الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
فإن الدعوةَ الإصلاحيةَ السلفيةَ التي قام بها الإمامُ محمدُ بنُ عبد الوهاب بمعاضدة الأميرِ محمدِ بن سعود -رحمهما الله- كان لها الأثرُ العظيمُ في تطهير عقائد المسلمين، وإحياءِ الدين وتجديدِه ونشرِ التوحيد والسنّة في الجزيرة العربية وخارجها، الأمر الذي أفرح أهلَ الحق، وأغاظ أهل الباطل.
وهي دعوةٌ جمعت بين أمرين لا يقوم الدين تمام القيام إلا بهما: كتابٌ هاد وسيفٌ ناصر.
قال ابن تيمية رحمه الله: (ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد، كتاب يهدى به، وحديد ينصره، كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}، فالكتاب به يقوم العلم والدين، والميزان به تقوم الحقوق في العقود المالية والقبوض، والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين). [الفتاوى الكبرى 5/115]
والحق لا بد له من أعداء، كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا}.
وقد كثر القيل والقال حول تاريخ الدعوة بالخصوص، والحديث عما هو مسطرٌّ ومدونٌ في تواريخ نجد ورسائلِ أئمة الدعوة ومجاميعهم على سبيل النقد والاتهام بالغلو التطرف والمجازفة في الأحكام والأفعال، وهي انتقاداتٌ ليست جديدة في نفس الأمر، بل لم يزل أعداءُ الدعوة يثيرونها ويتهمون الدعوة بها من فجر قيام هذه الدعوة المباركة: كدعوى الخروج، والغلو، والتطرف، وتكفير المسلمين، واستباحة الدماء، ونحو ذلك من الاتهامات الباطلة.
وقد تولى أئمة الدعوة أنفسهم الردّ عليها وكشف زيفها في حينه، وكتبهم مملوءة بنقضها، وبيان زيفها، وكشف عوارها.
والمتأمل في هذه الشبهات المثارة حول الدعوة يجدها أنواعاً:
منها: شبهات متعلقة بأصول الدعوة الإصلاحية؛ كأصل تجريد التوحيد لله، والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم بالخصوص.
ومنها: شبهاتٌ متعلقةٌ بالممارسات الواقعية للدعوة، وتنزيلِ الأحكام الشرعية على الوقائع والأحداث، كمسألة هدم البناء على القبور، وعقوبةِ المتخلفين عن الصلاة، والموقفِ من البدع والمحدثات عموماً.
ومنها: شبهاتٌ متعلقةٌ بموقف الدعوة من الخصوم، أفراداً وجماعات، قرى ودولاً وحكومات، والجدل حول ما اتخذته الدعوةُ تجاه هؤلاء الخصوم من العقوبات، وما أنزلته من أحكام وفق نوع الخصومة ودرجتها.
أما النوع الأول من الشبهات، وهي المتعلقةُ بأصول الدعوة، فقد تولى أئمةُ الدعوة والعلماءُ بعدهم الردَّ عليها، وأوضحوا حقيقةَ ما قامت عليه الدعوة من تجريد التوحيد والاتباع، وذلك في مؤلفاتٍ عديدةٍ متنوعة؛ منها التأصيلي التقعيدي، ككتاب التوحيد وما ماثله، ومنها أجوبة على الاعتراضات وردٌّ على الشبهات والإيرادات، وهي كتب مشهورة معلومة متداولة، ولإمام الدعوة نصيبٌ وافر من هذا الباب.
وأما النوع الثاني والثالث من الشبهات والإيرادات، فإن الجوابَ عليها، وكشف زيفها، ينبني على الإلمام بأمرين:
الأمر الأول: الإلمامُ بتاريخ الدعوة، ومعرفةُ حقيقة واقع الأحداث والمجريات التي جرت خلال تلك الفترة، وأخصُّ الفترةَ الأولى التي صاحبت نشأةَ الدعوةِ وقيامَ الدولة، وتصورُ ذلك الواقع تصوراً صحيحاً على ما هو عليه، لا على ما يتخيله ذهن القارئ في التاريخ، أو يقيسه على الواقع الذي يعيشه، أو يشتهيه بحسب ميوله وأهوائه.
الأمر الثاني: الإلمامُ بالأحكام الشرعية الصحيحة التي تناسب تلك الحوادث، وتنزيلها تنزيلاً صحيحاً، وهذا يتطلب قدرةً علميةً وتمكناً من الأصولِ والقواعد، ومعرفةً بالدلائل.
وعدم الإلمام بهذين الأمرين أو أحدِهما، هو منشأ كثيرٍ من الاعتراضات التي أوردت على الدعوةِ قديماً وحديثاً، لا سيما من بعض مناصري الدعوةِ ومحبيها، ممن وافق الدعوةَ في أصولِ دعوتها، فظهرت منهم بعضُ الانتقادات على الدعوة، والتبست بعضُ الأمور على بعضِ الأفاضل، لا معارضةً لأصول الدعوة، ولكن انتقاداً لبعض تصرفاتها العملية، أو على الأقل عدمُ الموافقةِ على بعض ما أنزلتهُ من أحكام في بعض الوقائع والأحداث.
فالجهلُ بواقع الدعوةِ، وعدمُ تصورِ الأحداث على حقيقتها والإلمام الصحيح بما هي عليه في نفس الأمر، يحمل بعضَ الناسِ على تخطئةِ الدعوة في بعضِ ما اتخذته من أحكام تجاه بعض خصومها، مع كونه من مناصري أصولها، فتراه يُخطِّئَُ بعضَ تلك الأحكام، فاتحاً الباب أمام المخالفين للدعوة في أصولها لتوظيف هذا النقد غير الصحيح في سعيهم لهدم أصول الدعوة وتشويه صورتها، وهذا قد يصدرُ أحياناً من بعض أهلِ العلم وطلبتِه، قديماً وحديثاً.
كما أن الجهلَ بالأصولِ الشرعيةِ، وضعفَ القدرةِ العلميةِ، وفقدَ المَكَنةِ الفقهيةِ قد يحملُ بعضهم أيضاً على لمزِ الدعوةِ بالمبالغةِ في إصدار الأحكام في بعضِ المواقفِ والأحداثِ، وهذا يصدرُ غالباً من المؤرخين والمعتنين بالتاريخ، فضلاً عن العوام.
وعلى هذا، فالمنتقدون في هذا البابِ أنواعٌ:
منهم: المؤرخُ والمعتني بالتاريخ، فهو ملمٌّ بتاريخِ الدعوة، ومتصورٌّ للوقائع والأحداثِ، لكن ليس عنده من العلم الشرعي، والقدرة، والمكنة الأصوليةِ الشرعية، ما يمكنه من تقييمِ الأحكامِ التي أُنزلت على تلك الوقائعِ والأحداث، فهذا غايتُهُ أن ينقلَ الأحداثَ ويُصوّرَ الوقائعَ، لكن ليس له أن ينتقدَ الأحكامَ التي أنزلها العلماءُ على تلك الوقائعِ لجهله بأصول تنزيل الأحكام على الوقائع، لا سيما الأحكام التي صدرت من علماء عاصروا تلك الأحداثِ، وعايشوها، فهم أعلمُ منه بحقيقةِ الواقعِ، فضلاً عن علمهم بالشرعِ وتقدُّمهم فيه، فخطأُ هذا النوع يكمنُ في تصورِ الحكمِ الشرعيِّ لا الواقع.
ومنهم: العالمُ أو طالبُ العلم، وهؤلاء صنفان:
منهم الملمُّ بالأحكامِ الشرعيةِ، الموافقُ لأصول منهج أهل السنّة والجماعة، وأصولِ الدعوةِ الإصلاحيةِ، وله معرفةٌ بالأصولِ والقواعد، وعنده تمكّنٌ من إنزالِ الأحكام، لكن ليس عنده تصورٌّ صحيحٌ لتلك الوقائعِ، وإن كان يعرفُ الأحداثَ على سبيل الإجمال، لكن لا يعرفها على حقيقةِ ما هي عليه، فتراه يُخطِّئُ بعض تلك الأحكامَ على اعتبار عدمِ موافقتها للواقعِ المناسبِ لها جهلاً منه بحقيقةِ الواقعِ وعدم تصوره تصوراً صحيحاً، وخطأُ هذا الصنف هو من جهة تصورِ الواقع لا الأحكام.
ومنهم العالمُ أو طالبُ العلم، الموافقُ لمنهج أهل السنة والجماعة في الإجمال، لكن ليس لديه معرفةٌ صحيحةٌ بمعتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان، ونواقضه، وبعضُ هؤلاء قد دخلت عليهم بعض مقالات المرجئةِ من حيث لا يشعرون، فترتب على ذلك تخطئةُ بعضِ أئمةِ الدعوةِ في بعض أحكامهم، ومكمن الخلل في هذا الصنف هو خطؤُهم أنفسهم، ومخالفتُهم لمعتقد أهل السنة والجماعة في بابِ الإيمانِ ونواقضهِ بالخصوص.
ومنهم من لم يتصورْ الواقعَ على حقيقته، وليس له قدرةٌ علميةٌ يتمكن بها من تنزيل الأحكام على الوقائع تنزيلاً صحيحاً، وهذا الصنف كثيرٌ وللأسف؛ من عوام الناس، وعوام طلبةِ العلم، أو من عموم الدعاة، ترى الواحد منهم يخوض في تاريخِ الدعوةِ، وينتقدُ بعضَ مواقفِها وأحكامِها جهلاً منه بتاريخ الدعوةِ، وبالأحكامِ الشرعيةِ، بل إن أكثر هؤلاء لم يقرأْ تاريخَ الدعوةِ إلا من خلالِ كتابات خصومِ الدعوة وأعدائها.
وأما المخالفون للدعوةِ في أصولِها، كالمخالفين لها في أصلِ تجريد التوحيد لله تعالى التي قامت عليه الدعوةُ، من أهل البدع من الصوفيةِ والأشاعرة، فضلاً عن الرافضة والقبورية وغيرهم، فهؤلاء لا فائدة في محاورتِهم حول الأحكامِ التي أنزلها أئمة الدعوة في بعضِ الوقائع، أو على بعض الأشخاصِ، أو القرى، بل هؤلاء يُحاورون في أصلِ الدعوة، وفي حقيقة التوحيدِ الذي جاءت به بالرسل، ودعا إليه الأنبياءُ قبل الخوضِ في التاريخ والوقائع والأحكام، فإن هؤلاء إذا كانوا منكرين لأصولِ التوحيدِ والعقيدةِ، فأيُّ فائدةٍ تُرجى من مناقشتهم حول ما ترتب على هذه الأصولِ من أحكام.
وللحديث بقية
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم