إن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية قد جاءت في وقت اشتدت فيه غربة الإسلام، وانطمست فيه كثير من معالم الرسالة، لا سيما في نجد وما جاورها، على نحو تتابع العلماء والمصلحون والمؤرخون على ذكر هذه الغربة، وكثرت النداءات والدعوات الداعية لإصلاح الأحوال، واستنهاض همم أهل العلم والعزم.
قال ابن غنام في وصف الحالة الدينية لنجد قبل ظهور الدعوة:
(كان غالب الناس في زمانه متضمخين بالأرجاس، متلطخين بوضر الأنجاس، حتى قد انهمكوا في الشرك بعد حلول السنّة المطهرة بالأرماس، وإطفاء نور الهدى بالانطماس بذهاب ذوي البصائر والبصيرة، والألباب المضيئة المنيرة، وغلبة الجهل والجهال، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال…
فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين وخلعوا ربقة التوحيد والدين، فجدّوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث والخطوب المعضلة الكوارث، وأقبلوا عليهم في طلب الحاجات وتفريج الشدائد والكربات من الإحياء منهم والأموات، وكثير يعتقد النفع والأضرار في الجمادات كالأحجار والأشجار، وينتابون ذلك في أغلب الأزمان والأوقات، ولم يكن لهم إلى غيرها إقبال ولا التفات، فهم على تلك الأوثان عاكفون، ولها في كثير الأحايين ملازمون…
وقد نص عليه كثير من العلماء الأعلام في كتبهم المصنفة فيما حدث من البدع من الأنام، وما غيروا من منار الدين والإسلام…
وكان أكثر الناس على دعوة الأنبياء والصالحين الأحياء منهم والميتين، مجدين مجتهدين، وبالاعتقاد المحض فيهم مفتونين…
وكان في بلدان نجد من ذلك أمرٌ عظيم، والكل على تلك الأحوال مقيم، وفي ذلك الوادي مُسيم…
وكان ذلك في الجبيلة مشهوراً وبقضاء الحوائج مذكوراً، وكذلك قريوه في الدرعية يزعمون أن فيها قبوراً، أصبح فيها بعض الصحابة مقبوراً، فصار حظهم في عبادتها موفورا، فهم في سائر الأحوال عليها يعكفون، {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}، وكان أهل تلك التربة أعظم في صدورهم من الله خوفاً ورهبة، وأفخم عندهم رجاء ورغبة، فلذلك كانوا في طلب الحاجات بهم يبتدؤون، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}، وفي شعب غبيرا يفعل من الهجر والمنكر ما لا يعهد مثله ولا يتصور، ويزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب محض وبهتان مزور مثّله لهم إبليس وصوّر، ولم يكونوا به يشعرون، وفي بليدة الفدا ذكر النخل المعروف بالفحَّال، يأتونه النساء والرجال ويفيدون عليه بالبكر والأصال، ويفعلون عنده أقبح الفعال، ويتبرّكون به ويعتقدون، وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن الزواج، ولم تأتها لنكاحها الأزواج، فتضمه بيديها بحضور ورجاء الانفراج، وتقول: يا فحل الفحول أريد زوجاً قبل أن يحول الحول، هكذا صحّ عنهم القول، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وشجرة الطرفية تشبث بها الشيطان واعتلق، فكان ينتابها للتبرك طوائف وفرق، ويعقلون فيها إذا ولدت المرأة ذكرن الخرق، لعلهم عن الموت يسلمون، وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن الله تعالى فلقه في الجبل لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير، وكان تعالى لها من ذلك السوء وجير، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون، {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}…
وكذلك ما يفعل الآن في الحرم المكي الشريف زاده الله تعالى رفعة وتشريفاً فهو يزيد على غيره وينيف…
فمن ذلك ما يفعل عند قبر المحجوب، وقبة أبي طالب، وهم يعلمون أنه شريف حاكم متعد غالب، كان يخرج إلى بلدان نجد ويضع عليهم من المال خراج ومطالب، فإن أعطى ما أراد انصرف وإلاّ أصبح لهم معادياً ومحارب، وكذلك عند قبر المحجوب، يطلبونه الشفاعة لغفران الذنوب؛ لأنه عندهم المقرب المحبوب، فلهذا كانوا من شره يحذرون، وإن دخل متعد أو سارق أو غاصب مال قبر أحدهما لم يتعرض له أحد من الرجال، ولا يخشى معاقبة ولا نكال ولا يتوصل إليه بما يكره ولا ينال…
ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها بسرف، وعند قبر خديجة رضي الله عنها في المعلى، مما لا يسوغ…)([1]).
ثم ذكر ابن غنام ما يُفعل عند قبر ابن عباس t في الطائف، وما يُفعل في المدينة عند قبره صلى الله عليه وسلم، وما يُفعل عند قبر حمزة وفي البقيع، وما يُفعل في جدّة عند قبر حوّى المزعوم، وقبر العلوي، وما يُفعل في بلدان مصر، وفي اليمن: البُرع، والهجرية، والشحر وحضرموت ويافع وعدن وبلدان الساحل والحديدة واللُّحيّة ونجران، وما يُفعل في حلب ودمشق والموصل وبلاد الأكراد، وما يُفعل في النجف وكربلاء والبصرة والزبير، وما يُفعل في القطيف والبحرين.
وقال ابن بشر في وصف الحالة العلمية والدينية في نجد قبل وقت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب: (وكان الشرك إذ ذاك قد فشا في نجد وغيرها، وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر لها، والاستعاذة بالجن والنذر لهم، ووضع الطعام وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم، والحلف بغير الله وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر)([2]).
ولم ينفرد هذان المؤرخان بهذا الوصف للحالة العلمية والدينية في نجد وما جاورها في فترة الدعوة وما قبلها، بل وافقهما كل من عاش تلك الحقبة من العلماء، وعاين ما عليه العامة والدهماء، ووقف على ما عم وذاع في القرى والأمصار من البدع والضلالات والشركيات والجهالات.
فها هو الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت 1182هـ)، يقول في مقدمة رسالته «تطهير الاعتقاد» متحدثاً عن تلك الفترة من التاريخ: (فهذا «تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد» وجب عليّ تأليفه، وتعيّن عليَّ ترصيفه؛ لما رأيته وعلمته من اتّخاذ العباد الأنداد، في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن، والشام، ومصر، ونجد، وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدّعي العلم بالمغيبات والمكاشفات)([3]).
ومثله وأبلغ منه ما ذكره حسين بن مهدي النُّعمي اليماني (ت 1187هـ) في كلام طويل يصف به حال ما عليه أكثر الناس من الشرك والتعلّق بالموتى فيقول: (إن ما فشا في العامة ومن امتاز عنهم بالاسم فقط هو كون هجيراهم عند الأموات ومصارع الرفات: دعاءهم، والاستغاثة بهم، والعكوف حول أجداثهم، ورفع الأصوات بالخوار، وإظهار الفاقة والاضطرار، واللجأ في ظلمات البحر والتطام أمواجه الكبار، والسفر نحوها بالأزواج والأطفال… وشواهد هذا ظاهرة في حالاتهم تلك، بحيث إن جماهير من العامة لا يحصون في أقاليم واسعة وأقطار متباعدة ونواحي متباينة، لما كانوا قد نشأوا لا يعرفون إلا ما وجدوا عليه من قبلهم من الآباء والشيوخ من هذه العقائد الوثنية والمفاسد، فتجدهم إذا شكى أحدهم على الآخر نازلة نزلت؛ فلعله لا يخطر له في بال؛ إلا: هل قد ذهبت إلى الولي؟..)([4]).
وقال علامة الشام محمد بن أحمد السفاريني (ت 1188 هـ): ( فما بالك بعصرنا هذا الذي نحن فيه ، وقد انطمست معالم الدين ، وطفئت إلا من بقايا حفظة الدين، وحاكمهم متماد في غفلاته، وأميرهم لا حلم لديه ولا دين، وغنيهم لا رأفة عنده ولا رحمة للمساكين، وفقيرهم متكبر، وغنيهم متجبر… فلو رأيت جموع صوفية زماننا وقد أوقدوا النيران، وأحضروا آلات المعازف بالدفوف المجلجلة، والطبول والنايات والشباب، وقاموا على أقدامهم يرقصون ويتمايلون، لقضيت بأنهم فرقة من بقية أصحاب السامري وهم على عبادة عجلهم يعكفون؛ أو حضرت مجمعاً وقد حضره العلماء بعمائمهم الكبار والفراء المثمنة، والهيئات المستحسنة، وقدموا قصاب الدخان التي هي لجامات الشيطان، وقد ابتدر ذو نغمة ينشد من الأشعار المهيجة، فوصف الخدود والنهود والقدود، وقد أرخى القوم رءوسهم ونكسوها، واستمعوا للنغمة واستأنسوها، لقلت وهم لذلك مطرقون: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكل هذا بالنسبة لطائفة زعمت العرفان يهون، فإنهم مع انكبابهم على الشهوات، وارتكابهم المعاصي وانتحالهم الشبهات، يزعمون الاتحاد والحلول، ويزعمون أنهم الطائفة الناجية، وأنهم هم الأئمة والفحول)([5]).
وقال في موضع آخر: (ولم يبق من آثار هذا البيان إلا حكايات تتزين بها الطروس، ككان وكان، والعلم قد أفلت شموسه، وتقوضت محافله ودروسه، وربعه المأهول أمسى خالياً، وواديه المأنوس أضحى موحشا داوياً، وغصنه الرطيب غدا ذاوياً، وبرده القشيب صار بالياً، فالعالم الآن قلت مضاربه، وضاقت مطالبه، وعالت معاطبه، وسددت مذاهبه، فليس له في هذا الزمان ومنذ أزمان إلا الالتجاء إلى عالم السر والإعلان… فلا جرم ذهبت الراحة والسرور، والبهجة والحبور، مع الرعيل الأول والسرب الذي عليه المعول، ولم يبق لأبناء هذا العصر إلا الشدة والحصر، والندم والتأسف، والتأوه والتلهف، والاشتغال بالقيل والقال، وإضاعة العمر في اللهو والمحال، وإذا كان الزمان قد فسدت ملوكه، وتهتك صعلوكه، وضل عالمه، وجار حاكمه، وبخل مياسيره، وانكمش مشاهيره، ولم يبق من الكرم إلا اسمه، ومن العلم إلا رسمه، ومن العدل إلا ذكره، ومن البذل إلا حكره، ومن المساواة إلا حكاياتها، ومن المؤاخاة إلا نكاتها، وكلح في وجوه أهل العلم وعبس، وأعرض عن إنصافهم ونكس، ومال لأهل المال، وذهب مع أهل الذهب والحال، فلا لوم على العالم إن خمدت ناره، وانطمست آثاره، وخفيت شارته، وبردت شرارته، وصار بعد أن كان متبوعاً تابعاً، وصار حلس بيته واقعاً، وذوى غصن عزمه بعد أن كان يانعاً، وفل فِرِند حزمه بعد كونه قاطعاً)([6]).
وقال محمد بن علي الشوكاني اليماني (ت 1250هـ): ( وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام ، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام ، وعظم ذلك ، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر ، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج ، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم ، وشدوا إليها الرحال ، وتمسحوا بها واستغاثوا ، وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ، ويغار حمية للدين الحنيف ، لا عالما ولا متعلما ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا ، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرا ، فإذا قيل له بعد ذلك : احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى ، واعترف بالحق ، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال : إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة )([7]).
على أن هذه الحالة من الجهالة وذيوع الضلالة وانتشار مظاهر الشرك والعماية لم تكن خاصة بتلك الفترة التي عاش فيها الإمام محمد بن عبد الوهاب، بل سبقت عهده بقرون، وقد كثرت كتابات العلماء في وصف ما عليه كثير من الناس في عامة البلدان حواضرها وبواديها من البعد عن تعاليم الرسالة المحمدية والجهل بتوحيد الله في العبادة.
قال محدث الشام أبو شامة الشافعي (ت 665هـ): (وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكى لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن اشتهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا الى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق صانها الله تعالى من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشببها بذات أنواط)([8]).
وقال الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي (ت 879هـ) في «شرح درر البحار»: (وأما النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد، كأن يكون لإنسان غائب، أو مريض، أو له حاجة ضرورية، فيأتي بعض الصلحاء، فيجعل ستره على رأسه، فيقول: يا سيدي فلان، إن رُدّ غائبي، أو عوفي مريضي، أو قُضيت لي حاجتي، فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا… فهذا النذر باطلٌ بالإجماع لوجوه: أنه نذر مخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق… ومنها: أن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى، واعتقاد ذلك كفر…)([9]).
وقد نقل العلامة علاء الدين الحصكفي الحنفي (1088هـ) هذا النص من كلام ابن قطلوبغا، ثم قال معلقاً: (وقد ابتُلي الناس بذلك، لا سيما في هذه الأعصار)([10]).
كما نقله الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضاً، ثم قال معلقاً: (فتأمل قول صاحب النهر، مع أنه بمصر ومقر العلماء، كيف شاع بين أهل مصر ما لا قدرة للعلماء على دفعه، فتأمل قوله من أكثر العوام، أتظن أن الزمان صلح بعده؟)([11]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ): (فأنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحداً من الأموات؛ لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفهـ)([12]).
وقال ابن القيم (ت 751هـ): (وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم فصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنَّة بدعة، والبدعة سنَّة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلَّ العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)([13]).
وقال منصور البهوتي الحنبلي (ت 1051هـ) في «كشاف القناع» بعد ذكر أنواع من الردة، وبعض فرق الضلالة: (قد عمت البلوى بهذه الفرق وأفسدوا كثيراً من عقائد أهل التوحيد نسأل الله العفو والعافية)([14]).
أما حال البادية فأمرٌ يفوق الوصف في البعد عن تعاليم الرسالة، وشيوع الشرك والضلالة، بل وإنكار البعث والنشور.
قال محمد السنوسي (ت 850هـ) في ذكر ما عليه العوام في عهده: (وبعض اعتقاداتهم أجمع العلماء على كفر معتقدها، وبعضها اختلفوا فيه، وكثير من أهل البادية ينكر البعث)([15]).
وفي فتاوى الشيخ محمد الخليلي الشافعي المتوفى سنة 1147ه: (وسئل رحمه الله عن عرب السعادنة وبني عطية وغيرهم من عرب الشام ومصر والحجاز وغيرهم من عرب البوادي.. -ثم ذكر بعض ضلالاتهم ثم قال: ويصدقون ببعثته صلى الله عليه وسلم ولكنهم ينكرون البعث والنشور، وإذا قيل لهم: إن ربنا سبحانه يحيي الخلق بعد موتهم ويحاسبهم على أعمالهم، فيقولون: لا ندري ذلك، ولا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة…
ثم قال في الجواب: (فأجاب: قد سئل عن مثل هذه المسألة شيخ مشايخنا الزاهد الورع العالم الشيخ أمين الدين محمد بن عبد العال الحنفي رحمه الله تعالى (فأجاب) بما حاصله المرقوم في فتواه من استحل حكماً عُلم أمره وحرمته في دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وحيث نهوا ووعظوا مرارا حل قتلهم وقتالهم وأخذ أموالهم، ثم ينظر في حال نسائهم إن كن مؤمنات مكرهات معهن لا ذنب لهن فيعلمن الأحكام، وإن لم يكن كذلك حل سبيهن وبيعهن كالحربيات انتهى… هذا حكمهم مع كونهم كفارا، وبه يعلم حل قتلهم مطلقا والحالة هذه ويثاب قاتلهم، وأجر المقاتل لهم كأجر المقاتل لأهل الحرب مع خلوص النية؛ لأنه مجاهد في سبيل الله والله أعلم)([16]).
وقال إبراهيم البيجوري الأزهري (ت 1276هـ): (ومثلُ ذلك كثير في الناس، فمنهم من يعتقد أن الصحابة أنبياء وهذا كفر، ومنهم من يُنكر البعث)([17]).
وتأمل معي أن البوادي المشار إليها في كلام هؤلاء العلماء كانت بوادي حواضر الإسلام: الشام والقاهرة، فما ظنك ببوادي نجد والإحساء!
ويؤكد سوء الحال الذي كان عليه كثير من المسلمين ما سطره الرحالة الأوروبيون وغيرهم ممن طافوا كثيراً من بلاد المسلمين: الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية،
قال الرحالة السويسري بوركهارت (ت 1232هـ): (لم تكن مبادئ ابن عبد الوهاب مبادئ دين جديد، بل كانت جهود الرجل موجهة –فقط- لإصلاح المفاسد التي سادت بين أتباع الإسلام، والعمل على نشر صحيح الدين بين البدو؛ الذين كانوا جاهلين بالدين على الرغم من كونهم مسلمين، لكن اسماً فقط، هؤلاء البدو كانوا غير مبالين بأحكام الدين كلها)([18]).
وقال الرحالة الفنلندي فالين (ت 1268هـ) الذي طاف الجزيرة العربية منتصف القرن التاسع عشر: (إن قبيلة عنزة شأن أغلبية القبائل لم تُرغم على تبني تعاليم الطائفة الوهابية الإصلاحية في فترة تصاعد سلطتها في الجزيرة، لا تعرف إطلاقاً الدين الذي تعتنقه. وبالكاد أتذكر أني صادفت أحداً من أفراد القبيلة الذين كانوا يؤدون الفرائض الإسلامية أو لديهم أبسط فكرة عن أصول الإسلام وأركانه الأساسية، ويمكن في الوقت نفسه قول العكس بدرجة معينة عن البدو الذين صاروا مع الوهابيين أو كانوا منهم في السابق)([19]).
وقال الكولينيل لويس بيلي البريطاني الذي زار الإمام فيصل بن تركي في آخر عهده سنة 1281ه، وقد تكلم عن الحالة الدينية للقبائل والنواحي النجدية قبل ظهور الوهابية، فقال: (وأن تحول هذه القبائل للإسلام لم يتم إلا خلال القرن الأخير…). ثم ذكر بعض المواضع الشركية في الحوطة وفي جبل طويق وفي جلاجل([20]).
وقال الرحالة البريطاني وليام بالغريف (ت 1305هـ) في حديثه عن حال البادية قبل ظهور دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب: (والواقع أن كل أثرٍ للإسلام قد انمحى تقريباً في تلك الفترة من نجد التي كانت تجري فيها عبادة الجان تحت ظلال أوراق الشجر الكبيرة، أو في الفجوات التي تشبه الكهوف في جبل طويق، علاوة على استرحام الموتى وتقديم الأضاحي عند قبورهم، وجرى خلط كل ذلك ببقايا الخرافات السبئية، بل إن ذلك لم يخل أيضاً من بعض آثار معتقدات مسيلمة ومعتقدات القرامطة، كان الناس قد توقفوا عن قراءة القرآن، ونسوا الصلوات الخمس، لم يكن أحد يهتم بمكة أو يعرف مكانها، إن كانت شرقاً أو غرباً او شمالاً او جنوباً، وأصبحت العشور والوضوء والحج أشياء لا يسمع الناس عنها شيئاً، كان هذا هو حال الدين والسياسة في نجد عندما وصل إليها محمد بن عبد الوهاب)([21]).
وقال دافليتشن وهو أحد ضباط الأركان العامة في جيش روسيا القيصرية: (إن أعراب البادية لا يتميزون بالتدين إطلاقاً)([22]).
وقال الرحالة الألماني أوبنهايم (ت1365هـ): (البدو مسلمون… لكن بالكاد تجد بين بضعة آلاف منهم واحداً يعرف شعائر الصلاة التي أقرها الإسلام ينطبق هذا بصورة خاصة على المناطق التي لم تنتشر فيها الوهابية، كما لا تزال توجد ذكريات وثنية في أساطيرهم)([23]).
وقال الرحالة البريطاني برترام توماس (ت 1370هـ) الذي طاف بلاد عمان وصحراء الربع الخالي وخَبَر حال قبائل تلك النواحي: (إن العديد من العقائد الوثنية والعقائد الأخرى المؤمنة بوجود الأرواح لا تزال موجودة وتمارس عبر هذه الجبال، وجميع السكان المحليين يؤمنون إيماناً راسخاً بهذه الأساطير، بينما في مناطق أخرى من جزيرة العرب المسلمة يجري استنساخها دون إضفاء صفة إلهية عليها على الأقل)([24]).
وقال البريطاني هارولد ديكسون (ت 1378هـ): (في حوالي نهاية القرن السابع عشر انقسمت نجد والجزيرة العربية عموماً باستثناء عمان واليمن والحجاز إلى مقاطعات ومدن مستقلة يحكم كل واحدة منها أحد زعماء القبائل بحماية البدو، أما الدين فقد نُسي إلا بأشكاله البدائية بين أهل المدن، وانتهى من الوجود عملياً بين رجال القبائل)([25]).
على أن هذا الاتفاق من العلماء والمؤرخين والرحالة الأوروبيين على سوء الأحوال الدينية والعلمية في عامة بلاد المسلمين، وفي نجد بالخصوص، قد عارضه بعض المعتنيين بتاريخ نجدٍ بالخصوص من المعاصرين، من أشهرهم: الدكتور عبد الله العثيمين في كتابيه «نجد قبيل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب»([26])، وكتاب «الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره»([27])، وكذلك الدكتور أحمد البسام في كتابه «الحياة العلمية في وسط الجزيرة العربية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين وأثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيها»، وفي بعض مجالسه المنشورة في اليوتيوب([28]).
حيث ذكرا أن الحالة العلمية في نجد لم تكن بالصورة القاتمة التي صورها ابن غنام في تاريخه، وعزيا سبب مبالغة ابن غنام وابن بشر في تصوير الواقع العلمي في نجد إلى الرغبة في تحسين صورة الدعوة التي قام بها الإمام محمد بن عبد الوهاب، والثناء عليها، وبيان عظم أثرها على الواقع.
قال العثيمين: (كان تحمّس ابن غنام لهذه الدعوة المباركة من الأمور اتي دفعته إلى تعميم حكمه على أهل نجد قبل ظهورها ليوضح مقدار فضلها… وابن بشر –كما هو واضح لمن تأمل تاريخه- كان أيضاً من المتحمسين لدعوة الشيخ محمد وأنصارها. وموقف كهذا قد يؤدي إلى إصدار أحكام تنقصها الدقة)([29]).
وقد استندا في هذه المعارضة على وجود بعض من وصفوا بالعلم في نجد قبل ظهور دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، ومثَّل الدكتور العثيمين بجدّ إمام الدعوة: الشيخ سليمان بن علي الوهبي في العيينة (ت 1079هـ)، والشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل في أشيقر (1059هـ)، والشيخ عبد الله بن ذهلان في الرياض (ت 1099هـ)، كما مثَّل الدكتور أحمد البسام بأحمد بن شبانة (توفي في حدود 1127هـ)، وأحمد بن يحيى بن عطوة (ت 948هـ).
وكل هؤلاء المذكورين ممن تُوفّي قبل قيام الدعوة الإصلاحية.
كما استندا إلى أن الشيخ عبد الله البسام في كتابه «علماء نجد خلال ثمانية قرون» قد ذكر سبعين عالماً من علماء نجد من مستهل القرن العاشر إلى دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب.
كما أشارا أيضاً إلى بعض الرسائل التي ألفها علماء نجديون قبيل الدعوة مستدلّيْن بها على أن الحالة العلمية في نجد لم تكن بذلك السوء الموصوف في كلام ابن غنام، مع كون الرسائل المشار إليها هي رسائل فقهية، من أشهرها: «الفواكه العديدة في المسائل المفيدة» للشيخ أحمد بن محمد المنقور التميمي النجدي (ت 1125هـ)، الذي نقل فيه كثيراً عن شيخه عبد الله بن محمد بن ذهلان، وعن غيره من علماء نجد.
والمتأمل يجد أن هذه المعارضة لا تستند إلى دليل علمي، وإنما هي تخرصات وظنون وأوهام، إذ ليس لهؤلاء المعارضين ما يُمكن اعتباره دليلاً سوى الاستبعاد الذهني المجرد، توضيح ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن يقال: إن وصف بعض الأشخاص في نجد بالعلم لا يستلزم وصفهم بصحة العقيدة، وكلُّ من نُسبوا إلى العلم قبل وقت الشيخ كانت جهودهم في الفقه والقضاء خاصة، وما يُنسب إليهم من المؤلفات والرسائل لم تكن سوى رسائل فقهية، وفي المذهب الحنبلي بالخصوص، ومعلومٌ أن إمامَ الدعوة وابن غنام وابن بشر ومن وافقهم من العلماء والمؤرخين لتلك الفترة لم ينفوا العلم عن علماء نجد في وقت دعوة الشيخ، ولا قبل وقته، وإنما نفوا معرفتهم بالتوحيد الخالص. وخصومةُ من عاصر الشيخ منهم لم تكن حول مسائل فقهية، وإن ذُكر بعضها تبعاً، وإنما كانت حول ما دعا إليه من توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة، والنهي عن الشرك في الألوهية.
قال الشيخ عبد الله البسام: (يوجد في بلدان نجد فقهاء وعلماء في ذلك الزمن وقبل بقرون متطاولة، إلا أن جلّ اهتمامهم بالفقه والمسائل الفرعية، فهم مقتصرون على بحث مسائل الفقه وتحريرها وتحقيقها وحفظ متونها واستيعاب شروحها وحواشيها، أما العلوم الشرعية الأخرى فنصيبهم فيها قليل، فليس هناك عناية بالتوحيد وتحقيقه، ولا بالتفسير وبالحديث وشروحه، بل حتى العلوم العربية لا يهتمون بها إلا بما يُقوم اللسان، وهم لذلك لا يُنكرون على العامة ما هم واقعون فيه من تعظيم القبور والغلو في الصالحين، والنذر لغير الله، والحلف بغير الله، والاعتقاد في بعض المسميات، ويرى هؤلاء العلماء جواز التوسل بذوات الصالحين، كما يُجيزون شد الرحال إلى القبور، فعند علماء نجد وعند عامتهم ما عند علماء الأمصار، وما عند عامتهم من هذه الأمور البدعية الشركية)([30]).
بل إن الدكتور عبد الله العثيمين قد اعترف بهذه الحقيقة فقال: (ومن الواضح أن دراسة علماء نجد في تلك الفترة تركزت على الفقه، أما العلوم الدينية الأخرى فكان حظها من العناية أقل من هذه المادة. وربما كان لك منسجماً مع الهدف الرئيسي من التعلم آنذاك، وهو أن يصبح المرء مؤهلاً لتولي القضاء)([31]).
ويؤكده أن المعارضين لم يذكروا دليلاً يدل على صحة عقيدة من نُسبوا إلى العلم آنذاك، أو سلامة توحيدهم الذي هو محل النزاع والصراع، بل عجزوا أن ينقلوا عن عالمٍ من علماء ذلك الوقت في تقرير التوحيد والتحذير من الشرك بمثل ما جاء به الإمام محمد بن عبد الوهاب، ولم يثبت عن واحد منهم النهي عن عبادة الأضرحة والمقامات والتحذير من الطواغيت المعبودة آنذاك، فمجرد الاستبعاد إذا لم يستند إلى دليل صحيح ملموس يقابل خبر من عاش وعاين كالشيخ محمد بن عبد الوهاب وابن غنام وغيرهما لا يكون مقبولاً.
بل في كتاب «الفواكه العديدة في المسائل المفيدة» لابن منقور (1125هـ)، الذي يُعتبر من أكبر مؤلفات النجديين في تلك الفترة، وهو من جملة ما استدل به المعارضون على وجود العلم وانتشاره في نجد، وتأكيد صحة عقيدة النجديين، ما يؤكد وجود الخلل في توحيد العبادة.
قال ابن منقور في كتاب الصيد: (الذبح لدفع لأذى الجن، وسمّى أبيحت، وإن قَصَدهم بدمها حرم الفعل)([32]).
قال الشيخ محمد بن مانع معلقاً على كلام ابن منقور: (لا يخفى ما في ضمن هذا الكلام من المضادة لقوله تعالى: {وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجال من الجنّ فزادوهم رهقا}، لأن هذا استعاذة بالجن، والاستعاذة عبادة، فمن استعاذ بغير الله فقد عبده مع الله، وتفريقه بين الذبح للجن لأجل الاستعانة بهم، وبين الذبح لهم لدفع شرهم، تفريقٌ من غير فارق، فكما أن الاستعانة نوعٌ من العبادة، فكذلك الاستعاذة مثلها سواء، ولأن الحكم يدور مع علته وجوداُ وعدماً، فعلى هذا تكون الذبيحة حراماً؛ لأنها ذبيحة مشرك، والتسمية عبادة، وهي في هذا الموضع لا تؤثر؛ لأنها من مشرك، وعبادات المشرك حابطة والعياذ بالله، والله أعلم)([33]).
ولا يُعرف لعالمٍ من علماء نجد قبل وقت الشيخ وفي وقته مؤلفٌ في التوحيد والعقيدة الصحيحة، إلا ما كان من الشيخ عثمان بن قايد المولود في العيينة، المتوفى سنة 1097هـ، في كتابه «نجاة الخلف في اعتقاد السلف»، والشيخ عثمان نشأ في نجد وأخذ عن علمائها ثم رحل إلى الشام وتلقى فيها العلم، ثم رحل إلى مصر وتوفي فيها، ولذا لا يمكن اعتباره من علماء نجدٍ إلا من جهة النشأة، والدكتور عبد الله العثيمين نفسه أقرَّ أن تأليف عثمان بن قايد في العقيدة بالخصوص أمرٌ غير معهودٍ من النجديين، ولذلك عزى سبب ذلك بقوله: (وربما كان اهتمامه بالعقيدة نتيجةً لمناقشاته مع العلماء خارج المنطقة)([34]).
وكلُّ من عُرف عنهم صحة العقيدة والعلم بحقيقة التوحيد ومعرفة ما يضاده من العلماء في وقت الشيخ وقبل وقته لم يكونوا في نجد، مثل الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي، فإنه وإن كان أصله من نجد من المجمعة بالخصوص، إلا أنه ولد في المدينة النبوية، وتوفي فيها سنة 1140هـ قبل جهر الإمام محمد بن عبد الوهاب بالدعوة، ولذلك لا يصح الاستشهاد به على خلاف ما ذكره ابن غنام عن حالة نجدٍ العلمية كما فعله الدكتور أحمد البسام، ومن هؤلاء: محمد حياة السندي وعلي أفندي الداغستاني فإنهما لم يكونا نجديين بل كانا من أهل المدينة النبوية، وكذلك محمد بن إسماعيل الصنعاني وحسين النُّعمي كانا من اليمن، ومحمد السفاريني ومحمد البرهاني كانا من أهل الشام، ومعلوم أن دعوى الإمام جهل أهل العلم بحقيقة التوحيد قبل ظهور دعوته إنما عُني به أهل نجد خاصة، لا عموم بلدان الجزيرة فضلاً عن بلدان العالم الإسلامي وحواضره.
قلت: ويؤكده أن الدكتور أحمد البسام عندما أراد التمثيل بمعاصري الشيخ من العلماء في نجد، اضطُرّ للتمثيل بخصوم الشيخ في أصل دعوته إلى التوحيد، مثل عبد الله بن عيسى المويس وعبد الله بن سحيم، وموقف هذين من توحيد الإلهية معلومٌ غير خافٍ.
الوجه الثاني: أن يُقال: إن من أظهر الدلائل على صحة ما ذكره الشيخ وابن غنام وابن بشر في وصف حال نجد وما جاورها: هو موقف المنسوبين إلى العلم في نجدٍ من دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في وقته، إذ لم يُعرف عن عالمٍ مشتهر بالعلم في ذلك الوقت وافق الشيخ على أصول دعوته إلى التوحيد، حاشا عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية، وكان من أجل علماء نجد، وقد كتب رسالة مذيلة ببعض رسائل الشيخ إلى بلدان نجد يقر فيها بجهله بحقيقة التوحيد قبل هذه الدعوة، وإن كان قد تغير موقفه بسبب ابنه عبد الوهاب، لكنه رجع في آخر شأنه حتى قُتل على يد خصوم الدعوة.
قال الشيخ محمد بن بعد الوهاب واصفاً الشيخ عبد الله بن عيسى: (وشاهد هذا أن عبد الله بن عيسى ما نعرف في علماء نجد ولا علماء العارض ولا غيره أجل منه، وهذا كلامه واصل إليكم إن شاء اللهـ)([35]).
قال الشيخ عبد الله بن عيسى في رسالة موجهة إلى عموم المسلمين: (فالله الله عباد لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر؛ فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم، فلله الحمد على ما علمنا من دينه ولا يهولنكم اليوم أن هذا الأمر غريب، فإن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ} واعتبروا بدعاء أبينا إبراهيم عليه السلام بقوله في دعائه: {واجبني وبني أن نعبد الأصنام. رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} ولولا ضيق هذه الكراسة وأن الشيخ محمداً أجاد وأفاد بما أسلفه من الكلام فيها لأطلنا الكلام)([36]).
وكل من تأمل رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء والأمراء والوجهاء والعامة في نجد، وخَبَر تاريخ الدعوة وما جرى من الخصومة وقتها علم يقيناً عدم صحة هذه المعارضة، وتبيّن له صدق وحقيقة ما ذكره الشيخ وابن غنام، فإنه على الرغم من طول مدة دعوة الشيخ ابتداءً من لحاقه بوالده في حريملاء في حدود سنة 1143هـ، على اعتبار أن إظهار الدعوة في نجد بدأ فيها، إلى سنة 1187هـ وقت سقوط الرياض والسيطرة على عامة وسط نجد، أو إلى 1200هـ بعد ضم الخرج والدلم، وعلى الرغم من كثرة رسائل الشيخ ومباحثاته مع علماء نجدٍ في وقته: لم يُعرف عن واحدٍ معروف بالعلم في نجد وقتها وافق الشيخ في تقرير التوحيد العبادة وبيان حقيقة الشرك ثَبَتَ على هذه الموافقة إلا عبد الله بن عيسى أجلَّ أهل العلم وقتها الذي اعترف بجهله بحقيقة التوحيد قبل مجيء دعوة الشيخ.
وأما الآخرون المنسوبون إلى العلم: فإن منهم من وافقه في أول الدعوة ثم انتكس على عقبه، وأنكرها بعد المعرفة؛ مثل سليمان بن سحيم، ومنهم من عارضه وأبى الإقرار بها منذ بداية الدعوة، مثل: عبد الله بن عيسى المويس، ومنهم من وافق سراً وأنكر علناً.
وهذا الوصف الذي ذكره ابن غنام وغيره عن حال نجد قبل الدعوة، والذي كان محل نقدٍ عند من سمَّيْنا من الباحثين، قد ذكره الإمام نفسه وكرره في رسائله، فلم يكن ابن غنام المصدر الوحيد، بل إن الشيخ قد ذكر من الأضرحة والمقامات في رسائله، ومن أسماء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم الولاية فيصرفون لهم حق الله من الذبح والنذر والاستغاثة ما لم يذكره ابن غنام ولا ابن بشر في تاريخيهما.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (وأنا أخبركم عن نفسي والله الذي لا إله إلا هو لقد طلبت العلم واعتقد من عرفني أنَّ لي معرفة، وأنا ذلك الوقت لا أعرف معنى لا إله إلا الله، ولا أعرف دين الإسلام قبل هذا الخير الذي من الله به، وكذلك مشايخي ما منهم رجل عرف ذلك، فمن زعم من علماء العارض أنه عرف معنى لا إله إلا الله، أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت، أو زعم عن مشايخه أن أحداً عرف ذلك فقد كذب وافترى، ولبَّس على الناس، ومدح نفسه بما ليس فيهـ)([37]).
ومن الدلائل على صحة تصوير ابن غنام وابن بشر لحال نجد قبل الدعوة: موافقة المعاصرين لتلك الفترة في تصوير الواقع بمثل ما صوره ابن غنام، كالصنعاني والنُّعمي اليمانيين، وقد ذكرنا نصوصهم آنفاً، وكانا أقرب إلى واقع الجزيرة من غيرهم من العلماء في الأقطار.
بل إن معارضي الشيخ وخصومه من المنسوبين إلى العلم في نجدٍ قد أقروا بمثل ما ذكره ابن غنام وابن بشر في وصف حال الناس قبل ظهور الدعوة:
فإن سليمان بن عبد الوهاب أحد أكبر خصوم الشيخ ومعارضيه بعد أن ذكر بعض أنواع الشرك الأكبر التي أنكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب على الناس، ومثَّل بـالذبح لغير الله، والنذر لغير الله، ودعاء الموتى والاستغاثة بهم، قال: (ومعلوم عند الخاص والعام أن هذه الأمور ملأت بلاد المسلمين، وعند أهل العلم منهم أنها ملأت بلاد المسلمين أكثر من سبعمائة سنة)([38]).
وقال أيضاً (ص34-44): (هذه الأمور التي تجعلون بها المسلم كافراً بل تُكفّرون من لم يُكفّره قد ملأت مكة والمدينة واليمن من سنين متطاولة، بل بلغنا أن ما في الأرض أكثر من هذه الأمور في اليمن والحرمين).
ولو تأمل المنصف كتابات المعارضين لدعوة الشيخ من خارج نجد، التي جاءت استجابة لدعوات النجديين، كما جاءت من الإحساء والبصرة ومكة، لَعَلِمَ صحة ما ذكره الشيخ وابن غنام وابن بشر في وصف حال الجزيرة، إذ جاءت خطوطهم تقرر ضد ما دعا إليه الشيخ من التوحيد الخالص، بل جوزوا الشرك في العبادة، والاعتقاد في الغائبين، وهذا ثابت في رسائل علماء الإحساء كمحمد بن عفالق في رسائله التي أرسلها إلى عثمان بن معمر، وفي كتابات محمد بن عبد الله بن فيروز عالم الإحساء، ثم العراق، وفي كتابات علماء البصرة كأحمد القباني، وكما جاء في رسالة علماء الحرمين جواباً على رسالة سليمان بن سحيم التي خطَّ علماء نجد عليها تواقيعهم إقراراً بما فيها من تجويز دعاء الأموات والاستشفاع بهم، وحصر الشرك باعتقاد التأثير.
قلت: ومن مواضع النقد على الدكتور أحمد البسام: أنه ذكر وجود غارٍ في الدرعية يُعتقد فيه، وينتابه الناس، وذكر وجود بعض التوسل بالجن والذبح لهم، ثم قال: لكن لا يُحكم على الجميع([39])، وقد ذكر الدكتور عبد الله العثيمين مثل هذا الإيراد حيث قال: (ومن الملاحظ أن الأمور التي ذكر ابن غنام وجودها محصورة في منطقة نجدية معينة، وأنه لم يُشر إلى وجود مثل هذه الأمور في المناطق النجدية الأخرى، فهل عدم إشارته دليل على عدم وجودها في تلك المناطق أم هو -على الأقل- دليل على عدم بلوغها الدرجة التي وصلت إليها في منطقة العارض؟)([40]).
والحقيقة أن سبب هذا الإيراد هو ضعف التأصيل الشرعي لدى الباحِثَيْن، وذلك أن هذه الأفعال والممارسات الشركية من البعض إذا قوبلت بالقبول وعدم الإنكار، كان ذلك كفراً بالله، فكيف إذا دافع الناس عنها، وزينوا فعلها، أو قاتلوا من أنكرها، وأبغضوا من عاداها، ولو لم يفعلوها، ونحو ذلك من أفعال الخصوم الذي هم خاصة الناس في البلدان، حتى جرى ما جرى من الصراع والاقتتال.
ومن عجيب الأمر أن الدكتور عبد الله العثيمين لما ذكر كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب في وصف حالة نجد العلمية والدينية قال: (أما الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقد ذكر اعتقاد الجهال بأناس معينين؛ مثل تاج وشمسان وحطّاب وإدريس، كما ذكر عن أحد خصومه من العلماء النجديين بأنه يتعاطى الطلاسم، وأنه كان يوجد متصوفة على مذهب ابن عربي وابن الفارض في معكال)([41]).
ثم أجاب الدكتور عن ذلك بقوله: (أما بالنسبة لما أورده الشيخ محمد رحمه الله فإنه من الواضح أن ما ذكره عن الطلاسم خاصٌ بأحد مناوئيه، وقد نص المنقور في الفواكه على أن من علماء نجد من كان لا يكتفي بكراهية الطلاسم، وإنما يحرمها مطلقاً، والمتصوفة الذين أشار إليهم الشيخ محمد إلى وجودهم في معكال، لم ترد أسماؤهم من بين علماء نجد)([42]).
قلت: وهذا من عجيب أمر الدكتور عبد الله العثيمين رحمه الله، إذ إنه يوحي أن هذه الأمور الثلاثة هي مستند الإمام محمد بن عبد الوهاب في حكمه على واقع علماء وقته في نجد فحسب؟! بينما كانت خصومة الشيخ مع علماء وقته تدور حول موقفهم من توحيد العبادة، وامتناعِهم من الإقرار به، وتزيينِهم الشرك في العبادة، ودفاعهم عن المشركين، وامتناعهم عن الحكم عليهم بالشرك، فضلاً عن مناصرتهم وموالاتهم، والذب عنهم بالنفس والمال والجاه.
وليت الدكتور العثيمين وقف عند هذا الحدّ، بل قد تجاوز ذلك إلى حدّ التشكيك ببعض ما ذكره الإمام محمد بن عبد الوهاب عمن يعرفهم من أهل زمانه.
قال الدكتور عبد الله العثيمين: (رسائل الشيخ تشير إلى وجود أفراد متصوفة على مذهب ابن عربي وابن الفارض، مثل ولد موسى بن جدعان، وسلامة بن مانع. وأفراد مغمورون كهذين الرجلين من الغريب أن تكون بينهم وبين مذهب فلسفي في نزعته أية صلة. لكن إذا سُلّم بصحة ما ورد في رسالة الشيخ، فإنه يُلاحظ انحصار ذلك الأمر في معكال التي تكون جزءًا من مدينة الرياض الحالية)([43]).
فانظر إلى قوله: (إذا سُلّم بصحة ما ورد في رسالة الشيخ)؟!
هكذا يشكك الدكتور -عفا الله عنه ورحمه- بصحة ما ذكره الإمام البارّ الراشد الصادق عن بعض أهل زمانه.
ولا شك أن هذا إلى العبث أقرب منه إلى النقد والتحقيق، إذ لا يصح ولا يسوغ ردّ أخبار الثقات الأثبات المأمونين بمثل هذه التخرصات والظنون والأوهام، ولو ساغ مثل هذا لما صح نقلٌ، ولا ثبت خبرٌ، ولم يُفرّق حينئذ بين خبر الثقة، وغير الثقة، ولا بين خبر من عاين، ومن لم يعاين، ولا بين خبر من عاصر، ومن لم يعاصر، ولَعُبث بالتاريخ.
والحقيقة أن المواضع المنتقدة من كلام الدكتور عبد الله العثيمين وأحمد البسام حول حقيقة الصراع بين الإمام محمد بن عبد الوهاب ومناوئيه كثيرة، من أخطرها طريقة عرضهما لذلك الصراع والنزاع، حيث أنهما عرضا تلك الخصومة وذلك النزاع عرضاً فيه نوع تهوين من تلك المعارضة التي وقعت للشيخ رحمه الله في دعوته، من صور ذلك: الإفاضة في ذكر أسباب تلك المعارضة ومحاولة إيجاد أعذار عديدة للمعارضين، بل إن الدكتور أحمد البسام أورد لخصوم دعوة الشيخ ومعارضيه أسباباً والتمس لهم أعذاراً ودوافع لتلك الخصومة لم ترد في كتابات المعارضين أنفسهم ورسائلهم، بل هو نفسه استخرج من خلال استقراء رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأجوبته ما يُمكن اعتباره سبباً وعذراً، كالملتمس لهم العذر، مثل: وصف الشيخ المعارضين له بالجهل، وتشبيه معارضيه بأعداء الأنبياء، وإيراده لعبارات لا يطمئن لها المخاطبون لإشعاره لهم بفضله عليهم، وتشبيه حال معارضيه بحال المبتدعة من خلال استدلاله بأقوال ابن تيمية ضد معارضيه، وغيرها من الأسباب([44]). ولا شك أن طريقة العرض هذه على أقل تقدير ستؤدي إلى تهوين أمر تلك المعارضة عند السامع والقارئ، وتخفيف درجة إنكاره لها، بل والتماس العذر للمعارضين، مع كونها واقعة في صلب الدين وأساسه وأصله العظيم، من جنس معارضة أعداء الأنبياء لأنبيائهم. وليت الدكتور وقف عند هذا الحد، بل تجاوز ذلك حتى عدَّ فوائد لتلك المعارضة، ذكر منها: فتح باب المناقشة والمناظرة، وإثراء المكتبة الإسلامية بمؤلفات الفريقين!؟، بل وتحسّر على إتلاف بعض كتابات الخصوم.
ولذلك فإن من المهم تتبع كلام الدكتورين: العثيمين والبسام، والتنبيه على ما وقعا فيه من أخطاء وأوهام، نصرة للدعوة الإصلاحية، ونصحاً للعباد، فنسأل الله أن يُقيّض من عباده من ينتصب لذلك.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على الرسول الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين
([1]( «روضة الأفكار والأفهام» 1/5-13
([2](«عنوان المجد في تاريخ نجد» 1/34
([3]( «تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد» ص48 [طبعة دار المغني، ت: عبد المحسن العباد، ط1، 1424]
([4]( «معارج الألباب في مناهج الحق والصواب» ص169-185
([6]( «شرح ثلاثيات مسند أحمد 1/4
([8]( «الباعث على إنكار البدع والحوادث» ص26
([9]( «البحر الرائق شرح كنز الدقائق» لابن نجيم 2/320
([10]( «الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار» ص151-152 [دار الكتب العلمية، ط1، 1423هـ]
([11]( «مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» 6/70
([12]( «تلخيص الاستغاثة» 2/731
([14]( «كشاف القناع» 14/233 [طبعة وزارة العدل]
([15]( «شرح عقيدة التوحيد الكبرى» ص37
([16]( «فتاوى محمد الخليلي» 2/282
([17]( «حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد» ص78
([18]( «ملاحظات حول البدو والوهابيين» 2/63
([19]( «تاريخ العربية السعودية» أليكسي فاسيلييف ص99
([21]( «وسط الجزيرة العربية وشرقها» وليم بالجريف 1/429
([22]( «تاريخ العربية السعودية» أليكسي فاسيلييف ص100
([24]( «رحلات ومغامرات عبر صحراء الربع الخالي» ص64
([25]( «الكويت وجاراتها» 1/101
([26]( «نجد قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب» ص89-97
([27]( «محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره» ص19-321
([28]( انظر لقاء بعنوان «نجد ما قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقيام الدولة السعودية الأولى»
([29]( «نجد قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب» ص92-93
([30]( علماء نجد خلال ثمانية قرون 1/30
([31]( «محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره» ص18
([32]( «الفواكه العديدة في المسائل المفيدة» 2/87
([33]( «الفواكه العديدة في المسائل المفيدة» 2/87 حاشية
([34]( «نجد قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب» ص80
([35]( «مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» 6/187
([36]( «مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» 6/193
([37]( «مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» 6/187
([38]( «فصل الخطاب في الرد على ابن عبد الوهاب» ص7
([39]( لقاء بعنوان «نجد ما قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقيام الدولة السعودية الأولى» منشور في موقع يوتيوب في الشبكة العنكبوتية
([40]( «نجد قبيل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب» ص92
([41]( «نجد قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب» ص90
([42]( «نجد قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب» ص94
([43]( «بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب» 1/102
([44]( لقاء بعنوان (أسباب معارضة الدعوة) منشور في اليوتيوب في الشبكة العتكبوتية