاب المحرمات الظاهرة.
رابعاً: أن ما نقله الشيخ المغامسي عمن اجتمع بهم من إسماعيلية نجران بحسب ما ذكر في مقطعه الأخير، يخالف المعروف عنهم والمشهور من عقائدهم، ويكفي في ذلك مجرد انتسابهم للإسماعيلية وعدم تبرؤهم منها كما أشرنا إليه آنفاً، فضلاً عن تحقق موافقتهم للإسماعيلية واقعاً، وقد ذكر الأخ المكرم محمد بن عبد الله المكرمي حفيد شيخ الطائفة الإسماعيلية، وهو ممن منّ الله تعالى عليه بالهداية للتوحيد والسنّة، ما يؤكد موافقة إسماعيلية نجران لعقائد الإسماعيلية الباطنية الشركية، ونشر ذلك في حسابه في تويتر، كما أنني أعرف مجموعة كبيرة من إسماعيلية نجران ممن هداهم الله للتوحيد والإسلام يذكرون عنهم ما يوافق المعروف من عقائد الإسماعيلية الباطنية.
خامساً: أن كلام الشيخ المغامسي يقوي البدعة ويُضعف السنّة، ولذلك فرح به أهل الأهواء وطاروا به كل مطيّر كحسن بن فرحان المالكي وأمثاله، كما أنه ثبّت إسماعيلية نجران على عقائدهم، فإنه -عفا الله عنا وعنه- جمعهم مع أهل السنّة وجعلهم من جملة المسلمين، فسدّ بذلك عليهم باب التفكر فيما يدعوهم إليه أهل التوحيد والسنّة من التزام التوحيد وترك الشرك والضلالة.
وفي الختام فإنني أدعو فضيلة الشيخ صالح المغامسي إلى التأمل في كلامه، والرجوع عن خطأه، والتزام ما عليه العلماء، وعدم مخالفة ما تتابعوا عليه من الأحكام.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
15 رمضان 1438ه