الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فقد سبق الإشارة في الحلقات السابقة إلى شدة ما لقيه الإمام محمد بن عبد الوهاب من المعارضة، وأن أشدهم معارضة له وخصومة: المنتسبون إلى العلم في نجد وخارجها، كما بُيّن على وجه التفصيل المواقف التي اتّخذها هؤلاء الخصوم تجاه الدعوة، فكان من المناسب إلحاق ذلك ببيان حُكمِ هؤلاء الخصوم على الشيخ وأتباعه، وما تبع ذلك الحكم من الأحكام؛ كاستحلال الدم والمال والعرض، ما أذكى الصراع بين الفريقين، وأجّج نار الفتنة، ولم يكن لهم مقصود من ذلك إلا التنفير عن الدعوة، والصدّ عنها.
وإنه بالوقوف على الأحكام التي أنزلها الخصوم على الشيخ وأتباعه يتبيّن لكل منصف أنهم أحقُّ بوصف تكفير المسلمين منه، فإن الشيخ لم يكفّر إلا من كفّره الله ورسوله، ممن أشرك بالله في عبادته، وجعل معه إلهاً آخر، وأما خصوم الشيخ فإنهم كفّروا الشيخ وأتباعه بمحض التوحيد، والتزام الإسلام الخالص والبراءة من الشرك، واستباحوا دمه ودم أتباعه على تمسكهم بالإسلام وقيامهم به، حتى صاروا على ما نحو ما ذكره ابن القيم في قوله:
(قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه: وقع فيه، وأقره، ودعا إليه، وصوّبه، وحسنه، وهو لا يعرف: أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه، فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويُكفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويُبدَّع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حيٌّ يرى ذلك عياناً، والله المستعان) ا.ه. [«مدارج السالكين» 1/344]
وقال في نونيته:
(من لي بشبه خوارج قد كَفَّروا … بالذنب تأويلا بلا إحسان
ولهم نصوص قصَّروا في فهمها … فأتَوْا من التقصير في العرفان
وخصومنا قد كَفَّرونا بالذي … هو غاية التوحيد والإيمان) ا.ه.
وقد قال الإمام محمد بن عبد الوهاب شاكياً الحال: (فكيف بالمويس وأمثاله لا يُكفِّروننا بمحض التوحيد؟!) ا.ه. [[«الدرر السنية» 10/81]
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: (وأما ابن منصور وشيعته: فهم أقرب الناس شبهاً بالخوارج، بل هم أعظم، لتكفيرهم المسلمين بالتوحيد، وهو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له؛ فمن كَفَّر المسلمين بالتوحيد، فهو أعظم بدعة من الخوارج) ا.ه. [«الدرر السنية» 11/576]
وقد ذَكَر الشيخ في أكثر من موضع من رسائله تكفير خصومه له، واستحلالهم دمه، منها رسالته لأحمد بن إبراهيم، وفيها: (وتعرف روحة المويس وأتباعه لأهل قبة الكواز، وسية طالب يوم يكسيه صاية، ويقول لهم: طالع الناس ينكرون قببكم، وقد كفروا وحلّ دمهم ومالهم). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص205
كما نقل ابن غنام اتفاق خصوم الشيخ على تكفيره، فقال في سياق ما لقيه الشيخ من الخصومة في أول دعوته: (وعجّوا مطبقين على الشيخ بأنه ساحرٌ ومفترٍ وكذابٌ، وحكموا بكفره واستحلال دمه وماله وجميع من له من الأصحاب). «تاريخ ابن غنام» 1/31
ولعلي أن أنقل بعض ما جاء عن الخصوم في تكفير الشيخ وأتباعه واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم:
نقل أحمد زيني دحلان عن علماء مكة تكفير الشيخ وأتباعه وإجماعهم على ذلك، بل وتكرر إصدار هذا الحكم منهم في أوقات مختلفة، فقال: (وكانوا في ابتداء أمرهم -يعني: الشيخ وأتباعه- أرسلوا جماعة من علمائهم ظنًا منهم أنهم يفسدون عقائد علماء الحرمين، ويدخلون عليهم الشبهة بالكذب والمين، وطلبوا الإذن في الحج، ولو بمبلغ يدفعونه كل عام، وكان أهل الحرمين يسمعون بظهورهم في المشرق وفساد عقائدهم، ولم يعرفوا حقيقة ذلك، فأمر مولانا الشريف مسعود أن يناظر علماء الحرمين العلماء الذين أرسلوهم، فناظروهم فوجدوهم ضحكة ومسخرة، كحمر مستنفرة، فرت من قسورة ونظروا إلى عقائدهم فوجدوها مشتملة على كثير من المكفرات فبعد أن أقاموا البرهان عليهم أمر الشريف مسعود قاضي الشرع أن يكتب حجة بكفرهم الظاهر ليعلم به الأول والآخر، وأمر بسجن أولئك الملاحدة الأنذال، ووضعهم في السلاسل والأغلال فسجن منهم جماعة، وفر الباقون ووصلوا إلى الدرعية وأخبروا بما شاهدوا… حتى مضت دولة الشريف مسعود وأقيم بعده أخوه الشريف مساعد بن مساعد فأرسلوا في مدته يستأذنون في الحج فأبى… فلما مضت دولة الشريف مساعد وتقلد الأمر أخوه الشريف أحمد بن سعيد أرسل أمير الدرعية جماعة من علمائه، كما أرسل في المدة السابقة، فلما اختبرهم علماء مكة وجدوهم لا يتدينون إلا بدين الزنادقة، وأبى أن يقر لهم في حمى البيت قرار، ولم يأذن لهم في الحج بعد أن ثبت عند العلماء أنهم كفار، كما ثبت في دولة الشريف مسعود…). [خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام ص238]
وقد سبق في الحلقة الرابعة ذكر رسالة علماء البلد الحرام إلى أهل نجد في تكفير الشيخ واستحلال دمه، بعد مراسلة ابن سحيم لهم وطلبه الكتابة في الشيخ ودعوته.
محمد بن عبد الرحمن بن عفالق (1164هـ)
لقد حَكَمَ ابن عفالق على الشيخ بالكفر والشرك، بل والإلحاد في عدة مواضع من رسالته لابن معمر، فبعد نقله مواضع من كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته «كشف الشبهات» قال معلقاً: (انظر إلى هذا الكفر الصريح… وعبارة هذا الملحد نافية لرسالة رسول الله e… فانظروا يا عباد الله إلى هذا الكلام الفاسد الركيك، والكفر والزندقة… فهؤلاء الكفار الذين ذكرهم هذا الملحد لا ينفعهم ما قالوا ولا يدخلهم في الإسلام ما ذكروا؛ حيث لم يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله). [الوهابية دين جديد ص461]
وقال واصفاً الشيخ بالزندقة: (وهذا الزنديق). [«الوهابية دين جديد» ص463]
محمد بن عبد الله بن فيروز (1216هـ)
صرّح ابن فيروز بكفر الشيخ وأتباعه وحلّ دمائهم، وبيّن أن كفرهم ظاهرٌ بيّنٌ لا يتوقف فيه من له أدنى مسكة من علم، فقال: (والحاصل أن أمر طغاة نجد لا يُشكل إلا من تشكل عليه الشمس، ولا يَتوقف في تكفيرهم وحِلِّ دمائهم وأموالهم من له مسكة من الدين). [مخطوط]
حَكَمَ عثمان بن سند على الشيخ وأتباعه بحُكم أتباع مسيلمة الكذاب، فقال في أحداث سنة 1218هـ: (فهؤلاء الوهابيون لا نشك في أن كل واحد منهم بمنزلة مسيلمة الكذاب). [«مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود» ص292]
وقد ذَكَر إبراهيم الوائلي شدة عداء ابن سند للدعوة فقال: (عثمان بن سند البصري الوائلي قد سجّل تعصبه الشديد ضدّ الوهابيين بقصائد ومقطوعات كثيرة، وناوأهم أشد المناوأة، وكفَّرهم، ووسمهم بالزيغ والضلال في نثره وشعره على السواء، ودعا إلى حربهم باسم الدين -كما زعم هو وغيره- مارقون خارجون عن إجماع المسلمين وعلى طاعة السلطان) ا.ه [«الشعر السياسي العراقي في القرن التاسع عشر» ص129]
ثم ذَكر إبراهيم الوائلي بعض أشعار ابن سند في مدح ثويني بن عبد الله رئيس المنتفق على غزو الوهابيين سنة 1211هـ، ورثاءه له بعد مقتله، كما ذكر بعض قصائده في مدح الحملة العراقية التي قادها علي كيخيا على نجد سنة 1213هـ، ونقَل بعض الأبيات من قصيدته التي يمدح فيها السلطان العثماني محمود الثاني على القضاء على الدولة السعودية الأولى، بل وشبّهه فيها بالخلفاء الأربعة.
ولقد بلغ عثمان بن سند في عداوته للدعوة ومناوأته وبغضه لأهلها أن كتب إلى إبراهيم باشا بن محمد علي بعد قضاءه على الدرعية كتاباً ذيّله بقصيدة يمدحه فيها، ويحرضه على قتل الوهابيين كبيرهم وصغيرهم، وأن لا يُبقي منهم أحداً، حتى الأطفال منهم؟!
قال إبراهيم الوائلي: (وليس أدل على مقت عثمان بن سند دعوة الوهابيين من رسالته التي بعث بها إلى إبراهيم بن محمد علي عندما نزل الدرعية وحرّضه بها أشد التحريض وذيَلها بقصيدة جاء فيها:
ولا تُبق منهم واحداً تستطيبه … إذا خَبُث الآباء لم يَطِب الولد) ا.هـ. [«الشعر السياسي العراقي في القرن التاسع عشر» ص133]
نقل الجبرتي عن مفتي الدولة العثمانية إفتاءه الجنود الغازين نجداً أن الوهابيين كفار على سبيل التحريض لهم والتشجيع على قتال أتباع الشيخ، فقال في تاريخه في شهر ربيع الآخر 1228ه: (أنه وصل إلى القاهرة مرسوم سلطاني يأمر الخطباء في المساجد يوم الجمعة على المنابر، فيقولوا السلطان ابن السلطان بتكرير لفظ السلطان ثلاث مرات: محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان بن السلطان أحمد خان، الغازي، خادم الحرمين الشريفين، لأنه استحق أن ينعت بهذه النعوت لكون عساكره افتتحت بلاد الحرمين وغزت الخوارج وأخرجتهم منها، لأن المفتي أفتاهم بأنهم كفار لتكفيرهم المسلمين، ويجعلونهم مشركين، ولخروجهم على السلطان وقتلهم الأنفس وأن من قاتلهم يكون مغازياً ومجاهداً وشهيداً إذا قُتل). [3/406]
وقال الجبرتي أيضًا في أحداث شهر جمادى الثانية 1230ه: (في خامسه وصلت عساكر في داوات إلى السويس، وحضروا إلى مصر وعلى رؤوسهم شلنجات فضة؛ أعلاماً وإشارة، بأنهم مجاهدون وعائدون من غزو الكفار، وأنهم افتتحوا بلاد الحرمين وطردوا المخالفين لديانتهم). [«عجائب الآثار» 3/477]
ونقل الجبرتي في أكثر من وصف العساكر المصرية أتباع الدعوة بالكفار. [انظر على سبيل المثال: 3/342]
وقد ذكر المؤرخ المصري الجبرتي في عدة مواضع من تاريخه أن العساكر المصرية التي غزت نجداً كانوا يسبون النساء والبنات والأطفال، ويتبايعونهم فيما بينهم، وأنهم في سنة 1235ه جلبوا إلى مصر بعض أسرى الوهابية نساءاً وبناتٍ وغلماناً يبيعونهم على من يشتريهم. [«عجائب الآثار»، انظر: 3/334، 342، 606]
ولما أرسل الانجليز الضابط الإنجليزي سادلير إلى إبراهيم باشا ليهنأه له على القضاء على الدولة السعودية الأولى، قطع خلال رحلته تلك أراضي الجزيرة العربية، ودوّن ما شاهده في كتاب، أشار فيه إلى أنه رأى البدو المغاربة -وكانوا مصاحبين للحملة العسكرية على نجد- وهم عائدون إلى مصر بعد سقوط الدرعية معهم النساء والأطفال والعبيد الذين سلبوهم خلال غاراتهم الحاقدة. [«رحلة عبر الجزيرة» ص119]
قلت: وبهذا يتبيّن أن خصوم الشيخ أحقّ بوصف الخوارج منه، فإنهم لم يُكفّروا المسلمين فحسب، بل كفّروا خواصّهم من الدعاة إلى التوحيد الخالص، والنهي عن الشرك، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وهي خاصية الخوارج التي استحقوا بها الذمّ والعقوبة، وأما الشيخ وأتباعه فكانوا أورع الناس عن ذلك وأبعدهم عن تكفير المسلمين، وإنما كفّروا من حَكَمَت النصوص بكفره، وأجمع عليه العلماء، على ما سيأتي بيانه في قادم الحلقات.
والله أعلم، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.