الحمد لله رب العالمين والصلاة السلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
فلقد استوقني مقالان نُشرا في جريدة الوطن الغراء في عددها رقم 11227/5673 بتاريخ 25/4/2007 أولهما للشيخ عبد الله نجيب سالم، والآخر للشيخ حمد سنان، رأيت فيهما من المؤاخذات ما لا يسع السكوت عنه، مما يوجب التعليق عليها نصحاً وبراً بالشيخين أولاً، ولئلا تلتبس الأمور على القراء، فيصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
ولعلي أن أبدأ بالتعليق على ما ذكره الشيخ عبد الله نجيب سالم هدانا الله وإياه إلى الحق، ثم أتبع بعد ذلك إن شاء الله مقالاً آخر في التعليق على ما ورد في كلام الشيخ حمد سنان من مؤاخذات، ونظراً لضيق المقام فسأختصر الكلام ما استطعت، وأوجز في الرد والتعليق من غير استيعاب لكل ما في المقال من مؤاخذات، إذ أن هذا يحتاج إلى كتاب مستقل، وسأجعل الرد عبر وقفات مهمة مع الشيخ عبد الله نجيب سالم:
الوقفة الأولى: فيما يتعلق بما نقله الشيخ عن الأئمة الأربعة من مدحٍ للصوفية والتصوف، وهو الأمر الذي أثار استغراب كل من له عناية بكتب السنة والآثار، إذ كان من المعلوم أن ظهور التصوف قد جوبه برد عنيف من السلف والأئمة ومنهم الأئمة الأربعة، لما عُرف عن المتصوفة من المخالفة لطريق السلف، والمبالغة في مقامات الدين والإيمان، الأمر الذي حدا بكثير من الأئمة لبيان الطريق الشرعي الصحيح للتعبد والزهد في مقابل ما ابتدعه الصوفية، فألفوا ما يُعرف بكتب الزهد المسندة بالآثار النبوية والسلفية، ككتاب «الزهد» لابن المبارك، ولوكيع، ولهناد بن السري، وللإمام أحمد، ولأبي داود ، ولابن أبي عاصم، ولغيرهم من العلماء والأئمة، كل ذلك رداً على ما ابتدعه الصوفية في هذا الباب.
ومن العيب حقاً، بل من الإخلال بالأمانة العلمية ترك ما صح واشتهر عن الأئمة الأربعة في هذا الباب، والاكتفاء بذكر ما لا سند له من الحكايات. ولعلي أن أسوق بعض ما اشتهر عن الأئمة في ذم الصوفية والذي يدل على نقيض ما قرره الشيخ عبد الله نجيب غفر الله له، وكم تمنينا أن يكون الشيخ منصفاً محققاً لما ينقله، كيف لا؟ وهو الباحث الشرعي في الموسوعة الفقهية، والذي يُفترض أن يكون خبيراً بطرق ثبوت الآثار والأقوال.
1- نقل ابن الجوزي كما في تلبيس إبليس (ص446) عن ابن عقيل ذمه للصوفية قائلاً: « ذمهم خلق من العلماء وعابوهم حتى عابهم مشائخهم.
وباسناد عن عبد الملك بن زياد النصيبي قال: كنا عند مالك فذكرت له صوفيين في بلادنا، فقلت له: يلبسون فواخر ثياب اليمن ويفعلون كذا. قال: ويحك! ومسلمين هم!».
2- وروى البيهقي باسناده عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: «لو أن رجلاً تصوف من أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق».
وبإسناده عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول:«ما رأيت صوفياً عاقلاً قط إلا مسلم الخواص».
وبإسناده أن الشافعي قال في وصف الصوفي: «لا يكون الصوفي صوفياً حتى يكون فيه أربع خصال: كسول أكول شؤوم كثير الفضول». [مناقب الشافعي للبيهقي 2/207]
وقال الشافعي: «أس التصوف الكسل». [حلية الأولياء 9/136].
ولما أظهر الصوفية ما يُسمى بالسماع وهو الإنشاد بضرب الأرجل والقضبان، سماهم الشافعي بالزنادقة. فقد قال الحافظ ابن رجب كما في نزهة الأسماع (ص71): «وصح عن الشافعي من رواية الحسن بن عبد العزيز الجروي ويونس بن عبد الأعلي أنه قال: تركت بالعراق شيئاً يُسمونه «التغبير» وضعته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن».
وقال الحافظ ابن رجب كما في المصدر السابق معرِّفاً «التغبير» وأنه من صنع الصوفية: «والحدث الثاني: سماع القصائد الرقيقة المتضمنة للزهد والتخويف والتشويق، فكان كثير من أهل السلوك والعبادة يستمعون ذلك، وربما أنشدوها بنوع من الألحان استجلاباً لترقيق القلوب بها، ثم صار منهم من يضرب مع إنشادها على جلد ونحوه بقضيب ونحوه وكانوا يسمون ذلك التغبير».
3- وأما الإمام أحمد فكلامه في هذا الباب كثير جداً. فقد اشتهر عنه التحذير من الحارث المحاسبي الذي كان رأساً في المتصوفة آنذاك، وأمره بهجرانه لما عُرف عنه من التصوف والخوض في مقاماتهم، ولاتباعه أيضاً لطريق ابن كلّاب فيما أحدثه من القول الباطل في صفات الله تعالى.
فقد قال الخلال: أخبرنا المروذي: أن أبا عبد الله ذكر حارثاً المحاسبي فقال: «حارث أصل البلية، -يعني حوادث كلام جهم-، ما الآفة إلا حارث، عامة من صحبه انهتك إلا ابن العلاف فإنه مات مستوراً. حذروا عن حارث أشد التحذير.
قلت: إن قوماً يختلفون إليه؟ قال: نتقدم إليهم لعلهم لا يعرفون بدعته، فإن قبلوا وإلا هُجروا. ليس للحارث توبة، يُشهد عليه ويَجْحَد، إنما التوبة لمن اعترف) اهـ.[رواه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/62-63)].
وقال علي بن أبي خالد: «قلت لأحمد: إن هذا الشيخ -لشيخٍ حضر معنا- هو جاري، وقد نهيته عن رجل، ويحب أن يسمع قولك فيه: حارث القصير -يعني حارثاً المحاسبي- كنت رأيتني معه منذ سنين كثيرة، فقلت لي: لا تجالسه، ولا تكلمه، فلم أكلمه حتى الساعة. وهذا الشيخ يجالسه، فما تقول فيه؟ فرأيت أحمد قد احمر لونه، وانتفخت أوداجه وعيناه، وما رأيته هكذا قط، ثم جعل ينتفض ويقول: ذاك فعل الله به وفعل، ليس يَعرِف ذاك إلا من خبره وعرفه، أوّيه، أوّيه، أوّيه. ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره وعرفه. ذاك جالسه المغازلي ويعقوب وفلان فأخرجهم إلى رأي جهم. هلكوا بسببه.
فقال له الشيخ: يا أبا عبد الله يروى الحديث ساكن خاشع، من قصته ومن قصته؟ فغضب أبو عبد الله وجعل يقول: لا يغرك خشوعه ولينه، ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه، فإنه رجل سوء، ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره. لا تكلمه ولا كرامة له. كل من حدث بأحاديث رسول الله r وكان مبتدعاً تجلس إليه؟ لا، ولا كرامة، ولا نُعمى عين، وجعل يقول: ذاك. ذاك» اهـ. [رواه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/233-234)].
وقال ابن الجوزي: « وروينا عن أحمد بن حنبل أنه سمع كلام الحارث المحاسبي فقال لصاحب له: لا أرى لك أن تجالسهم.
وعن سعيد بن عمرو البردعي قال: شهدت أبا زرعة وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه، فقال للسائل: إياك وهذه الكتب، هذه الكتب كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. قيل له: في هذه الكتب عبرة. قال: من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمة صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء، هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم، يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحيم الدبيلي، ومرة بحاتم الأصم، ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع».[تلبيس إبليس ص206].
فهذه بعض نصوص الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد في ذم الصوفية وأئمتهم، وأما أبو حنيفة فلم يكن للصوفية ظهور في عهده. واكتفيت بالأئمة الأربعة ولغيرهم من الأئمة كلام كثير في ذم الصوفية والمتصوفة لا يسع المجال لنقله.
فوازن أخي القارئ بين هذه النقول المسندة عن الأئمة ، وبين ما نقله الشيخ عبد الله نجيب سالم مما لا يُعرف لها إسناد:
فأما ما نقله عن أبي حنيفة فجزافٌ من الكلام وادعاء بلا برهان.
وأما ما ذكره عن الإمام مالك نقلاً عن ملا علي القاري، فإن ملا علي القاري لم يذكر له إسناداً ولم يعزه لمن أسنده، كعادته في نقل كثير من الأقوال.
وأما ما ذكره عن الإمام أحمد نقلاً عن السفاريني، فإن السفاريني قد أخذه عن ابن مفلح. وقد ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/323) ثم قال معقباً عليه: «كذا روى هذه الرواية والمعروف خلاف هذا عنه».
وذكر الحكاية في الفروع أيضاً ثم قال: « وَلَعَلَّ مُرَادَهُ –أي أحمد- سَمَاعُ الْقُرْآنِ ، …..، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيِّ وَقَدْ سَمِعَ عِنْدَهُ كَلَامَ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَرَأَى أَصْحَابَهُ: مَا أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْت مِثْلَهُمْ، وَلَا سَمِعْت فِي عِلْمِ الْحَقَائِقِ مِثْلَ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَا أَرَى لَك صُحْبَتَهُمْ. وَقَدْ نَهَى عَنْ كِتَابَةِ كَلَامِ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ وَالِاسْتِمَاعِ لِلْقَاصِّ بِهِ».
ومما يؤكد نكارة هذا الرواية عن الإمام أحمد جهالة راويها وهو: إبراهيم بن عبد الله القلانسي، فإنه لا يُعرف، ولم أعثر له على ترجمة، فهلا أفادنا الشيخ عبد الله نجيب سالم عن ترجمة هذا الراوي؟.
وأما ما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم مما يزعم أن فيه تأييداً للصوفية فأمرٌ لا ينقضي منه العجب، إذ أن من المعلوم لكل من له أدنى اطلاع على كتبهما كثرة كلام هذين الإمامين في الرد على ما ابتدعه الصوفية، وحسبك كتاب «الاستقامة» لشيخ الإسلام ابن تيمية، فضلاً عما جمعه الشيخ ابن قاسم في الجزئين: الأول والحادي عشر من مجموع الفتاوى، وأما ابن القيم فيكفي الاطلاع على كتابه «مدارج السالكين» والذي انتقد فيه كثيراً مما أحدثه المتصوفة في الدين ومقاماته. وكذلك كتاب «إغاثة اللهفان» حيث ذكر مكائد الشيطان بالمتصوفة.
ومما أثار استغرابي حقيقةً، ما نقله الشيخ من كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب ثم حرّف معناه ليوافق مطلوبه.
فقد نقل عنه قوله: «اعلم أرشدك الله أن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً r بالهدى الذي هو العلم النافع، ودين الحق الذي هو العمل الصالح. فإذا كان من ينتسب إلى الدين: منهم من يتعاطى بالعلم والفقه ويقول به كالفقهاء، ومنهم من يتعاطى العبادة وطلب الآخرة كالصوفية، فبعث الله نبيه بهذا الدين الجامع للنوعين».
ثم علق الشيخ نجيب بقوله: «أي الفقه والتصوف». وهذا تحريف لمراد الشيخ ابن عبد الوهاب، وليٌّ لكلامه، إذ أن مراده بـالنوعين كما هو ظاهرٌ من كلامه: العلم والعمل، فإنه ذكر أن النبي r أتى بهما ثم ذكر طائفتين كل منهما اشتغلت بأحد النوعين دون الآخر.
ولا أدري: كيف يجتمع مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب للصوفية، مع دكِّه لعروشهم، وكشفه لمخازيهم، ورده على شبهاتهم، حتى نصبوا له العداوة، ووسموا أصحابه بالوهابية. ومعلوم لكل باحث: المخالفة الشديدة بين أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبين الصوفية، فأدنى اطلاع على كتبه بدءاً من «كتاب التوحيد»، وانتهاءاً بكتاب «كشف الشبهات». يُظهر شدة المباينة بين دعوة الشيخ وبين الصوفية. وقد صدق القائل إذ يقول: «الجنون فنون».
الوقفة الثانية: لقد أحالنا الشيخ عبد الله نجيب هداه الله للحق إلى كتب الصوفية والمراجع الأصلية لهم، والتي يمكن من خلالها معرفة هذا التصوف الإسلامي الذي يدعو إليه الشيخ، وأنا سأنقل باختصار شديد بعض ما في هذه الكتب وأترك للقارئ الكريم الاطلاع على حقيقة ما يدعو إليه الشيخ:
1- «إحياء علوم الدين»
قال أبو حامد الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» وهو الكتاب الذي وصفه الشيخ عبد الله نجيب بقوله «إحياء علوم الدين لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي الطوسي، وهو كتاب ضخم من أنفس كتب الإسلام وأغزرها معاني وتحليلات وفوائد وتوجيهات»، فلننظر معاً هذه التوجيهات العظيمة التي يرشدنا الشيخ إليها:
قال الغزالي (4/356): « وحُكي أن أبا تراب التخشبي كان معجباً ببعض المريدين، فكان يدنيه ويقوم بمصالحه، والمريد مشغول بعبادته ومواجدته، فقال له أبو تراب يوماً: لو رأيت أبا يزيد؟ فقال: إني عنه مشغول، فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله: لو رأيت أبا يزيد، هاج وَجْدُ المريد فقال: ويحك ما أصنع بأبي يزيد، قد رأيت الله تعالى فأغناني عن أبي يزيد؟ قال أبو تراب: فهاج طبعي ولم أملك نفسي، فقلت: ويلك تغتر بالله عز وجل! لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة!». بلا تعليق!!!.
وقال (4/358): « ولقد انتهى المريدون لولاية الله تعالى في طلب شروطها بإذلال النفس إلى منتهى الضعة والخسة، حتى رُوي أن ابن الكريبي وهو أستاذ الجنيد دعاه رجل إلى طعام ثلاث مرات، ثم كان يرده ثم يستدعيه فيرجع إليه بعد ذلك حتى أدخله في المرة الرابعة، فسأله عن ذلك، فقال: قد رضيت نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد ثم يُدعى فيرمى له عظم فيعود، ولو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت. وعنه أنه قال: نزلت في محلة فعُرِفت فيها بالصلاح، فتشتت عليّ قلبي، فدخلت الحمام وعدلت إلى ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي فوقها وخرجت، وجعلت أمشي قليلاً قليلاً، فلحقوني فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني وأوجعوني ضرباً، فصرت بعد ذلك أُعرف بلص الحمام فسكنت نفسي.» فنعما هي من طريقة لترويض النفس!!!
ويبين الغزالي أيضاً الطريقة المثلى لقطع نظر النفس إلى الخلق فيقول: « حُكي أن شاهداً عظيم القدر من أعيان أهل بسطام كان لا يفارق مجلس أبي يزيد، فقال له يوماً: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر لا أفطر وأقوم الليل لا أنام ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئاً وأنا أصدق به وأحبه، فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلثمائة سنة وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة! قال: ولم؟ قال: لأنك محجوب بنفسك، قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم، قال: قل لي حتى أعمله، قال: لا تقبله، قال: فاذكره لي حتى أعمل، قال: اذهب الساعة إلى المزيّن –أي الحلاق- فاحلق رأسك ولحيتك –تأمل!!- وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك وقل: كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل السوق وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك، فقال الرجل: سبحان الله! تقول لي مثل هذا! فقال أبو زيد: قولك «سبحان الله» شرك، قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمتك نفسك فسبحتها وما سبحت ربك! فقال: هذا لا أفعله ولكن دلني على غيره! فقال: ابتدئ بهذا قبل كل شيء. فقال: لا أطيقه، قال: قد قلت لك إنك لا تقبل؟. فهذا الذي ذكره أبو يزيد هو دواء من اعتل بنظره إلى نفسه ومرض بنظر الناس إليه، ولا ينجي من هذا المرض دواء سوى هذا وأمثاله !!!».
وأختم النقل عن الغزالي بما قاله عنه أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي الفقيه المالكي الشهير في رسالة له إلى ابن مظفر: « فأما ما ذكرت من أبي حامد، فقد رأيته، وكلمته، فرأيته جليلاً من أهل العلم، واجتمع فيه العقل والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريق العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تصوف، وهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل « الإحياء»، عمد يتكلم في علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات.» [سير أعلام النبلاء 19/339]
وقد انتقد كتابه «الإحياء» كثير من العلماء منهم الحافظ ابن الجوزي وابن الصلاح وابن رشد، وكان أهل المغرب يعاقبون من وجدوا الكتاب عنده، ويجمعون نسخه ثم يحرقونها.
2- «قوت القلوب لأبي طالب المكي»
قال أبو طالب (1/103) وهو يتكلم عن أحد أولياء الصوفية ويخبر كيف طوّفه الله في الملكوت واطلع على ما لم يطلع عليه نبي مرسل: « ثم سجد عند السحر ثم قعد فقال: اللّهم، إن قوماً طلبوك فأعطيتهم طيّ الأرض فرضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، وإن قوماً طلبوك فأعطيتهم المشي على الماء والهوى فرضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، وإنّ قوماً طلبوك فأعطيتهم كنوز الأرض فانقلبت لهم الأعيان فرضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، حتى عد نيفاً وعشرين مقاماً من كرامات الأولياء، قال: ثم التفت فرآني، فقال يحيى: قلت نعم يا سيدي، قال: منذ متى أنت ههنا؟ قلت: من صلاة العشاء، فسكت فقلت: يا سيدي، حدثني بشيء فقال: أخبرك بما يصلح لك، أدْخَلَني –أي الله تعالى- في الفلك الأسفل فدوّرني في الملكوت السفلي، فأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي فطوّف بي في السموات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش، ثم أوقفني بين يديه فقال لي: سلني أي شيء رأيت حتى أهبه لك، فقلت: يا سيدي، ما رأيت شيئاً استحسنته فأسألك إياه، فقال: أنت عبدي حقّاً، تعبدني لأجلي صدقاً لأفعلن بك ذكر أشياء». فهذا عبد طاف بالملكوت ولم يُعجبه شيء حتى العرش الذي هو أعظم خلق الله!!
ويقول أبو طالب المكي مفترياً على رسول الله r حديثين (4/150): «وقد أبيحت العزبة وفضل التعزب لهذه الأمة في آخر الزمان، «بعد المائتين أبيحت العزبة لأمتي»، «لأن يربي أحدكم جرو كلب خيرٌ من أن يربي ولدًا»». وهل هذه إلا الرهبانية بترك التزوج!!
وأختم بما قاله ابن الجوزي عن هذا الكتاب كما في «تلبيس إبليس» (ص204): «وصنف لهم أبو طالب المكي «قوت القلوب» فذكر فيه الأحاديث الباطلة وما لا يستند فيه إلى أصل: من صلوات الأيام والليالي وغير ذلك من الموضوع، وذكر فيه الاعتقاد الفاسد، وردد فيه قول قال بعض المكاشفين وهذا كلام فارغ وذكر فيه عن بعض الصوفية إن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه».
3- الرسالة للقشيري
يقول القشيري (ص9) وهو يتحدث عن كرامات «معروف الكرخي» ويذكر عنه أنه قال لتلميذه السري السقطي: «إذا كانت لك حاجة إلى الله فاقسم عليه بي».
ويقول القشيري (ص151): «من صحب شيخاً من الشيوخ، ثم اعترض عليه بقلبه، فقد نقض عهد الصحبة، ووجبت عليه التوبة!! على أن الشيوخ قالوا: حقوق الأستاذين لا توبة منها». وهذه هي تربية الصوفية، وهي ترك الاعتراض على الشيخ ولو فعل ما فعل.
ويخبر أيضاً عن إبراهيم بن أدهم أنه رأى داود عليه السلام والخضر فيقول (ص8): «وأنه رأى في البادية رجلاً علَّمه اسم الله الأعظم فدعا به بعده، فرأى الخضر عليه السلام، وقال له: إنما علَّمك أخي داود اسم الله الأعظم. أخبرنا بذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي».
وأختم بما قاله ابن الجوزي عن هذه الرسالة القشيرية كما في «تلبيس إبليس» (ص204): «وصنف لهم عبد الكريم بن هوزان القشيري كتاب الرسالة فذكر فيها العجائب من الكلام في الفناء والبقاء والقبض والبسط والوقت والحال والوجد والوجود والجمع والتفرقة والصحو والسكر والذوق والشرب والمحو والإثبات والتجلي والمحاضرة والمكاشفة واللوائح والطوالع واللوامع والتكوين والتمكين والشريعة والحقيقة إلى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء وتفسيره أعجب منه«
4- «تربيتنا الروحية» لسعيد حوى
قال (ص 218): « وقد حدثني مرة نصراني عن حادثة وقعت له شخصياً وهي حادثة مشهورة معلومة جمعني الله بصاحبها بعد أن بلغتني الحادثة من غيره، وحدثني كيف أنه حضر حلقة ذكر فضربه أحدالذاكرين بالشيش في ظهره حتى خرج الشيش، وحتى قبض عليه ثم سحب الشيش منه ولم يكنلذلك أثر ولا ضرر، إن هذا الشئ الذي يجري في طبقات أبناء الطريقة الرفاعية هو منأعظم فضل الله على هذه الأمة إذ أن من رأى ذلك تقوم عليه الحجة بشكل واضح علىمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء». !!!
هكذا يرى سعيد حوى أن الطريقة الرفاعية من أعظم منن الله تعالى على هذه الأمة، وأن الضرب بالسيوف والسكاكين وهذه الأعمال الشيطانية علامة على الولاية والكرامة، فنعمّا هي من كرامة!!!
هذا أيها الأخوة غيض من فيض وقطرة من بحر، ولو استوعبت جميع ما في هذه الكتب من الانحرافات والهفوات لبلغ مجلدات، وفيما ذُكر إشارة للبيب.
وأختم هذه الوقفة بأن أقول للشيخ: أما كان الأجدر بك أيها الشيخ أن توصي الناس بكتب السنة والآثار، والتي فيها من مقامات الدين والإيمان ما خرج من مشكاة النبوة المعصومة لا من أفواه المخرّفين؟.
الوقفة الثالثة: حاول الشيخ التنصّل من انحرافات الصوفية بكلام مختصر جداً تحت عنوان «الانحراف الدخيل على التصوف» وتبرأ مما يزعم دخوله في التصوف وليس منه، مع أنه لم يبيّن لنا ما هي هذه الأشياء الدخيلة على التصوف، إذ أنه لم يذكر ولو نوعاً واحداًَ منها. وهذا فيه تلبيس على القارئ، وإيجاد خط رجعة لنفسه في حال ما أورد عليه كثير من الأشياء التي يزاولها الصوفية، والتي لا شغل لهم اليوم إلا هي، كالبناء على القبور، وتعظيمها بإيقاد الأنوار والطواف بها، والذبح لأربابها والنذر لهم، والهتاف بأسمائهم، وسؤالهم كشف الكربات وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات ونحو ذلك من ألوان الشرك بالله تعالى، فضلاً عن الرقص والغناء والضرب بالسكاكين والسيوف، ونحو ذلك من الأعمال الشيطانية. وأما الاعتقادات في الأئمة فذاك بحرٌ لا ساحل له.
وحتى لا نكون ظالمين للشيخ ومتقوّلين عليه ما لم يقله، فإني أطالب الشيخ أن يحدد لنا الأعمال الدخيلة على التصوف، والمعتقدات الباطلة المحدثة فيه، وأن يبيّن حكمه في الطرق المنتشرة بين المسلمين: كالطريقة الرفاعية، والشاذلية، والدسوقية، والتيجانية والنقشبندية، وغيرها، وهل هي خارجة عن التصوف الصحيح أم لا؟ كما أودّ من الشيخ أن يبين رأيه في كتب كثيرة من كتب الصوفية: كطبقات الشعراني، والإبريز للدباغ، وفصوص الحكم لابن عربي، وجواهر المعاني لابن حرازم ونحوها من الكتب.
وكم نتمنى من الشيخ أن يكون واضحاً صريحاً شجاعاً في إظهار ما يعتقده بحيث لا يخاف في الله لومة لائم، فإننا قد سئمنا كثيراً مما يمارسه الكثيرون من التقيّة والاستخفاء. وظنّنا بالشيخ إن شاء الله أنه سيكون على قدر عظيم من الصراحة والشجاعة.
علماً أني قد سبق وأن رددت على بعض المؤاخذات على بعض الرسائل التي أشرف عليها الشيخ عبد الله نجيب سالم والتي كانت تحت عنوان «رسائل الثلاثاء العلمية» وذلك عبر حلقتين في جريدة الوطن بتاريخ 23/6/2006، و 30/6/2006.
الوقفة الرابعة: أننا نقول للشيخ: لا يخلو حال التصوف من أمرين: إما أن يكون حادثاً بعد النبي r وأصحابه أو لا، فإن كان حادثاً فهو بهذا بدعة محدثة لكونه عملاً ليس عليه النبي r وأصحابه، وإن كان موجوداً في عهده r وعهد أصحابه فهم بهذا القول أوّل الصوفية، فإن أبى الشيخ ذلك واستقبحه، وزعم أن تعاليم التصوف قد جاءت بها الشريعة ورغّبت فيها بغير اسم التصوف، فنقول: هلاّ تركنا اسم التصوف إذاً وتسمّينا بالإسلام والسنة بدلاً من هذا الاسم الذي يثير الشقاق والخلاف.
قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص204): «فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد، ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد، وقد ذمّوا التصوف على ما سيأتي ذكره».
هذه بعض المؤاخذات على كلام الشيخ هدانا الله وإياه إلى الحق، ذكرتها بإيجاز، وهي تنبئ عما وراءها. وأنا أنصح بقراءة كتاب «تلبيس إبليس» لابن الجوزي فإنه من أنفس ما كُتب عن حقيقة الصوفية، وكذلك كتاب «الاعتصام» للشاطبي.
والله أسأل أن يهدينا والشيخ وجميع المسلمين إلى الحق، وأن يجعلنا من أنصاره والقائمين به. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.