لتنزيل الحلقة السابعة على ملف pdf يرجى الضغط على الرايط أدناه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
فإن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب قد امتُحنت بمعارضة شديدة، لا سيما في بداياتها، على مختلف الأصعدة، وفي جميع الجبهات؛ الداخلية والخارجية، ومن مختلف الطبقات: الأمراء والعلماء والعامة، وعلى مختلف المستويات؛ الدولية والقروية والبدوية.
ومع كلّ هذا الصراع، وعلى شدة الخصومة، فقد كتب الله للدعوة الانتشار والقبول، حتى صارت العاقبة لها، رغم الجهود العظيمة التي بُذلت لقمعها وطمسها ووأدها، لكنّ الأمر على ما قال الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}، وعلى ما في قوله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.
وقد حاول بعض المعارضين المعاصرين ومن انخدع بهم من بعض محبّي الدعوة عموماً، تصويرَ الصراع الذي جرى في تلك الفترة على أنه صراعٌ سياسيٌّ اصطبغ بصبغة الدين والعقيدة، وأنّ المقصد الحقيقي من وراء تبني آل سعود للدعوة هو بسط النفوذ، وتوسيع السلطة، والحصول على المكاسب السياسية والمادية، هذا من جهة أصحاب الدعوة الإصلاحية وذوي السلطة فيها.
ومن جهة معارضي الدعوة وخصومها السياسيين، كالعثمانيين والمصريين والأشراف، ورؤساء الأقاليم والقرى والبلدان فقد ادّعي أيضًا أن معارضتهم للدعوة كانت سياسية، ولم يكن الدافع لها دينياً عقدياً، وأنّ الخلاف العقدي والجانب الديني استُغلّ لتبرير الصراع، وتسويغ المعارضة.
وكلّ من عَرَف وخَبَرَ حقيقة ما جرى من الخصومة، ووقف على أحداث الصراع وتفاصيله وجزئياته يعلم قطعاً بطلان هذه الدعوى في الجهتين؛ جهة أصحاب الدعوة، وجهة خصومها، ويوقن بأن الصراع كان عقدياً دينياً بالدرجة الأولى، وإن اصطبغ في بعض أحداثه بالصبغة السياسية، وأنّ حقيقة الخصومة كانت على ما جاءت به الدعوة الإصلاحية من التوحيد والعقيدة، المستلزم للحكم على المعارضين بالضلال قبل مجيء هذه الدعوة، وهو ما دفع كثيراً منهم إلى إنكارها والامتناع من قبولها والانصياع لها، استكباراً أو جهلاً أو حسداً وبغياً أو خوفاً من فوات مصالح دنيوية.
وهذه سُنّة ماضية، وسكة مسلوكة قديماً وحديثاً، كما في قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}، وفي قوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، وفي قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}، وغير ذلك من الآيات.
وانظر إلى ما ادّعاه فرعون في دعوة موسى عليه السلام: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}.
وفي هذه الحلقة سنذكر الدلائل المبيِّنة والمؤكِّدة على أنّ الصراع كان صراعاً عقدياً دينياً، وأنّ الخلاف العقدي كان المحرّك الرئيس للمعارضة والخصومة وما تبعها من القتال، وأنّ المصالح السياسية في بعض الصراع كانت دافعاً ثانوياً لا أصلياً.
الأوجه الدالة على أن الصراع كان صراعاً دينياً لا سياسياً
الوجه الأول: تكفيرُ المعارضين للإمام محمد بن عبد الوهاب واستحلالُ دمه ودم أتباعه
من الأوجه الدالة على أن الصراع عقديٌّ دينيٌّ: تكفيرُ الخصوم والمعارضين للشيخ ووصفُه بالضلال، واستحلالُ دمه ودم أتباعه، وقد سبق في الحلقة الخامسة نقلُ نصوصهم في تكفير الإمام وأتباعه، كما قضى به علماء مكة، وعلماء نجد في وقت الشيخ، وما أفتى به مفتي الدولة العثمانية، وغيرهم.
وقد أُطلق هذا التكفير والتضليل والدعوة لا تزال في مهدها قبل اقترانها بقوة السلطان، وكانت هذه الأحكام التي أطلقها الخصوم الدينيون المنتسبون للعلم المحرّكَ الرئيسَ للرؤساء والأمراء والوجهاء لمعارضة الدعوة ومحاربتها، يوضحه الوجه الثاني.
الوجه الثاني: أن المعارضة بدأت قبل نشأة الدولة في الدرعية
مخالفة المعارضين وخصومتهم لدعوة الشيخ بدأت قبل نشأة الدولة، بل قبل البدء بتطبيق مبادئها والذي كان مبدؤه في العيينة، فقد بدأ الشيخ دعوته في حريملاء التي قَدِمَ إليها قادماً من البصرة والإحساء ملتحقاً بوالده الذي انتقل إليها سنة 1139هـ، وكان قدوم الإمام محمد بن عبد الوهاب على والده ما بين عامي 1143-1147هـ حسب ما ذكره المؤرخون، وقد تعرّض الشيخ في حريملاء لبعض الإيذاء بسبب دعوته حتى همَّ بعض سفهائها بإيذائه.
قال مقبل الذكير: (سليمان بن محمد بن سحيم الخصم الديني الألد للشيخ محمد، وهو أكبر من قاوم دعوة الشيخ لمّا كان في حريملاء وفي العيينة). [«العقود الدرية في تاريخ البلاد النجدية»، خزانة التواريخ النجدية ٧/١٢٢]
وبعضُ الرسائل التي بعثها الشيخ جواباً على بعض معارضيه كانت في فترة وجوده في حريملاء، وأما أكثرها فكان في الفترة التي عاشها في العيينة والتي انتقل إليها بعد وفاة والده سنة 1153ه، وقبل انتقاله إلى الدرعية سنة 1157ه.
ومعلوم أن بقاء الشيخ في حريملاء وما لقيته دعوته وقتها من المعارضة، لم يكن بسبب مصالح سياسية، إذ لم يكن الشيخ وقتها مدعوماً من أمراء حريملاء حتى يُدّعى هذه الدعوى، بل كان حاله فيها كحال غيره من سكانها.
الوجه الثالث: المعارضة السياسية لدعوة الشيخ كانت قبل انتقاله إلى الدرعية
إنّ المعارضة السياسية لدعوة الشيخ من أمراء النواحي والأقاليم كمعارضة زعيم بني خالد في الإحساء كانت قبل انتقال الشيخ إلى الدرعية، أي قبل تكوين الدولة، ولذلك كتب زعيم بني خالد إلى أمير العيينة عثمان بن معمّر يأمره بقتل الشيخ أو طرده ويتوعده إن لم يفعل، ومعلوم أنه لم يكن ثمة تهديدٌ عسكري يخشاه زعيم بني خالد حتى يدفعه إلى هذه المعارضة إلا ما كان عليه الشيخ من الدعوة إلى التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وابن معمّر أمير العيينة لم يكن بقوة زعيم بني خالد أمير الإحساء، ولا قريباً منه، حتى يخشى نفوذه.
قال ابن غنام: (ثم إن الشيخ لمّا أعياهم ردُّ ما قاله من تلك المسائل الجليلة عدلوا إلى ردّها بالمكر والحيلة، فشكوه إلى شيخهم الظالم سليمان آل محمد رئيس بني خالد والحسا، وكان قبّحه الله مُغرماً بالزنا، مجاهراً به، غير مختفٍ به، وحكاياته في ذلك مشهورة، وقصصه فيه غير محصورة، فأغروه به، وصاحوا عنده، وقالوا: إن هذا يريد أن يُخرجكم من ملككم، ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور، ويحسم مادة الأمكاس والعشور. فلما خوّفوه بزوال محبوبه، وتفويت مطلوبه، كتب إلى عثمان المذكور يأمره بقتله أو إجلائه عن وطنه، وألزم عليه في ذلك غاية الإلزام، وشدّد عليه في حصول القصد والمرام، وصرّح في المكتوب بأنك إن لم تفعل المطلوب فمالُك عندنا مستباح، وليس علينا في ذلك من جناح). [«روضة الأفكار والأفهام» 2/3]
وقال ابن بشر: (فلما اشتهر أمره -أي: الشيخ- في الآفاق بذلك بلغ أمره سليمان بن محمد رئيس الإحساء وبني خالد، وقيل له: إن في بلد العيينة عالماً فعل كذا وكذا، وقال كذا وكذا، فأرسل سليمان إلى عثمان كتاباً يتهدّده فيه إن لم يقتل الشيخ أو يخرجه من بلده… فأرسل -أي: ابن معمّر- إلى الشيخ ثانياً، وقال: إن سليمان أمَرَنا بقتلك، ولا نقدر إغضابه ولا مخالفة أمره، لأنه لا طاقة لنا بحربه…). [«عنوان المجد» 1/39]
وهذا يؤكد أن الذي دفع أمير الإحساء إلى تهديد ابن معمّر وأَمْرِه بقتل الشيخ هو ما عليه الشيخ من الدعوة إلى التوحيد، وما قام به من الأمر والنهي، وإقامة الحدود، وإبطال المكوس، مما يخالف ما عليه عامّة رؤساء نجد وأمرائها.
إيراد وجوابه
فإن قيل: إنّ معارضة أمير الإحساء كانت سياسية بالدرجة الأولى خوفاً على سلطانه من تنامي قوة ابن معمّر في العيينة.
فالجواب من وجهين:
الأول: عدم التسليم بذلك، فإن ظاهر ما ذكره المؤرخون أن الذي أغرى أمير الإحساء وحرّضه على تهديد ابن معمّر هو ما قام به الشيخ من الدعوة والأمر والنهي، ولذلك قال ابن بشر: (وقيل له: إن في بلد العيينة عالماً فعل كذا وكذا، وقال كذا وكذا، فأرسل سليمان إلى عثمان كتاباً يتهدّده فيه).، وقال ابن غنّام: (فلما خوفوه بزوال محبوبه، وتفويت مطلوبه، كتب إلى عثمان المذكور يأمره بقتله أو إجلائه عن وطنه).
قلت: وهذا ظاهر في أنّ ما نُقل إلى أمير الإحساء من أقوال الشيخ وأفعاله، وخوفه من فوات محبوبه من المحرَّمات والمكوس هو ما أغضبه وحَمَله على الكتابة والتهديد.
الوجه الثاني أن يُقال: لو سلّمنا بأنّ الدافع الحقيقي وراء موقف أميرِ الإحساء من الشيخ سياسيٌّ لا دينيّ، فإنّ الذي صرّح به أمير الإحساء متذرّعاً به وعازياً كونه سبب غضبه وتهديده لابن معمّر هو ما قام به الشيخ من الدعوة والأمر والنهي، لا الخوف من تنامي قوة العيينة، ولا شك أن العبرة إنما هي بما يصرّح به الإنسان ويقوله ويُظهره لا بما يُضمره ويُسِرُّه، فمن أعلن معارضة دعوة التوحيد، وأظهر كراهة الأمر والنهي، وأنكر إقامة الحدود واستقبحها، وأظهر ذلك بلسانه، فهو محكومٌ بكفره وردّته، مع قطع النظر عمّا في قلبه وما يضمره في نفسه، وهذا هو أصل معارضة الأمم لأنبيائهم، فإنّ الأنبياء لم يُعارَضوا ويُكذَّبوا جهلاً بدعوتهم، أو لعدم وضوح حججهم وبراهينهم، وإنما كُذِّبوا وعورِضوا استكباراً وعلواً، فَجَحَدت أقوامهم ما جاءوا به من الحق، وأنكروا بألسنتهم ما هم موقنون به في قلوبهم، كما قال تعالى في قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}، وكما في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
وهذا أصلٌ من أصول الحكم على الأعيان، وهو أن الأحكام في الدنيا تُجرى على ما ظهر من الأقوال والأفعال، لا على ما بطن واستتر.
فإذا كان هذا هو حكم من عارض دعوة التوحيد وأحكام والشريعة بلسانه فقط دون فعله وقلبه، فكيف بمن عارضها بلسانه وفِعله، بأن استفرغ وسعه وبذل جهده في حَربِ دعوة التوحيد، وسَعَى في طمسها ووأدها في مهدها خشية انتشارها، واستغل نفوذه وسلطانه في التنفير عنها، وتهديدِ من دخل فيها وآمن بها واتبعها، فهل يشك مسلمٌ بكُفرِ من كان هذا حاله وردّته؟!
الوجه الرابع: تهديد بعض أمراء القبائل البدوية لكل من آوى الشيخ من البلدان
مما يؤكد أن المعارضة كانت دينية لا سياسية: ما ذكره صاحب «لمع الشهاب» من تهديد أمير قبيلة عنزة لابن معمر، وتهديده.
حيث قال: (وشاع أمره في نجد، فسمع بذلك سليمان بن شامس العنزي، وكان كبير قومه البداة، وكانوا ينزلون طرف العارض، فأرسل إلى كبار اليمامة من تميم وغيرهم أن هذا أمرٌ حدث عندكم، وقد أخرجه فلان العالم منكم –يقصد الشيخ- فإياكم ومتابعته، ولا تجعلوا له مسكناً ولا مأوى في اليمامة، فإن بلغني عنكم إبرارُه وإكرامُه لأركبن عليكم برجال وفرسان، ولأجول عليكم بعنزة كلها). [«لمع الشهاب» ص69]
قلت: ومعلوم أن أمراء القبائل البدوية ليس لهم ملكٌ يخشون زواله بدعوة الشيخ، ولا لهم أرض يخافون دخولها تحت نفوذ دولة الدعوة، إذ الإمارة فيهم وراثية لا يُمكن انتزاعها بقوة خارجية، كما أنهم بدوٌ رُحّل يَتْبَعون مواضع القَطْر ومنابت الزرع، فأرضُهم كلُّ مورد ماءٍ ومنبت زرعٍ، متى شعروا بتهديدٍ في أرض رحلوا عنها.
وهذا يؤكد أن خصومة هذا الأمير البدوي للشيخ وإنكاره دعوته لم تكن خوفاً على إمرته، ولا خشيةً من زوال أرضه، بل كانت على ما دعا إليه الشيخ من التوحيد، وما قام به من الأمر والنهي وإقامة الحدود.
الوجه الخامس: موقف أشراف مكة من الدعوة قبل قوة الدولة في الدرعية
مما يؤكد أن المعارضة التي لقيتها دعوة الشيخ كانت دينية عقدية لا سياسية: الموقف الذي اتخذه أشراف مكة من الدعوة، فإنهم قابلوها بالتضليل والتكفير، ومكاتبةِ الباب العالي وإغراء السلطان العثماني على غزو نجد لوأد الدولة الناشئة، فالشريف مسعود بن سعيد، وكان قد تولى شرافة مكة ما بين عامي 1146هـ و1172ه، قد كاتب الحكومة العثمانية سنة 1162ه يُحرّضها على غزو الدرعية ووأد الدعوة، في وقت لم يكن ثمة تهديدٌ يخافه أشراف مكة على ملكهم، قريباً كان أو بعيداً، فإن الدولة في الدرعية كانت في تلك الفترة فتية في أول نشوئها، ولم يمتد نفوذها ويعظم سلطانها إلا بعد تلك السنة بمدة طويلة.
قال إسماعيل حقي جارشلي: (لقد أرسل الشريف مسعود عريضة إلى الحكومة في 1162ه/1749م أشار فيها إلى وجود شخص من أهالي العيينة، وهي إحدى قرى نجد، يُدعى محمد بن عبد الوهاب يصدر اجتهادات، وقد ردّت الحكومة على عريضة الشريف بكتاب جوابي في سنة 1163ه طلبت فيه إقناعَ هذا الشخص، وأمرت واليَ ولاية حبش ومتصرفَ جدة وشيخَ الحرم المكي عثمان باشا بأن يعمل بنشاط مع أمير مكة المكرمة بهذا الخصوص).
ثم أورد المؤلف في الحاشية الفرمان السلطاني: (أمرٌ إلى أمير مكة المكرمة حالياً الشريف مسعود دام سعد… لقد ظهر شخص سيئ المذهب «bed mezheb» في العيينة، وهي إحدى قرى نجد في جهة الشرق، وقام بإصدار اجتهاداتٍ باطلةً ومخالفةً للمذاهب الأربعة، ونشرِ الضلالة والترغيبِ بها، وبناء على إعلامكم إيانا واقتراحِكم السابق، فإن عليكم المبادرةَ إلى زجر وتهديد المفسدِ المذكور وأتباعِه بمقتضى الشرع المطهر، وإمالتِهم إلى طريق الصواب، أما إذا أصروا على معلنتِهم فإن عليكم إقامةَ وتنفيذَ الحدودَ الإلهيةَ الواجبةَ شرعاً، وقد أصدرت إليكم يا شريف مكة المشارَ إليه أمري هذا خطاباً، ولما كنتم قد أبلغتم الدولةَ العلية في كتبكم الواردة إلى دار السعادة (إسطنبول) بحاجتكم إلى الإمدادات والمعونات بسبب تمكن الملحد من كسب سكان المناطق إلى جانبه بكل الحيل، بحيث لم يعد ممكناً التقربُ من تلك الأطراف، فإن التقاعس بخصوص هذا الشخص المذكور (محمد بن عبد الوهاب) سيؤدي إلى ظهور حاجةٍ إلى قوات أكثرَ عدداً لمحاربة الشخص المذكور، لقد صدر أمر السلطاني بخصوص سيركِم ضد الشخص المذكور واستئصاله، وأن إيذاءهم بسيف الشريعة وتطهيرَ الأراضي المقدسة (منهم) يعتبر عقوبةً «سياست» لهم وواجباً يفرضه الدين، ولأجل تسديد مصاريف رواتب ومؤن العسكر الذين ستقومون بتسجيلهم لهذه المهمة فقد أنعمت عليكم بمبلغ 25 كيس رومي من الأقجات من إرسالية مصر لسنة 1163ه… [أرشيف رئاسة الوزراء – وثائق الداخلية تصنيف جودت – الرقم 6716 أواسط شوال 1164ه]. [«أشراف مكة المكرمة وأمراؤها في العهد العثماني» ص179-180]
قلت: وهذا ظاهرٌ في أنّ الدافع إلى تكليف السلطان العثماني شريف مكة بقتال الدرعية ووأد الدعوة، إنما هو الجانب الدينيّ الشرعي الذي دعا إليه الشيخ وأقامه، وليس الجانبَ السياسي.
يؤكده: أنّ الدولة العثمانية لم يمتد لها نفوذٌ في نجد قبل ذلك بحيث تخشى زواله بظهور دعوة الشيخ وتنامي قوة الدرعية حتى تأمر شريف مكة بغزوها.
وعدمُ امتداد نفوذ الدولة العثمانية إلى نجد ليس لعجزها عن ذلك، وإنما لعدم رغبتها فيه، إذ لا مصلحة تعود على الدولة العثمانية في اجتياز تلك الصحاري الكبيرة حيث لا ماء ولا زرع، ولا منفعة في السيطرة عليها، ولذلك أَهملت الدولة العثمانية تلك الأراضي واكتفت ببسط نفوذها على المناطق الساحلية المهمة من الجزيرة والحرمين وطرق القوافل.
قال الوكيل السياسي البريطاني ديكسون (١٢٩٨-١٣٧٨هـ): (ولكنّ الأتراك لم يستطيعوا في وقت من الأوقات ادعاء ملكية تلك الأراضي من الجزيرة العربية الواقعة وراء المنطقة المحيطة بالبحر الأحمر مباشرة، وفي القرن التالي دَفَعَتهم الحركات الوطنية من هناك فلم تتعدّ سيطرتهم على الجزيرة العربية طرق الحج من دمشق والقاهرة). [«الكويت وجاراتها» 1/108]
وقال الباحث لي ديفد كوبر: (في بداية القرن الثامن عشر الميلادي كان السلطان العثماني لا يزال في نظر الناس خادم الحرمين الشريفين، ولكنّ نفوذه لم يمتد إلى داخل شبه الجزيرة العربية، فظلّت نجد عبارة عن مشيخات صغيرة متناحرة). [«الحركة الوهابية في عيون الرحالة الأجانب» ص35]
وعلى هذا، فعندما تأمر الدولة العثمانية شريف مكة باجتياح نجد وغزو الدرعية، وهي لم تكن في وقت من الأوقات مواقع نفوذ للأتراك، يُعلم أنه لا سبب يدعو إلى ذلك إلا الخلاف الديني العقدي، وهو عين ما صرّح به السلطان في فرمانه.
الوجه السادس: منعُ الحج عن أهل نجد من دلائل كون الصراع دينياً لا سياسياً
مما يؤكد أن الخصومة دينية لا سياسية: منعُ أشرافُ مكة أهلَ نجد من الحج ومن دخول مكة منذ سنة 1162ه في عهد الشريف مسعود بن سعيد.
قال ابن بشر في أحداث سنة 1162هـ: (وفيها حَبَسَ مسعود بن سعيد شريف مكة حاجّ نجد، ومات منهم في الحبس عدّة). [«عنوان المجد» 1/59]
وقد استمر هذا المنع إلى سنة 1218هـ بعد دخول الإمام سعود بن عبد العزيز مكة وخروج الشريف غالب منها.
مع العلم بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود حاولا إقناع الأشراف بالسماح لأهل نجد بالحج أكثر من مرة، ولو بِدَفْعِ مبالغ مالية سنوية، لكنّ الأشراف امتنعوا.
فقد أرسل الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب وفداً إلى مكة برئاسة الشيخ عبد العزيز الحصين سنة 1185ه لإيضاح حقيقة ما يدعون إليه، وذلك بطلبٍ من الشريف أحمد بن سعيد، فتم اللقاء والتباحث، ولكن مع ظهور حُجّة وفد الدرعية على علماء مكة أصرّ شريف مكة على معارضة الدعوة والاستمرار في منع أهل نجد من القدوم إلى مكة.
وفي سنة ١٢٠٤هـ أُرسل الشيخ عبد العزيز الحصين مرة أخرى إلى مكة بطلبٍ من الشريف غالب، لكن لم يُسفر اللقاء عن شيء، واستمرّ شريف مكة في منع الحج عن أهل نجد.
وفي سنة ١٢١١هـ أُرسل وفدٌ ثالث برئاسة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر إلى مكة بطلبٍ من الشريف غالب بن سعيد، وعُقدت عدة لقاءات، وجرى التحاور والتباحث فيها حول أصل الدّين، وانتهت تلك اللقاءات بعِناد علماء مكة وإصرارهم على معارضة الدعوة، وإغراء الشريف غالب على الشيخ وأتباعه.
على أنه قد تخلّل هذه المدة الطويلة (١١٦٢هـ – ١٢١٨هـ) سماحٌ محدودٌ في حجّ أهل نجد، كما جرى سنة 1187هـ، وكذلك في فترة الصلح مع الشريف غالب سنة ١٢١٤هـ حيث حجّ بعض أهل نجد مرتين أو ثلاثة، وكان سبب هذا الصلح: الهزائم المتكررة التي مُني به الشريف غالب على يد الدولة، وذلك قبل انتزاع مكة منه.
وعلى هذا، فمَنعُ أهل نجدٍ من الحج من سنة 1162هـ، أي: قبل تنامي قوة الدولة وامتداد نفوذها، يؤكد أن الخصومة لم تكن سياسية، بل كانت بسبب ما تتبنّاه الدولة من دعوةٍ وعقيدةٍ تخالف ما عليه أشراف مكة وعلماؤها، لا سيما أنّ مَنْعَ الحج كان عامًّا على أهل نجد لم يكن مخصوصاً بأهل الدرعية ومن دخل في دعوتها. فلم يكن للمنع سببٌ إلا اعتقاد الأشراف وعلماء مكة بطلان ما عليه أهل نجد من العقيدة والشريعة، يؤكده: موقف علماء مكة من الدعوة في المناظرات التي عُقدت بين يدي الأشراف، إذ إنها لم تُسفر عن إقرارٍ بصحة أصول الدعوة وصواب مبادئها، بل أصرّوا فيها على الحكم بضلال الشيخ، وكفرِه وكفرِ أتباعه، وكان هذا هو الدافع لأشراف مكة في الاستمرار بمنع أهل نجد من الحج.
قال ابن غنّام في ذِكرِ ما جرى في لقاء الشيخ عبد العزيز الحصيّن مع شريف مكة سنة 1204هـ: (فقَدِمَ عبد العزيز الحصيّن مكة المشرفة فأكرمه غالب وشرّفه، واجتمع به مرات عديدة، وعَرَضَ عليه رسالة الشيخ المفيدة، فعَرَفَ ما بها من الحق والهدى، وما نفته من الباطل والردى، فأذعن بذلك وأقر، ثم بعد مدة أبى وكفر وتمسّك بقديم سنته وأصرّ، وطلب منه عبد العزيز الحصيّن أن يُحضر العلماء معه فيقف على كلامهم ويسمعه ويناظرهم في أصول التوحيد فأبوا عن الحضور). [«روضة الأفكار والأفهام» 2/145]
الوجه السابع: تأكيدُ الشيخ نفسه في أكثر من موضع على أنّ القتال قائمٌ على الدين
قال الشيخ -رحمه الله- في إحدى رسائله بعد مضي سنين طويلة من القتال: (فكيف بجماعات عديدة، بين الطائفتين من الاختلاف سنين عديدة ما هو معروف؟ حتى إنّ كلاًّ منهم شَهَرَ السيف دون دينه، واستمر الحرب مدة طويلة، وكلٌّ منهم يَدَّعي صحة دينه ويطعن في دين الآخر، نعوذ بالله من سوء الفهم وموت القلوب، أهلُ دينين مختلفين، وطائفتان يقتتلون، كلٌّ منهم على صحة دينه، ومع هذا يُتصّور أنّ الكلَّ دينٌ صحيح يُدخل من دان به الجنة {سبحانك هذا بهتان عظيم} فكيف والناقد بصير). [«مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» 6/173]
وكلام أئمة دعوته من بعده في تأكيد هذا الأمر كثير.
وقد قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في رسالته لأهل مكة: (ولا نُكفّر إلا من بلغته دعوتنا للحق، وَوَضَحَتْ له المحجّة، وقامت عليه الحجّة، وأصرّ مستكبراً معانداً، كغالبِ من نقاتلهم اليوم، يُصرّون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات، وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به، ولتكثير سواد من ذُكِر، والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله). [«الدرر السنية» 1/243]
قلت: وهذا يُؤكد أن القتال الذي جرى في تلك الفترة إنما وَقَع بين فريقين: فريقٍ يُوحّد الله، ويدعو إلى إقامة دينه وشرعه، وآخر يُصرّ على الشرك والبدع ويمتنع من فعل الواجبات، أو ينصرُ من يفعل ذلك.
فهذه هي حقيقة الصراع الذي جرى ووقع في تلك الفترة، فإنه لم يكن صراعاً سياسياً، ولا طمعاً في مكاسب مادية دنيوية، وإنما كان صراعاً دينياً عقدياً، يؤكده: الوجه الثامن.
الوجه الثامن: دعوة الدولة القبائل والقرى إلى التزام أحكام الإسلام قبل غزوها
فإن الدولة لم تكن تغزو بلداً أو قبيلة حتى تدعوهم إلى التوحيد وتَرْكِ الشرك والتزام أحكام الإسلام، فإن قبلوا وأذعنوا كُفّ عنهم، وإن أبوا وأصرّوا على مخالفة ما دُعوا إليه قوتلوا.
وقد نَقَل القنصل الفرنسي في بغداد سنة 1224هـ جون لوي رسّو بعض نصوص رسائل الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود للقبائل، فقال -مع التنبيه على أن هذا النص مترجمٌ من الأصل الفرنسي-: (من عبد العزيز إلى قبيلة… السلام عليكم. أَمَرَكم الله بالتمسك بالقرآن كما هو واضح، فلا تكونوا ضمن الكفرة الذين يُحرّفون الكلام المقدّس عن مواضعه، ويزعمون بأن لله الخالق الأحد شريكاً، وهو أعظم من كل شيء، عودوا إلى أحكامي واهتدوا، أو انتظروا الهلاك بنار النقمة التي أودعتها السماء بين قبضتي لإبادة المشركين). ا.ه. [«الوهابية بتقارير القنصلية الفرنسية في بغداد»، ترجمة هدى معوض وخالد عبد اللطيف حسن، ص132]
كما أن الفرنسي جان ريمون، وكان ضابط مدفعية لدى والي بغداد في الفترة ما بين عامي 1217-1222هـ، قد ذَكَر طريقة دعوة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود للقرى والقبائل، فقال: (كان عبد العزيز يُرسل للقبائل العربية قبل مهاجمتها رسولاً يحمل القرآن بيد، والسيف بالأخرى، ويحمل تحذيراً موجهاً للقبيلة التي يودّ إخضاعها، وكانت الرسالة مصوغة بعبارات مستوحاة من عقيدة الإصلاح، وإليكم قطعة من تلك الدعوة الموجزة: «السلام على القبيلة الفلانية، إذا استجبتم لدعوتي فأنتم آمنون، وإن ضربتم بها عرض الحائط فإن غضب الله سيحل عليكم»). [«التذكرة في أصل الوهابيين ودولتهم»، ترجمة وتعليق: محمد خير الدين البقاعي، ص54]
وهذا يعني أنه لم يُقاتَل ويُحارَب في تلك الفترة إلا من أبى الاستجابة لدعوة التوحيد والتزام أحكام الشرع، ولا شك أن قتالَ هؤلاء حينئذٍ واجبٌ ومتعينٌ وجهادٌ في سبيل الله، وأما من استجاب لدعوة التوحيد والتزم أحكام الشريعة، وأقام الحدود فقد كُفّ عنه.
قلت: وهذا من الدلائل الظاهرة على أن القتال الواقع آنذاك كان على التزام أحكام الشريعة، والانقياد لدعوة التوحيد، وهذا النوع من القتال لا ريب أنه قتال ديني شرعي وليس قتالاً سياسياً دنيوياً.
الوجه التاسع: الشواهد التاريخية تؤكد على أن الصراع عقائدي لا سياسي
من تأمل الوقائع التاريخية التي جرت فترة قيام الدولة وانتشار الدعوة الإصلاحية، وتفحّص مجريات الأحداث، عَرَف طبيعة الصراع، وأدرك حقيقة الخلاف بين الدعوة ومعارضيها، وأنّ مداره: الأصل التي قامت عليه دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهو الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وتَرْكِ الشرك ومحوِ صوره ومظاهره، والتزام أحكام الشريعة، وإقامة الحدود.
وقد أفاض العلامة المؤرخ أبو بكر بن غنّام في تصوير الوقائع، وسَردِ المجريات، وتعليلِ الأحداث، وذِكْرِ منشأ الخلاف والصراع، وقد وافقه فيما ذَكَر كلّ من أرّخ لتلك الفترة ممن أدرك الأحداث أو جزءاً منها، أو كان قريباً من عهدها.
ولعلي أذكر بعض الوقائع والأحداث التاريخية التي جرت في صراع الدعوة مع معارضيها مما يُبيّن طبيعة الصراع بين الفريقين، ويُؤكد كونه دينياً عقدياً لا سياسياً:
الحادثة الأولى: حادثة ضْرُما سنة ١١٦٤هـ
من الحوادث الدالة على أن الخصومة كانت دينية: ما جرى من أهل ضْرُما عندما نكثوا عهد الدولة، وخرجوا عن الطاعة، فإنهم قاموا بقتل كلِّ مُعلِّم من معلِّمي التوحيد في ضْرُما.
قال ابن بشر في أحداث 1164ه: (وفيها حارب إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن أمير ضْرُما، ونقضَ العهد، وقتلَ جماعة من أشراف جماعته وقومه: عمرَ الفقيه، ورشيدَ الغزاوي، وابنَ عيسى –وهو قاضي الدرعية سابقاً المعروف-، لأنهم دعاة الدين عنده، ولهم ثروة ومال، فأخذ مالهم). [«عنوان المجد» 1/61]
ومعلومٌ أن نقض العهد مع الدرعية ليس مبرراً لقتل دعاة التوحيد ومعلّميه، فإنه يمتنع أن يُقدم على قتل هؤلاء خاصة، وهم أهل دينٍ لا أهل سياسة، إلا من كان كارهاً لما هم عليه من الدعوة، مُنكراً لها.
الحادثة الثانية: نقض حريملاء للعهد سنة ١١٦٥هـ وإنكار الدعوة الإصلاحية
ففي سنة ١١٦٥هـ، نقضت حريملاء العهد بتحريض من سليمان بن عبد الوهاب، حيث أثار الشبهات حول أصول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأخذ يصرّح ببطلان ما دعا إليه الشيخ من التوحيد، ويُنكر أن يكون دعاء الموتى والاستغاثة بهم شركاً أكبر مخرجاً من الملّة، وصار يكاتب البلدان خفية، ويرسل إلى أهلها رسائل في نقض أصول دعوة الشيخ، مما دفع الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الكتابة في إبطال ما أثاره أخوه سليمان من شبهات، في رسالته المعنونة بـ «مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد».
وعلى إثر جهود سليمان بن عبد الوهاب في الصدّ عن الدعوة والتشكيك فيها نَقَضَت حريملاء العهد، وتمالأ أهلها على قتل دعاة التوحيد، وأَنكَرَت الدعوة التي كانت قد دخلت فيها وقَبِلت أصولها قبل ذلك، فتولّد عن ذلك نشوء الحرب بين الدرعية وحريملاء.
قال ابن غنّام في أحداث سنة ١١٦٥هـ: (وفيها وقعت من أهل حريملاء الردة والافتتان، واجتمع على ذلك كل إنسان من أهل الفساد والعصيان، وتمالؤوا على قتل من عندهم من أهل التوحيد والإيمان، وحملهم على ذلك الشيطان، وزيّن لهم ما كانوا عليه سابقاً من البغي والطغيان، وزخرف لهم سنته القديمة في غابر الأزمان… واستنشق الشيخ من أخيه سليمان أنه لأسباب الردّة مِعوان، وأنه يُلقي إلى الرؤساء وخاصة من الجلساء شبهاً كثيرة…). [«روضة الأفكار والأفهام» ٢/١٧]
وقال ابن بشر: (وفيها قام أناس من رؤساء بلدة حريملاء وقاضيهم سليمان بن عبد الوهاب على نقض عهد المسلمين ومحاربتهم). [«عنوان المجد» ١/٦٥]
الحادثة الثالثة: نقض منفوحة للعهد سنة ١١٦٦هـ وإنكار الدعوة الإصلاحية
قيام أهل منفوحة سنة ١١٦٦هـ بنقض العهد مع الدولة، وإنكار الدعوة، وطردِ إمام المصلين.
قال ابن غنّام: (وفي أواخر تلك السنة ارتدّ أهل منفوحة عن الدين، ونبذوا عهد المسلمين، وطردوا محمد بن صالح إمام المصلين، والله لا يهدي كيد الخائنين، فلما وقعت هذه الواقعة خرج مهاجراً من نفسه إلى الحق وازعة… وكان من خرج منهم في يوم سبعين ثم بعده تلاحق أناس منهم مسترسلين). [«روضة الأفكار والأفهام» ٢/١٩]
وقال ابن بشر: (وفيها نقض أهل منفوحة العهد، وحاربوا المسلمين، وطردوا إمامهم محمد بن صالح، وهاجر منهم إلى الدرعية في يوم سبعون رجلاً). [«عنوان المجد» ١/٦٦]
قلت: وطردُهم إمامَهم ومن يقوم بتعليمهم التوحيد ويُبيّن لهم حقيقة الدعوة التي جاء بها الشيخ لم يكن إلا كراهية لهذه الدعوة، وإنكاراً لها، إذ لا يُعقل أن يقوموا بطرد من يعلّمهم الدين الذي هم يدينون به، وأن يَخرج منهم سبعون ممن قَبِلوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآمنوا بمثل ما هم مؤمنون به، لمجرد أمر دنيويٍّ أو سياسيٍّ أو عصبيٍّ، هذا ممتنع، بل لم يطردوا إمامهم إلا لإنكارهم الدعوة التي يدعو إليها، وبغضهم إياها، فلم يخرج من خرج منهم من قومهم إلا فراراً بدينهم.
الحادثة الرابعة: ما جرى من أهل الدلم سنة ١١٩٠هـ
قال ابن غنّام في أحداث سنة ١١٩٠هـ: (وفيها وفد أهل اليمامة وأميرهم البجادي حسن، فقدموا على الشيخ وعبد العزيز في ذلك الوطن، جدّدوا للإسلام عهداً، وأرسل معهم مُعلِّماً في ذلك المبدأ وهو حمد العريني، فسار معهم لأجل نشر التوحيد والتعليم، ومكث عندهم حتى صَدَر منهم ذلك الأمر العظيم، والخطب الجسيم، وذلك أن أهل تلك القرية شرعوا ينسجون أردية الغدر والفرية، وينظمون أحوال الخيانة والردة بلا مرية، ويدبّرون فيها مظلم الآراء، ويديرون أسباب التعدي والاجتراء، ويحاولون الفتك بمن عندهم من أهل الدّين، حتى اجتمعوا عليه بيقين، وتعاهدوا عليه مجتمعين، وتجاهروا به غير مختفين، فلما تحقّق منهم ذلك حمد العريني وابن داعج، وعرفوا أنهم من غير شك يريدون الردة، وأنهم يبغونهم بالقتل غداً أو بعده، خرجا منهم هاربيْن، وكانا للسلم طالبيْن…). [«روضة الأفكار والأفهام» ٢/٩٦]
وهكذا تتكرر الأحداث، ويكون الضحية دائماً عند نكث العهود والنكوص عن تبعية الدولة ورفض قبول الدعوة: هم دعاة التوحيد ومعلّموه.
الحادثة الخامسة: حادثة أهل حَرْمة سنة ١١٩١هـ
قال ابن لعبون في تاريخه: (وفي سنة 1191ه: قاد عثمان بن عبد الله أمير المسلمين على أهل حَرْمة، وذُكر أنه متحقّق منهم ما يدل على المخالفة… فلما كان وقت المقيض من تلك السنة أجمع أمر أهل حَرْمة على قتل أميرهم عثمان بن حمد بن عثمان راعي المجمعة، وأنّهم يُمسكون في رهائنهم الذين في الدرعية أضعافهم ممّن ينتسب إلى الدين من أهل المجمعة). [«تاريخ ابن لعبون» ص١٨٦]
قلت: يعني ابن لعبون بـ«أهل الدين»: أتباعَ دعوة الشيخ والدّاعين إليها، فانظر كيف أخذوا أهل الدين رهائن يساومون الدولة عليهم، ومعلومٌ أنه لو كان أهل حَرْمة مقرّين بالدعوة التي يُقرّ بها أولئك الرهائن، ومؤمنين بما دعت إليه، ما اتّخذوا أهل الدّين ودعاة التوحيد رهائن يساومون الدولة عليهم، بل لم يفعلوا ذلك إلا لكونهم مخالفين لما يدين به أولئك الرهائن ويعتقدونه.
الحادثة السادسة: نقض أهل القصيم للعهد وتعاهدهم على قتل معلّمي التوحيد
من الشواهد التاريخية التي تؤكد كون الصراع دينياً عقدياً: ما جرى من أهل القصيم سنة 1196ه حيث قاموا بنقض العهد مع الدولة، وتعاهدوا على أن يقوم كلّ أهل كل قرية من قرى القصيم بقَتلِ مَنْ فيها من معلِّمي التوحيد ودعاته «المطاوعة»، وهي الحادثة التي تُعرف بالتاريخ بـ«ذَبْحة المطاوعة».
قال الفاخري (1277ه) في تاريخه: (وفي سنة 1196ه ذَبْحة المطاوعة). [«تاريخ الفاخري» ص149]
وقال ابنُ لعبون (1257ه) في تاريخه: (وفي سنة 1196ه أقبل بنو خالد على القصيم، وانقلبوا -يعني: أهل القصيم- عن الدين، وقَتَلوا مَنْ عندهم ممّن ينتسب إلى الدين -ثم سمَّى رجالاً من أئمة المساجد والمعلِّمين-). [«تاريخ ابن لعبون» ص١٩٤]
وقال عبد الله البسام (١٣٤٦هـ) في أحداث سنة 1196ه: (وفي هذه السنة أجمع أهل القصيم على نقض بيعتهم لابن سعود سوى أمير بريدة والرس وتنومة، وتعاهدوا على أنّ كل أهل بلد يقتلون المُعلّمة الذين عندهم، -ثم سمّى جماعة-). [«تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق» ص224]
قلت: وهذه الواقعة تؤكد أن الخصومة بين أهل القصيم آنذاك والدولة لم تكن سياسية فحسب، بل كانوا مُعادِين لما حَمَلَته الدولة من الدعوة، ولذا أقدموا على قتل كلِّ من ينتسب إلى الدين من المعلّمين والأئمة الذين لا علاقة لهم بالأمور السياسية.
بل إنهم أفحشوا في ذلك، حتى علّقوا بعض المعلّمين بقصبة رجله وهو حي، كما أرسلوا بعضهم لابن عريعر ليتفكّه في قتلهم.
قال ابن بشر: (قام كلّ أهل بلد وقَتَلوا من عندهم من العلماء المعلّمة، فَقَتَل أهل بلد الخبرا إمامهم في الصلاة منصور أبا الخيل يوم الجمعة وهو قاصدٌ المسجد، وقُتل ثنيان أبا الخيل، وقَتَل آلُ جناح رجلاً عندهم من أهل الدين والصلاح ضرير البصر، وصَلَبوه بعصبة رجله وفيه رمق حياة… وحين نزل -أي: سعدون بن عريعر- بريدة أرسل إليه أهل عنيزة على سبيل الإكرام والامتثال مَنْ كان عندهم من معلّمة أهل الدين، وهما عبد الله القاضي وناصر الشبيلي، وقالوا: هذان كرامة لك، وهدية منا إليك، فَقَتَلهم سعدون صبراً). [«عنوان المجد» ١/١٤٥-١٤٦]
وقد حاول مقبل بن عبد العزيز الذكير (ت: ١٣٦٣هـ) دَفْعَ التهمة عن أهل القصيم في هذه الحادثة، فادّعى أنّ الذي حرّض أهل القصيم على قتل المعلّمين هو سعدون بن عريعر، وأنّ أهل القصيم قاموا بذلك على خلاف إرادتهم.
قال الذكير: (فَكَتَب -أي: ابن عريعر- إلى أمراء القصيم يأمرهم بقتل من عندهم من طلبة العلم المعروفين بميلهم إلى ابن سعود، ويتهدّدهم إذا لم يفعلوا، ويخبرهم أنه قادم إليهم… إذاً فما لهذا التهويل والتشنيع على أهل القصيم…). [«مطالع السعود في تاريخ نجد وآل سعود»، خزانة التواريخ النجدية ٧/١٣٤]
قلت: ومقبل الذكير لم يذكر مستنداً تاريخياً على دعواه، بل هي خلاف ما أطبق عليه مؤرخو نجد في وصف هذه الحادثة، حيث ذكروا أنّ أهل القصيم أقدموا على قتل المعلّمة بمحض إرادتهم، وكاتبوا ابن عريعر للقدوم عليهم.
وممن ذكر ذلك من المؤرخين، إضافة إلى ما سبق نقله عن ابن لعبون والفاخري، والبسام:
ابن غنّام كما في «روضة الأفكار والأفهام» ٢/١١٢.
وابن بشر في «عنوان المجد» ١/١٤٩.
وإبراهيم بن صالح بن عيسى في «تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد» ص٩١.
وصالح بن عثمان القاضي (ت:١٣٥١هـ) في «تاريخه» كما في «خزانة التواريخ النجدية» ٨/١٥.
وإبراهيم بن ضويان (ت: ١٣٥٣هـ) في «تاريخه»، كما في «خزانة التواريخ النجدية» ٣/١٨٠.
والذكير قد عُرف عنه تعصّبه لأهل القصيم في تاريخه، وتكلّفه الجواب عن بعض ما نُقم على أهل القصيم من المواقف والأفعال المدوّنة والمثبتة في كتب التاريخ، ومنها: دفاعه عنهم فيما ذُكر عنهم من دورهم في إقناع محمد علي باشا للعدول عن الصلح مع عبد الله بن سعود سنة ١٢٣٢هـ.
فقد قال الذكير عن هذه الحادثة: (ولا صحة لقول ابن بشر: إنّ نَقْضَ السِّلْم جرى بسبب أهل القصيم وبعض البوادي، وإنما هي تخيلات ابن بشر الذي يُحيل كلّ أمر إلى أهل القصيم، لأنهم يتهمونهم بعدم الإخلاص للولاية، كما اتّهموهم بعد ذلك بإخراج الشريف محمد بن عون أيام الإمام فيصل كما يأتي في ذلك بمحله، وهذا إنْ دلّ على شيء فإنما يدل على ضيق التفكير وعدم الإحاطة بمجاري الأمور…). [«مطالع السعود في تاريخ نجد وآل سعود»، خزانة التواريخ النجدية ٧/١٦٥]
وقد حاول بعض الكُتّاب اليوم تصوير الخلاف والصراع مع الدعوة والدولة على أنه صراعٌ سياسيٌّ، لا سيما مع أهل القصيم، منهم الدكتور أحمد بن عبد العزيز البسام -هداه الله-.
الوجه العاشر: أن يُقال:
لو أننا سلّمنا أنّ معارضة أهل القصيم وغيرهم من القرى والبلدان للدولة كانت سياسية بالدرجة الأولى، فإنّ مما لا شك فيه أنّ مظاهر الشرك التي أشار إليها الشيخ في رسائله، وذَكَرها المؤرخون في تواريخهم مما انتشر في قرى نجد وخارجها، كالأشجار والأحجار والأضرحة والزوايا ونحوها مما يُتبرك به ويُلتجأ إليه ويُعتقد فيه، وغير ذلك من المظاهر الشركية التي عمّت وطمّت، كان الواجب والمتعيّن على أهل القرى والأمصار والأقاليم إزالتَها، ونهيَ الناس عنها، فإذا تَرَك أهل القرى وذوو الشأن فيهم هذا الواجب، فَأبْقَوْا هذه المظاهر، ولم يَمنعوا الناس عنها وعن قَصدِها وعبادتها والتبرك بها، مع قطع النظر عن اعتقادهم فيها، وَجَبَ حينئذ على من قَدَرَ من حُكّام المسلمين قتالُهم حتى تُزالَ هذه المظاهر، ويُعلَن بالتوحيد والسنّة.
وقد نقل غير واحد من العلماء وجوبَ قتال كلِّ طائفة ممتنعة إذا امتنعت عن إقامة بعض شرائع الإسلام الظاهرة الواجبة المتواترة، وإنْ كانت مُقرّة بها.
قال ابن تيمية: (وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة، فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله، كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة) [«مجموع الفتاوى» ٢٨/٥٦]
وقال في موضع آخر: (وقد اتفق علماء المسلمين على أن الطائفة الممتنعة إذا امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها إذا تكلموا بالشهادتين، وامتنعوا عن الصلاة، والزكاة، أو صيام شهر رمضان، أو حج البيت العتيق، أو عن الحكم بينهم بالكتاب والسنة، أو عن تحريم الفواحش، أو الخمر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن استحلال النفوس والأموال بغير حق، أو الربا، أو الميسر، أو الجهاد للكفار، أو عن ضربهم الجزية على أهل الكتاب، ونحو ذلك من شرائع الإسلام، فإنهم يُقاتَلون عليها حتى يكون الدين كله لله). [«مجموع الفتاوى» 28/545]
وهذه الطائفة الممتنعة تُقاتل على مجرد الامتناع عن إقامة شريعة واجبة ظاهرة، لا على تركِ الإقرار بها، ولذلك يُقاتَلون على تَركِ الشريعة الظاهرة ولو كانوا مُقرّين بها غير جاحدين لها، كما قاتل الصحابة رضي الله عنهم من مَنَعوا أداء الزكاة مع إقرارهم بوجوبها.
قلت: فإذا كانت الطائفة التي تمتنع من تحريم الربا أو الخمر، أو تمتنع من تحكيم الشريعة، أو القيام بالجهاد الواجب، يجب قتالها ولو كانت مُقرّة بهذه الشرائع، فكيف بالطائفة التي تمنعُ انتشار دعوة التوحيد وتقف دون ذيوع مظاهره، بل تُقرُّ الشرك وتقرُّ مظاهره، ولا تمنع منه مع قدرتها على ذلك؟! فلا شك أن قتالها أوجب وآكد، حتى لو كانت مقرّة بالتوحيد معتقدة بطلان الشرك. يوضحه الوجه الحادي عشر.
الوجه الحادي عشر: أن يُقال:
لو أننا سلَّمنا بخُلوّ بعض قرى نجد من مظاهر الشرك، وسلّمنا بأن شرائع الإسلام الواجبة ظاهرة فيها، فإنّ من المعلوم أن من لوازم التوحيد: محبَّتَه ومحبة أهلِه وموالاتِهم، وبغضَ الشركِ وبغض أهلِه ومعاداتِهم، بل هو من شروط كلمة التوحيد، فإذا لم يَظْهَر من هذه القرى محبةٌ للتوحيد وأهلِه، ولم يظهر منهم بغضٌ للشرك وأهلِه، بل وُجد منهم موالاةٌ لأهل الشرك وذبٌّ عنهم، أو نصرتُهم على أهل التوحيد، فلا شك حينئذٍ في ردّة هؤلاء ومروقهم من الدين لتركهم بعض لوازم التوحيد الذي ينتفي بانتفائها، وهذا ما نبَّهَ عليه الشيخ في كثيرٍ من رسائله، ومنها رسالته لابن جماز في شأن أهل القصيم خاصة.
حيث قال في رسالته إلى عبد الله بن علي ومحمد بن جماز: (وأهلُ القصيم غارّهم إنْ ما عندهم قببٌ ولا سادات، ولكن أخبرهم أن الحُبَّ والبغض والموالاةَ والمعاداةَ لا يصير للرجل دينٌ إلا بها، ما داموا ما يبغضون أهلَ الزلفي وأمثالهم فلا ينفعهم تركُ الشرك، ولا ينفعهم قول: لا إله إلا الله، فأهم ما تفطنهم له كون التوحيد من أخلَّ به مثل من أخَلَّ بصوم رمضان ولو ما أبغضه، وكذلك الشرك إن كان ما أبغض أهله مثل بغض من تزوج بعض محارمه فلا ينفعه تَرْكُ الشرك، وتفطّنهم للآيات التي ذكر الله في الموالاة والمعاداة مثل قوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وقوله في المعاداة: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه} إلى قوله: {حتى تؤمنوا بالله وحده} الآية). [«مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» 6/٣٢٢]
قلت: ويؤكد ذلك ممالأة أهل القصيم وغيرهم لأهل الشرك، ومنافحتهم عنهم، وتولّيهم لهم، وإن كانوا في نفس الأمر لا يعتقدون صحة ما عليه أهل الشرك، ولا يشاركونهم في فعل الشرك، لكن دفعهم إلى هذه الممالأة: خصومة سياسية، أو منافسة دنيوية.
قال الشيخ في رسالته لأحمد بن إبراهيم: (مع أنك تعلم ما جرى من ابن إسماعيل، وولد ابن ربيعة سنة الحبس لما شكونا عند أهل قبة أبي طالب يوم يكسيه صاية، وجميع من معك من خاص وعام معهم إلى الآن، وتعرف روحة المويس وأتباعه لأهل قبة الكواز، وسية طالب يوم يكسيه صاية، ويقول لهم طالع الناس ينكرون قببكم، وقد كفروا وحل دمهم ومالهم وصار هذا عندك وعند أهل الوشم، وعند أهل سدير والقصيم من فضائل المويس ومناقبه). [«مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» 6/٢٠٥]
وقال الشيخ أيضًا في كلام يُصوّر فيه الواقع الذي خاضه مع خصومه، ويُنبّه على وقوع كثير منهم فيما ينقض الإسلام من حيث لا يتفطّن: (فإذا كان هذا في زمانه –يقصد كلام البهوتي في شرح الإقناع في أبواب الردة وعموم البلوى بها-، لم يذكره عن عشرة أو مائة، بل عمَّت به البلوى في مصر والشام، في زمن الشارح، فأظنك تقطع أن أهل القصيم ليسوا بخير من أهل مصر والشام، في زمن الشارح؛ فتفطّن لهذه المعاني، وتدبرها تدبراً جيداً، واعلم: أن هذه المسألة أمُّ المسائل، ولها ما بعدها؛ فمن عَرَفَها معرفة تامة، تبيّن له الأمر، خصوصاً إذا عَرَف ما فعل المويس وأمثاله، مع قُبّة الكوّاز وأهلها، وما فعله هو وابن إسماعيل وابن ربيعة وعلماء نجد في مكة سنة الحبس مع أهل قبة أبي طالب، وإفتائهم بقَتْلِ من أنكر ذلك، وأنَّ قَتْلَهم وأَخْذَ أموالهم قربة إلى الله، وأنَّ الحَرَمَ الذي يُحرِّم اليهودي والنصراني لا يُحرِّمْهم، ثم تفكّر في الأحياء الذين صالوا معهم، هل تابوا من فعلهم ذلك وأسلموا؟ وعَرَفوا أنَّ عُشر معشار ما فعلوه ردةٌّ عن الإسلام، بإجماع المذاهب كلها؟ أم هم اليوم على ما كانوا عليه بالأمس؟ والمويس وابن إسماعيل وأضرابهما إلى اليوم علماء يُعظَّمون ويُترحّم عليهم!! ومن دعا الناس إلى التوحيد وتَرَكَ الشرك هم الخوارج الذين خرجوا من الدين!! فالله الله الله، استعن بالله في فهم هذه المسألة، واحرص على ذلك، لعلك أن تَخْلُص من هذه الشبكة؛ فلو يسافر المسلم إلى أقصى المشرق أو المغرب في تحرير هذه المسألة لم يكن كثيراً؛ والفكرة فيها في أمرين:
أحدهما: في صورة المسألة، وما قال الله ورسوله، وما قال العلماء.
والفكرة الثانية: إذا عَرَفتَ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، أولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأقرّ به من أقرّ به، كيف فعلوا؟ هل أحبُّوه ودخلوا فيه؟ أم عادَوْه وصدُّوا الناس عنه؟ وكذلك لما عَرَفوا ما جاء به من إنكار الشرك والوسائط، وعَرَفوا أقوال العلماء: أنّه الذي عمَّت به البلوى في زمانهم، هل فرحوا بالسلامة منه؟ ونهوا الناس؟ أم زيَّنوه للناس وزَعَموا أنّ أهله السواد الأعظم؟ وثبَّتوه بما قَدَروا عليه من الأقوال والأعمال، وجاهدوا في تثبيته كجهاد الصحابة في زواله؟! فالله الله الله الله! بادر ثم بادر ثم بادر!). [«الدرر السنية» 10/124]
قلت: ومما يؤكد وقوع بعض القرى في الردّة والمروق من الدين، وإن لم يُشركوا بعبادة القباب والسادات، ولم يكن عندهم أضرحة ومقامات: استنجادُهم بالوثنيين الباطنيين على أهل التوحيد، كاستنجادهم بهبة الله المكرمي الداعية الإسماعيلي الوثني الباطني حاكم نجران، وتشجيعه على قتال الموحدين واستئصالهم، وهدم ديارهم، كما فعله أهل الرياض وحكام الإحساء سنة 1178ه.
قال ابن بشر في أحداث سنة 1178ه بعد هزيمة الدولة في وقعة الحائر: (فَوَفِد على النجراني: دهام بن دواس وأهدى إليه هدم، وقَدِم عليه زيد بن زامل رئيس الدلم، وفيصل بن سويط رئيس عربان الظفير، وأثنوا عليه وهنَّوه بالنصر، وقالوا له: إنْ أَخَذْت هؤلاء واستأصلتهم حَصَلَ المُلك لك، وكنتَ الرئيس على الجميع). [«عنوان المجد» 1/95]
وذكر ابن بشر في أحداث سنة 1202ه استنجادَ أهل وادي الدواسر بالداعية الإسماعيلي على أهل التوحيد، واستغاثتهم به، حتى قَدِمَ بجموع كبيرة، إلا أنّ الله كفّ شره وأرجعه خائباً.
ومن ذلك: تحريضُ محمد بن فيروز على الدولة، بالكتابة إلى الباب العالي، والسلطان العثماني، ووالي بغداد، يحرضهم على الدولة، ويدعوهم إلى اجتياح نجدٍ، لاستئصال الدولة ومحو الدعوة، ويَنظِم القصائد في ذلك:
قال ابن بشر في أحداث 1211ه: (وكاتبه -أي: السلطان العثماني- كثير من العلماء والرؤساء سيما محمد بن فيروز، فإنه الذي يَحكم ذلك ويبذل جهده… وعمل ابن فيروز قصيدة في التحريض على المسلمين التي أولها:
أنامل كف السعد قد أثبتت خطاً… بأقلام أحكام لنا قد حُررت ضبطاً
وقد أقذع في هذه المنظومة بالسبّ لأهل الدعوة، والتحريض عليهم، والمدح لعدوهم). [«عنوان المجد» 1/٢١٨]
ومعلوم أنّ ابن فيروز لم يُحرّض العثمانيين على الدولة إلا لأجل الخلاف العقدي الديني، لا السياسي.
إيراد وجوابه
لو ادّعى مدّعٍ أنّ العساكر التركية التي قدمت نجداً لقتال الدولة إنما كانت تقاتل سياسةً لا عقيدةً، استجابة لأمر السلطان العثماني، لا لأجل الخلاف الديني العقدي.
فالجواب أن يُقال: إنّه وإنْ سلّمنا -على سبيل التنزّل- أنّ قتال العساكر التركية للدولة كان الباعث عليه سياسياً في الأصل، لكنّ الواقع أنّه غُلّف بغلافٍ ديني، على اعتبار أنّ أصحاب الدعوة الإصلاحية كفارٌ ملاحدة، وقد كان هذا عاملاً مهماً في تحميس العساكر على قتال الدولة ووأد الدعوة.
قال الرحالة السويسري بوركهارت (ت: ١٢٣٢هـ): (هؤلاء الأتراك عندما سمعوا عن مذهب جديد، يتهمهم بالإلحاد، وينظر إلى نبيهم محمد نظرةً أقلَّ وقاراً من نظرة الأتراك، كان من السهل إقناعُ الناس بخطر المذهب الجديد، وأنّ الوهابيين بناءاً على ذلك ليسوا ملحدين فقط، بل كفار، هذا الاعتقاد تَرَسَّخ عند أعداء الوهابيين (الأتراك) في بداية الأمر بفعل ألاعيب الشريف غالب شريف مكة، ثم بعد ذلك من خلال الذعر والانزعاج الذي سرى بين الباشوات المحيطين بالمنطقة، كان من مصلحة شريف مكة، الذي كان عدواً لدوداً للعقيدة الوهابية الجديدة المتنامية، توسيعُ الهوة بين أصحاب المذهب الجديد والامبراطوريةِ العثمانية، ولذلك راح الرجل يتفنن بلا رحمة في نشر تقارير تفيد أن الوهابيين كفارٌ بحق). [«ملاحظات على البدو والوهابيين» 2/63]
وقد سبق في حلقات سابقة نقلُ كلام المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي (ت: ١٢٤٠هـ) عن مفتي الدولة العثمانية إفتاءه الجنود الغازين نجداً أنّ الوهابيين كفارٌ، على سبيل التحريض لهم وتشجيعهم على قتال أتباع الشيخ، فقال في تاريخه في أحداث شهر ربيع الآخر 1228ه: (إنه وصل إلى القاهرة مرسوم سلطاني يأمر الخطباء في المساجد يوم الجمعة على المنابر، فيقولوا السلطان ابن السلطان بتكرير لفظ السلطان ثلاث مرات: محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان بن السلطان أحمد خان، الغازي، خادم الحرمين الشريفين، لأنه استحق أن يُنعت بهذه النعوت لكون عساكره افتتحت بلاد الحرمين، وغَزَت الخوارج وأخرجتهم منها، لأنّ المفتي أفتاهم بأنهم كفار لتكفيرهم المسلمين، ويجعلونهم مشركين، ولخروجهم على السلطان وقتلهم الأنفس، وأنّ من قاتلهم يكون مغازياً ومجاهداً وشهيداً إذا قُتل). [«عجائب الآثار» 3/406]
وقال أيضًا في أحداث شهر جمادى الثانية 1230ه: (في خامسه وصلت عساكر في داوات إلى السويس، وحضروا إلى مصر وعلى رؤوسهم شلنجات فضة؛ أعلاماً وإشارة، بأنهم مجاهدون وعائدون من غزو الكفار، وأنهم افتتحوا بلاد الحرمين وطردوا المخالفين لديانتهم). [«عجائب الآثار» 3/477]
ونقل الجبرتي في أكثر من موضع في تاريخه وصفَ العساكر التركية أتباع دعوة الشيخ بالكفار. [انظر على سبيل المثال: 3/342]
قلت: ويؤكد هذا الأمر: تَوغُّل قوات محمد علي باشا في قلب نجد، واجتياح أراضٍ لم تكن خاضعة يوماً للدولة العثمانية فضلاً عن خضوعها لمصر، والقيام بتدمير قلب الدولة؛ الدرعية، تدميراً كاملا.
فإنّ القوات التركية الغازية لم تَكتَفِ باسترجاع ما أخذته الدولة من أراضٍ كانت خاضعة للعثمانيين في الحجاز وما جاورها، كما أنهم لم يَقْبَلوا الصلح الذي طلبه عبد الله بن سعود مع العثمانيين، وقَبُوله إقرار العثمانيين على ما تحت أيديهم من الأقاليم، والاعتراف بسلطتهم على نجد، بل واستعداد عبد الله بن سعود لقَبول الدعاء باسم السلطان العثماني على المنابر الواقعة في حوزة ملكه، حسب ما جاء في الوثائق المصرية [انظر: «الدولة السعودية الأولى» لعبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، ص٣٣٤]، بل أصرّوا على استئصال الدولة، وقمع الدعوة، وإرجاع الأمر في نجد إلى ما كان عليه قبل قيام الدولة من التفرق والاختلاف، وإحياء البدع والشركيات والجهالات.
وهذا يؤكد أنهم جاءوا لاستئصال هذا المذهب الفاسد بنظرهم، والمارق عن الدين حسب اعتقادهم، ولم يأتوا لمجرد استرجاع أقاليم وأراضٍ سُلبت منهم، أو لإخضاع أقاليم جديدة تضاف إلى سلطة العثمانيين.
هذا ما تيسر بيانه وتوضيحه في الحلقة، وللحديث بقية.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه.