الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه تنبيهات على بعض الأمور المهمة المتعلقة بطريقة أهل السنة والجماعة في التعامل مع الأحداث والفتن الجارية، وأنا سأذكر بعض الأمور في صورة نقاط مختصرة:
من الأمور المهمة في ظل هذه الأحداث، وفي ظل غيرها من الفتن: هو التزام النصوص، والوقوف عليها وترك الأمور الظنية، فإن المقام مقام فتنة، والفتنة أمور مشتبهة، فالإنسان يلزم ما يعلم، ويترك ما يظن، وهذه قضية مهمة، فبناء الأحكام عند الفتن إنما يكون على ما هو معلوم، لا على ما هو موهوم أو مظنون، ولذلك أهل السنة والجماعة لما كانوا على بينة من عقيدتهم نهوا عن المناظرات والمجادلات؛ لأنها أمور ظنية وموهومة، ومن وقف على النص وثبت عنده كلام الله عز وجل، ونص الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج إلى كلام أحد بعد ذلك، كما قال الله – تبارك وتعالى -: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ}[الأنعام:57]، أنا على بينة إذ جاءني الوحي فلا حاجة للجدال ولا للنقاش، ولذلك كان السلف – رحمهم الله – يتركون المناظرات، وكما كان يقول أيوب السختياني وغيره إذا أتاه رجل ليناظره: “أما أنا فعلى بينة من ديني، وأما أنت فشاك فاذهب إلى شاك مثلك”.
فالسلف – رحمهم الله – نهوا عن ذلك لما وقفوا على النصوص الثابتة عندهم، وبيّن الله تبارك وتعالى أنه عند ثبوت الحق وثبوت النص يجب الوقوف عليه؛ لاسيما عند اشتباه الأمور.قال – تبارك وتعالى -: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم:23]، أي: اتبعوا الظن وما تهواه الأنفس، وتركوا ما أنزله الله – تبارك وتعالى -، فالذي ينبغي عند الفتن هو الوقوف على النص وترك الأشياء الموهومة، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل العلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من قلوب العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء».ثم انظر إلى الحديث كيف بيّن الفرق بين العالم و غيره إذ قال: «حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهالًا يفتون برأيهم فضلوا وأضلوا».تأملوا قوله: «يفتون برأيهم» مما يدل على أن العالم يفتي بالعلم وبالنص، ولا يفتي بالرأي، فالإفتاء بالرأي والظنون والأوهام من أسباب الضلال، وفي ذلك أيضًا أثر حذيفة رضي الله عنه المشهور عندما قال: (إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون) يبدأ يقدم رأيه وما يظنه، والمصلحة تقتضي كذا، ولو تركنا كذا لحصل كذا، وهذه الخطة يراد منها كذا، وترك هذا . . ؛ كل هذا من الأمور الظنية الموهومة، انظر إلى تقرير الدولة الفلانية، وهذا التقرير كذا، وفلان صرح بكذا، كلها أمور ظنية، أقوال يريدون بها هدم النصوص، فمن وقف على النص وقف على الحق لاسيما عند الأمور المشتبهة، فأخوف ما يُخاف على الأمة أن يؤثروا الرأي على النص.
ولذلك يقول ابن تيمية – رحمه الله – في كلام له جميل: (والعجب من قوم أرادوا نصر الشرع بعقولهم الناقصة، وأقيستهم الفاسدة فكان ما فعلوه ممرًا جر الملحدين أعداء الدين عليه، فلا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا).
فلا ينخدع المسلم في ظل الفتن بالتحليلات السياسية والتوقعات والتخرصات وقراءة الأحداث، وإنما يقف على النص، وقد يُخوّف ويقال له: إن تركنا كذا سيحصل كذا، وإن تركنا كذا فإن الخطة يراد بها كذا، ما أدرانا أنه سيحصل كذا وأنه سيحصل كذا؟! جاءني النص أقف معه، ومن وقف مع النص وقف مع الهدى، ولابد أن تكون عاقبته إلى خير، ومن ظن واعتقد أن من يقف مع النصوص أن عاقبته ستكون إلى شر فهذا سوء ظن بالله – تبارك وتعالى – فكل من وقف مع النصوص فاعلم أن عاقبته إلى خير، وإنما الشر يأتي من الوقوف على الظنون، فبناء الأحكام إنما يكون على ما هو معلوم.
وأنا أذكر لكم مثالًا يوضح ذلك: نحن نعرف قطعًا بحرمة الخروج، ونعلم قطعًا بحرمة المظاهرات، والثورات، وخطورة إقحام العامة في أمور الخاصة، وأنه لا يجوز المنازعة، ونعلم قطعًا أن السلف – رحمهم الله – نهوا عن الانخراط في المنازعة التي تكون بين الملوك، وأن يشترك الإنسان بنصرة فلان على فلان، نعلم هذا قطعًا ولذلك فإننا نقف عند هذا، ونقول: يا جماعة نحن ننهى عن الخروج، وننهى عن الثورة، سواء كان هذا ظالمًا أو كان مظلومًا، وسواء كان هو فلان أحق بالملك من فلان أو العكس.
الشاهد أننا ننها عن مثل هذه الأمور، ونعلم ذلك من النصوص قطعًا، ونعلم حرمة الدماء، وأن الشريعة جاءت بتحريم الدماء، وجاءت بالدعوة إلى الصلح، وجاءت بالتنازل عن الحق في سبيل جمع الكلمة، نعلم هذا قطعًا، والنصوص جاءت بهذا، فنحن نقف عندها ولا نتجاوزها إلى أمور مظنونة هي من قبيل الرأي لا النص.
فإذا قال لنا قائل: إن تركنا كذا حصل كذا، فإننا نقول: هذا أمر مظنون، وموهوم، وأنا عندي نص أقف معه، وهذا من الأمور المهمة وهو أن يوقف على النصوص في وقت الفتن، وأن لا نخوض فيما يسمى بالتحليلات السياسية.
فبعض الناس ربما يبني رأيه على التحليل السياسي، يبني رأيه يقول: انظر ماذا قال فلان؟ انظر ماذا كتبت الجريدة الفلانية؟ هل هذا مما تُبنى عليه الأحكام الشرعية؟ الأحكام الشرعية إنما تُبنى على النصوص، لاسيما عند اشتباه الأمور.
الأمر الثاني: عند الفتن لابد من التأمل في سير السلف، والنظر في كلام العلماء وتتبع آرائهم ومواقفهم في الفتن التي جرت في بلاد المسلمين.
وهذا ما أرشدنا الله – تبارك وتعالى –كما في قوله جل وعلا: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} أي: نشروه وتكلموا فيه بلا روية، فهذا يقول: يجب أن نجاهد، وذاك يقول: يجب كذا وكذا، ويجب كذا وكذا . . فقال الله تعالى مؤدباً لهم: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83]، وفي هذه قاعدة أدبية كما ذكر السعدي – رحمه الله – بأن الأمور لاسيما العامة إنما تُرد إلى أهل الشأن والاختصاص والعلماء والأمراء الذين يسوسون في الدين ويسوسونهم في الدنيا.
فلابد من التأمل في هذا، وقد مرت على المسلمين ويلات كثيرة، وفتن متنوعة، من أشهر هذه الفتن فتنة ابن الأشعث الذي قُتل فيها أكثر من مائة ألف، منهم أربعة آلاف عالم وعابد، أربعة آلاف عالم وعابد قُتلوا صبرًا في هذه الفتنة التي دخل فيها أناس من أهل العلم، بل من أكابر أهل العلم في ذلك الزمان، لكنها كانت فتنة، واتفق العلماء على تسميتها فتنة.
وممن وقف في تلك الفتنة أمام هذه الموجات والثورات وهذه الظنون والأوهام في مقابلة النصوص الحسن البصري – رحمه الله – وقد جرت بينه وبين هؤلاء أشياء كثيرة، لكن انظر لهؤلاء، أتوه مرة فأرادوا الثورة وتكلموا فنهاهم عن ذلك وقال: “إن يكن الحجاج غضبًا من الله فإنكم لن تردوا غضب الله يأسيافكم، وإن يكن بلاء” أي: إن كنتم صالحين لكن الله ابتلاكم به “فاصبروا حتى يكشف الله ما بكم”، ماذا قال هؤلاء؟ خرجوا من عنده وقالوا: أنطيع هذا العلج؟ هذا العلج نطيعه؟! وتركوا قوله وذهبوا فقُتلوا عن آخرهم، وهكذا إذا أفتى العالم في النازلة قال المفتونون: أنطيع هذا! أنطيع فلان الذي لا يفقه الواقع! فانظر إلى حال أهل الثورة والهيجان إذا أفتاهم العالم الراسخ، قالوا: نطيع هذا العِلج، فماذا كانت خاتمتهم؟ خاتمتهم قتل، وإبادة، وفتنة.
فلابد من مراجعة العلماء والربانيين أهل العلم، والخبرة، والدراية، ولابد من نشر كلامهم، وإذاعته تحذيراً للناس من الفتنة، فالواجب على طلبة العلم وعلى الدعاة أن ينشروا كلام العلماء إذا تكلموا في الفتن، وأن ينشروا وصاياهم، وينشروا ما ينصحون به الناس؛ لأنه بهذا تنتظم الأمور.
والأمر الثالث: ترك العجلة وعدم التسرع في إصدار الأحكام واتخاذ المواقف، فبعض الناس عَجِلٌ في الأحكام، لاسيما في الفتن التي هي أمور مشتبهة، وقد لا يحيط بكثير من جوانبها، وقد يظهر لهم عشر معشار حقيقتها، وقد يعلم شيئًا وتخفى عنه أشياء، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق وقال: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه» ولا شك أن الرفق والتأني لاسيما في الفتن التي يترتب على الإقدام فيها والخطأ ضياع الأمة وضياع الدولة، وسفك الدماء فلاشك أن هذا يوجب التأني. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنها ستكون أمور مشتبهة فعليكم بالتؤدة)، أمور مشتبهة تشتبه على الناس عليكم بالتؤدة والتأني.وقال علي رضي الله عنه: (لا تكون عُجُلًا مذاييع بُذرًا، فإن من ورائكم بلاء مبرحًا وأمورًا متماحلة رُدحًا) لا تكونوا عُجلًا أي: سريعين في إصدار الأحكام.
(مذاييع) تنشرون الشر وتنشرون القول: قال فلان، وقال فلان ،ومنه ما يسمى اليوم بالتغريد .(بذرًا) تبذرون الشر.(فإن من ورائكم بلاء مبرحًا) بلاءاً شديداً.(وأمورًا متماحلة) طويلة، (ردحًا) عظيمة ثقيلة على النفوس، وهذا يوجب التأني والرفق. والفتن من خطرها أنها تُشبّه كما قال الحسن وغيره: “إذا أقبلت الفتنة شَبَّهت، وإذا أدبرت أسفرت”.”إذا أقبلت شبهت”: اشتبهت على الناس، لكن متى تسفر ويعرف الناس أنها كانت فتنة؟ إذا أدبرت وعصفت بالأمة. ولذلك قيل: ما تشبيهها؟ قال: سل السيف. وما إسفارها؟ قال: غمد السيف. لكن متى؟ بعدما تعصف.وقال الحسن البصري: “إذا أقبلت الفتنة عرفها العالم، وإذا أدبرت عرفها الجاهل”.العالم يقول: فتنة، اتقوا الله، الزموا بيوتكم، كفوا ألسنتكم، ولكن للأسف الناس لا تسمع، ولا تطيع، ثم إذا عصفت بهم وجرت عليهم الويلات قالوا: نعم، لقد كنا في فتنة.
وما دخل أحد حتى العلماء في فتنة إلا لم يُحمد موضعه وموقعه.
يقول ابن تيمية – رحمه الله -: (هكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال)، والذين دخلوا في فتنة ابن الأشعث عدد كبير منهم علماء وأئمة. ويقول أيوب السختياني – رحمه الله -: (لا أعلم أحدًا منهم قُتل إلا قد رُغِب له عن مصرعه، ولا نجى منهم أحد إلا حمد الله الذي سلمه).
وفي ذلك يقول قتادة – رحمه الله – أثرًا جميلاً: يقول: “قد رأينا والله أقوامًا يسرعون إلى الفتنة وينزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبة لله، ومخافة منه، فلما انكشفت، إذا الذين أمسكوا أطيب نفسًا وأثلج صدورًا، وأخف ظهورًا من الذين أسرعوا إليها وينزعون فيها، وصارت أعمال أولئك الذين دخلوا في الفتن حزازات على قلوبهم كلما ذكروها، وأيم الله لو أن الناس يعرفون من الفتنة إذا أقبلت كما يعرفون منها إذا أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير، والله ما بُعثت فتنة قط إلا في شبهة وريبة”.
هذا كلام نفيس من قتادة – رحمه الله – وقد عاصر فتنة ابن الأشعث – .
ومن الأمور المهمة أيضًا: أن نعرف أنه لم يدخل أحد في فتنة إلا ونقص قدره عند الناس، ما دخل أحد من الدعاة أو من طلبة علم في هذه الفتن وخاض فيها إلا نقص قدره عند الناس.يقول عبد الله بن عمرو – رحمه الله -: “كان مسلم بن يسار عند الناس أرفع من الحسن البصري، فلما وقعت الفتنة خف مسلم فيها – أي: أسرع – وأبطئ عنها الحسن – أي: لم يدخل – فأما مسلم فإنه اتضع – أي: نزل قدره عند الناس – وأما الحسن فإنه ارتفع.
ولذلك ندم مسلم بن يسار – رحمه الله – ندمًا على دخوله في الفتنة، يقول: مسلم بن يسار بعدما كانت فتنة ابن الأشعث يقول لأبي قلابة – رحمه الله -: “يا أبا قلابة إني أحمد الله لأني لم أرم فيها بسهم، ولم أطعن فيها برمح، ولم أضرب فيها بسيف. يعني: أنه مشى معهم، لكن ما شارك في القتال.
فقال له أبو قلابة – رحمه الله -: “يا أبا عبد الله فكيف بمن رآك واقفًا في الصف؟!” أي: أنت عالم ومعروف بين الناس، ومكانتك معروفة فكيف بمن رآك بين الصفين؟ فقال: هذا مسلم بن يسار والله ما وقف هذا الموقف إلا وهو على الحق. وقوفك بين الصفين وحضورك بنفسك، وقيامك مع هؤلاء لاشك أنه من أعظم الأمور، قال: “فبكى مسلم بن يسار، لما نبهه على هذا الأمر، فبكى حتى تمنيت أني لم أقل له شيئا”.
فبعض الناس اليوم يدخل مع هؤلاء المتظاهرين، يظن ويزعم أن فعله نصرة للحق ودفاعاً عن الدماء التي سالت، ودفعًا لأهل الفساد والشر، ولاشك أن هذا هو عين الفتنة وهو أن يرى الناس طالب العلم، أو الرجل الذي يعرف عند الناس وله قدر بينهم يكون مع هؤلاء الغوغاء وبين الناس الذين قد خدعوا وغرر بهم في الخروج إلى الميادين والطرقات، فما دخل أحد هذه الفتن إلا وقد نقص قدره عند الناس.
ومن الأمور أيضًا المهمة – وهذه قضية مهمة جدًا -: أنه لابد أن نحذر من كثرة النظر في الباطل وكلام أهل الباطل وتقعيداتهم من المبتدعة والمفتونين عبر قنواتهم؛ لأن كثرة النظر في الباطل تزعزع الثقة في الحق، وهذا أمر مجرب، قد رأينا أثره، فإن بعض الناس قد تغير فكره وانحرف منهجه بسبب كثرة قراءته لكلام أهل الباطل، فتزعزعت ثقته بالحق وبالنصوص، ولأجل ذلك نهى أهل السنة والجماعة عن الجلوس مع أهل البدع، وعن استماع كلامهم، حتى لو كان الإنسان يعلم أنهم مبتدعة، ويعرف كشف شبهاتهم، لماذا؟ لأن كثرة سماع الباطل لها محاذير خطيرة، منها: أنها تهون الباطل في قلب العبد، ثم تزعزع الثقة بالحق عنده، وبعض الناس اليوم وبعض الشباب تجدهم ينظرون في تغريدة فلان وفلان، ليس لمصلحة شرعية، كأن يريد التعرف على باطله ليرد عليه،ولكن لأجل الفضول، فينظر: ماذا كتب فلان؟ وماذا قال؟ تجده يتابع هؤلاء ويتابع فلان وفلان، وينظر في مقال فلان وفلان فضولاً، وفاعل هذا بعض فترة لابد أن يتأثر قلبه فيبدأ يستهين بما كان يستعظمه، وهذا أول علامات الانتكاس: وهو أن يستقبح الإنسان ما كان يستحسن، ويستحسن ما كان يستقبح، وهذا كما ذكر حذيفة رضي الله عنه علامة الدخول في الفتنة، فعلامة الدخول في الفتنة أنه يرى حلالًا ما كان يراه حرامًا، ويرى حرامًا ما كان يراه حلالًا.
وهذه القضية قضية مهمة جدًا، لا تصغي أذنك لكل أحد في الفتنة، ولا تقرأ لكل أحد، لا تتابع اليوم في تويتر فلان وفلان، لا يتابع هؤلاء إلا من أراد أن يعرف حالهم حتى يرد عليهم، أو ما شابه ذلك.
أما أن يقرأ لمجرد القراءة فإن هذه يؤثر في القلوب، هذه قضية لابد أن نتثبت منها، وكم من الناس من كان يقول قولًا ثم بعد مدة وجدناه يقول بخلاف ما يقول، والسبب في ذلك أنه أدمن قراءة كلام أهل الباطل وأهل الزيغ.
الأمر السادس: الحذر من إعمال العمومات وقت الفتن وتنزيلها على الوقائع، كمن يأتي إلى حديث عام مثل: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» وما شابه هذه الأحاديث العامة ثم تُنزل على الفتن، وتنزل على وقائع معينة، ولكن عند الفتن قف على النصوص الخاصة، والأحاديث الخاصة في الفتن والخاصة بهذه المسائل، لا تُعمل العموم في مسألة تشتبه فيها الأفهام وتختلف فيها الأذهان، ولكن قف على ما جاء في النصوص الخاصة، فأهل الباطل يروجون الباطل بمثل هذه العمومات، فيقال مثلا: يا أخي هذا ظلم، والشريعة جاءت بنصر المظلوم: “انصر أخاكم ظالمًا أو مظلومًا”، ولابد من الوقوف ضد الظالم، لابد من كذا وكذا، هذا كلام عام، نعم نحن نؤمن بقوله «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» لكن هل يطبق هذا على مثل هذه الواقعة؟ هل هكذا ينصر المظلوم، هنا بيت القصيد، هل هكذا يدفع الظلم؟ فتراهم يروجون الباطل بمثل هذه العمومات، ولكن احذر من تنزيل العمومات على هذه الأحداث، لابد من نصوص خاصة جلية واضحة يقابل الإنسان بها ربه يوم القيامة. فقد يأتيك قائل يقول لك: قال صلى الله عليه وسلم: «ولتأخذن على يد المسيء الظالم أو لتأطرنه على الحق أطرًا». نقول: نعم، لكن كيف نأخذ على يده؟ أبالطريق التي يروج لها أهل الباطل! قف أخي مع النصوص إن اشتبه عليك أمر وانظر في كلام أهل العلم الراسخين، ماذا يقولون؟ وبماذا يأمرون؟ ثم الزمه.
ومن الأمور المهمة أيضًا: أن نعلم بأن الخطأ في العفو أهون من الخطأ في العقوبة.
وهذا نص حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه الترمذي وإن كان فيه ضعف لكن العلماء متفقون عليه، ولاشك أننا نعلم بأن الشريعة لم تجيء بتعظيم أمر بعد التوحيد أعظم من الدماء، ولذلك قال العلماء: أكبر الكبائر بعد الشرك القتل، وما جاءت الشريعة بتحريم شيء بعد الشرك أعظم من تحريم الدماء، فأن تخطئ وتأمر الناس بكف اليد عصمةً للدماء -وكانت المصلحة خلاف ذلك، أهون من أن تخطئ وتقول: اقدموا على الأمر، وقد يترتب عليه إسالة الدماء خطأً.ومَكَّة التي فيها بيت الله الحرام لم يأمر الله تبارك وتعالى بفتحها صيانة لدماء المسلمين، بل صالح النبي r أهل الشرك على عدم فتحها عشر سنين، صالحهم عشر سنين صيانة لدماء بعض المستضعفين في مكة {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: تميز المسلم عن الكافر {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح:25]، انظر وتأمل: أبقى الله تبارك وتعالى مكة بيته وهي ممتلئة بالأصنام أبقاها الله في أيدي المشركين عشر سنين بالعهد صيانة لدماء المسلمين، وهذا يبين أن دم المسلم ليس بالأمر الرخيص ولا الهين حتى يتجرأ الإنسان ويفتي ظنًا – لا عن يقين – بما يؤول إلى سفك الدماء، وإذا سئل: ما السبب؟ قال: إن سكتنا فسيحصل كذا وكذا، هذا كله من الأمور الظنية التي لا يجوز تعريض المسلمين للقتل استناداً إليها، وتجدهم يجرؤون المسلمين على مثل هذه الأمور بالظنون والأوهام، وهذه قضية مهمة.
ومن مصائب الفتن أنه يستهان فيها بالدماء، فمتى ما وقعت الفتنة استهان الناس بسفك الدماء.يقول ابن عمر – رضي الله عنهما -: “في الفتنة لا ترون القتل شيئًا”.فأسهل شيء يكون في الفتنة هو الدماء.
ومن الأمور المهمة أيضًا: أن نعلم أن سبيل عز الإسلام ليس محصوراً في وسيلة واحدة من الوسائل الدنيوية، بل سبيل العز أساسه يبدأ من إصلاح العقائد والبدء بدعوة الناس إلى التوحيد والسنّة، كما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم، وكما بدأ الأنبياء فلا نحصر السبيل في حكمٍ أو في كرسيٍ أو في تولي وزارةٍ ونحو ذلك، لأن بعض الناس اليوم وبعض الجماعات تصور لك بأن القضية كلها وأن عز الإسلام وتمكينه محصور فقط في أن إزالة هذا الحاكم وإقامة ذاك، أو إزالة هذا الأمر وإقامة ذاك، أو بتشريع هذا القانون ومنع ذاك القانون، أو بتغيير هذه المادة من الدستور أو استبقاء تلك المادة، فيظنون مثلاً:أن هذه المادة من الدستور إن أُقرت ففيها عز الله الإسلام وتمكينه، وإن استطاع المفسدون إزالتها وإقرار أخرى ذهب الإسلام وانمحى، هكذا يُصور أهل الباطل، وهذا من الجهل، فإن دين الله منصور، والله جل وعلا معز دينه – سبحانه وتعالى -، فيقيض الله تبارك وتعالى للدين من يقيمه، ويقيض لهم من الأسباب ما لا يعلموها ولا يحيطون بها إذا هم قاموا بما أمرهم، وقد ينصر الله تبارك وتعالى الدين كما جاء في الحديث بالرجل الفاجر، فالرجل الفاجر قد ينصر الله تبارك وتعالى به الدين، ولذلك لا تحصر فكرك في وسيلة دنيوية واحدة، كحال بعض الناس الذين يقولون لك: والله لو ترك هؤلاء لغيروا الدستور، فنقول: لو غيروا الدستور، ماذا سيكون؟ هل سيضيع الإسلام والمسلمون؟! لن يضيع الإسلام، ولن يضيع المسلمون بفقد وسيلة أو تغيير قانون، وإنما يضيع الإسلام بترك أوامر الله والتنكب عن سنة رسوله وسنة أصحابه، واعلم أنه إذا أغلق باب على المسلمين فإن الله سيفتح الله لهم أبواباً كثيرة، ولكن متى؟ إذا ما اتقوا وأصلحوا، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:90].قال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}[آل عمران:120]، فمهما كاد أهل الكفر بالإسلام، فإننا إن صبرنا واتقينا {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} تصبروا على أمر الله ولا تستعجلوا، {وتتقوا} يكون صبركم على علم وعلى دراية، بمعنى: أن نصبر على علم وعلى يقين، نصبر على ما أمر الله تبارك وتعالى به ولا نستعجل، فلا يخدعنك أهل الباطل بحصر فكرك في هذا الأمر أو ذاك، اليوم وللأسف هكذا يروج المفتونون، تراهم يقولون: اليوم إن تركنا ذلك فسيبدلوا الدستور، وستبدل المادة الثانية . . ووالله لو شطبوا الدستور ووضعوا دستوراً علمانياً، ثم اشتغلنا بالدعوة إلى الله – تبارك وتعالى – لغيّر الله الأحوال، ولجاء الله تبارك وتعالى بالفرج، وهذه قضية مهمة، فلو أخطأنا في عدم المواجهة، فلو فرضنا أنه كان يجب أن نواجه ثم أخطأنا وقلنا: يا جماعة اتركوا المواجهة، واصبروا، فاعلموا أن هذا الخطأ أهون بكثير من الخطأ في إقحام الأمة في فتنة لا تعلم عواقبها، والله – تبارك وتعالى – يُعز دينه بمن يشاء، وقد ينصر الله دينه برجل واحد يقيم الله تبارك وتعالى الحق على لسانه.
ومن الأمور المهمة: كثرة الالتجاء إلى الله تبارك وتعالى والاستكانة، كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}[المؤمنون:76]، والله تبارك وتعالى يحب عند وقوع الفتن أن يستكين الإنسان لربه ويتضرع ويكثر من الدعاء بأن يكشف الله الفتنة، وأن يقيه الله جل وعلا شرها.يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (تكون فتنة لا يُنجي منها إلا دعاءٌ كدعاء الغريق)، تأمل حال الإنسان إذا أوشك على الغرق كيف سيكون دعاؤه؟ هكذا ينبغي أن ندعو الله عز وجل وقت الفتن.
ونحن نحتاج إلى الالتجاء إلى الله – تبارك وتعالى – بأن يعصمنا من الفتن، وأن يقي الله جل وعلا بلاد المسلمين الفتن.
الأمر الأخير الذي أختم به: هو أن لا تبن كلامك على واقع لم تشهده، كمن يبني حكمه على مقطع رآه في اليوتيوب مثلاً، ثم يبدأ يحكم حكمًا عامًا، يحكم على طائفة من الطوائف المتخاصمة حكمًا عامًا بناءاً على مقطع أو مقطعين، لا يُدرى عن حقيقته، وقد تكون المقاطع التي تُدين هذا الطرف أضعاف المقاطع التي تُدين الطرف الآخر، فلا تبن حكمًا على واقع لم تشهده، ولم تعلمه، ولم تعشه، والسكوت في الفتن هو الواجب وهو المتعين، وأن لا ينقل الإنسان في الفتنة إلا ما ذكره العلماء وبينوه، وما علمه من نصوص الكتاب والسنة، فلا تشهد على شيء وتحكم عليه بناءاً على سمعته في قناة إخبارية، أو على مقطع مرئي، أو على مقالٍ لفلان، أو على تغريدة لأحد من الناس أو ما شابه ذلك، هذه أمور تحتاج إلى بيّنة وتحتاج إلى دراية فإنها من الفتن، وقد ينشر الإنسان شيئًا ويكون مكذوبًا بل قد يكون ما هو ضده أعظم منه، فيكون ممن يشيع الفاحشة ويشيع الأمر الخطير بين المسلمين، فيترتب على ذلك فساد عظيم، هذه بعض الأمور التي أحببت الإشارة إليها.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.