الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ،،
فقد وقع في يدي رسالة بعنوان (التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء) وهي الرسالة رقم (64) ضمن سلسلة رسائل تحت عنوان (رسائل الثلاثاء العلمية) بشرف عليها الأستاذ عبد الله نجيب سالم. وقد رأيت عليها مؤاخذات كثيرة، وتخليطاً في مسائل خطيرة، واستدلالات بأحاديث ضعيفة وحكايات منكرة مكذوبة. وكان الذي ينبغي، بل يجب في تقرير المسائل الشرعية عموماً، والعقائد خصوصاً أن يُعتمد على كتاب الله وما صح من الأحاديث النبوية، إذ أن مسائل العقيدة والتوحيد من أظهر ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك تجد الأدلة عليها كثيرة متضافرة، وأما العقائد التي لا مستند لها إلا الأحاديث الضعيفة والواهية، والقصة المختلقة والمنكرة فهي عقائد أبعد ما تكون عن العقيدة التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لتقريرها وتوضيحها للناس.
ولما كانت المسائل التي خاض فيها الباحث، وأقرها عليها المراجع وهو الأستاذ عبد الله نجيب سالم، مسائل مهمة، وخشية من التباس هذا الأمر على من لا علم له، أحببت في عجالة وبشيء من الاختصار أن أبيّن بعض ما جاء فيها من تلبيسات وأخطاء ومخالفات، مع العلم أني لم أستوعب كل ما عليها من ملاحظات إيثاراً للاختصار، وإليك أخي القارئ هذه المؤاخذات عبر هذه الوقفات :
الوقفة الأول : عدم التفريق بين التوسل والاستغاثة تفريقاً صحيحاً يتبين به الفرق بياناً واضحاً حيث قال : (والاستغاثة غير التوسل، لأن الاستغاثة لا تكون إلا في حال الشدة، والتوسل في حال الشدة وحال الرخاء. وقال بعضهم : لا فرق بين التوسل والاستغاثة).
قلت : وهذا خطأ ظاهر، وكذب على اللغة والشرع، إذ أن الاستغاثة : هي طلب الغوث وهي تتعدى بنفسها وبالباء ، فيقول القائل (استغثت فلاناً) ، أو (استغثت بفلان)، ويكون المضاف بها مُستغاثاً به مدعواً مسئولاً مطلوباً منه. كقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الأنفال9، وقوله:{َفاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ} القصص15. وكما في حديث الشفاعة الطويل (فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم) الحديث. أي : طلبوا منه الدعاء، ولذلك روي أيضاً بلفظ الاستشفاع، أي طلبوا من آدم والأنبياء الشفاعة لهم عند الله، وهو دعاؤه وسؤاله سبحانه. وسبب تعدي الاستغاثة بالباء أحيانا هو تضمين معنى الاستعانة، والتضمين المعروف في اللغة هو ضم معنى لفظ معروف إلى آخر مع بقاء معنى اللفظ الأول ، فلما ضُمِّنت الاستغاثة معنى الاستعانة عُدّيت بما تتعدى به الاستعانة وهي الباء ، لأنه يقال : (استعنت بكذا) .
أما التوسل فإنه يتعدى بالباء فيقول القائل (توسلت بفلان) ويكون المضاف بالباء وسيلةً مطلوباً به لا مطلوباً منه. فإذ قيل (توسلت بالنبي r) لم يكن النبي r مطلوباً منه الفعل، لا دعاء ولا غيره، وإنما هو مطلوب به، والمطلوب منه هو الله، فيكون الداعي قد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة لقبول دعائه واستجابة الله له، والتوسل بالنبي r يراد به ثلاثة أمور كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد نقله الباحث في الرسالة :
أحدها: هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وبطاعته. فيقول الداعي (اللهم إني أسألك بإيماني برسولك واتباعي له إلا غفرت لي ونحو ذلك).
الثاني : دعاؤه وشفاعته rأي في حال حياته، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون منه أن يدعو لهم كما في حديث عمر t في الاستسقاء :(اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) فيسقون. فالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم هنا هو بدعائه.
الثالث : التوسل به بمعنى الإقسام به على الله، والسؤال بذاته فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غيره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم.
والخلاصة أن (استغثت فلاناً) و (استغثت به) بمعنى طلبت منه لا بمعنى (توسلت به).
وأما السؤال فإنه يتعدى بنفسه وبالباء . فيقول القائل : (سألت فلاناً) ، إذا كان مسئولاً مطلوباً منه، ويقول (سألت بفلان) ويكون المضاف بالباء مسئولاً به لا مسئولاً مطلوباً منه.
فـ (استغثت فلاناً) و (استغثت به) ، بمعنى طلبت منه لا بمعنى توسلت، ومن عبَّر عن الاستغاثة بلفظ التوسل كأن يقول مثلاً (يجوز التوسل بفلان) بمعنى الاستغاثة به، فقد كذب على اللغة والشرع.
وهذا الخلط بين الاستغاثة والتوسل هو الذي سوّغ الشرك فتح بابه على الجهال، فترى بعض العلماء يبيحون التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم فيظن الجاهل أن المراد به الاستغاثة به وطلب الحاجات منه بعد موته، ولا ريب أن الاستغاثة بالنبي r بعد موته أو بغيره وطلب الحاجات منه شرك وكفر بالكتاب والسنة والإجماع، بخلاف التوسل بذاته وهو السؤال به كقول السائل (أسألك بنبيك أو بجاهه) فهو على الصحيح بدعة، ومن المتأخرين من جوزه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى 1/124) : (فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين).
الوقفة الثانية : ما ذكره تحت عنوان (التوسل إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته) وفيه مؤاخذات كثيرة :
الأول : قوله (ذهب جمهور الفقهاء وعامة العلماء والسلف قديماً وحديثاً …إلى مشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم سواء في حياة النبي أو بعد وفاته)
قلت : هذه دعوى عريضة، وتهويل لا حقيقة له في أن عامة علماء السلف يرون مشروعية التوسل بالنبي r بعد موته، بل هو محض افتراء عليهم، إذ لا يُعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أتباعهم من قال بمشروعية ذلك، ولم ينص على ذلك أحد من الأئمة الأربعة. وليت شعري أين هذه النصوص عنهم؟ وفي أي كتاب وجدها؟ وبأي إسناد؟. وغاية ما تمسك به قصص لا تثبت، وحكايات مختلقة لا إسناد لها سنأتي على بيان زيفها.
بل المحفوظ من نصوص بعضهم المنع من ذلك، فقد صح عن أبي حنيفة وأبي يوسف النهي عن قول الداعي: (اسألك بحق رسلك وأنبيائك ، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق). نقله عنهما صاحب القدوري وصاحب بدائع الصنائع وابن الهمام في فتح القدير وغيرهم.
ولذلك عجز الأستاذ عن أن ينقل ولو نصاً واحداً عن السلف في مشروعية ذلك، وإنما نقل نصوص بعض المتأخرين.
الثاني : قوله (والحقيقة هي أن قول جمهور الأئمة راجح غالب، لقوة دليله وجريان عمل الأمة والعلماء عليه، ولم ينقل عن أحد من الأئمة قبل ابن تيمية رحمه الله التفريق في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بين حياته ومماته).
قلت : سبحانك هذا بهتان عظيم، كيف يكون عمل الأمة عليه، مع كون أفعالهم على خلافه، بل تواتروا على ترك التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد موته، فأين أنت من عدول عمر والصحابة رضي الله عنهم عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، الذي هو من أنجع الوسائل وأعظمها، إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه كما في حديث البخاري: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) فيسقون. مع كونهم في كرب شديد، وقحط عظيم، والحاجة إلى السقيا عامة لكل المسلمين. وما بال معاوية رضي الله عنه يعدل عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بيزيد بن الأسود الجرشي، وهم في قحط عام مهلك.
وأين هذا التوسل المزعوم في أدعية السلف المأثورة والمنقولة عنهم في حجهم وقيامهم وصلواتهم، وفي شأنهم كله، هل تجد لها ذكراً؟. فكيف يزعم الأستاذ بعد ذلك أن عمل الأمة عليه –أي التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته- ، بل العكس تماماً هو الصحيح، وهو أن عمل الأمة قاطبة على تركه. ونحن أحق بأن نطالبك بذكر سلفك في هذا.
ثم ادعى الأستاذ عدم الفرق بين كون الأنبياء والصالحين أحياءاً أو أمواتاً، حاضرين أم غائبين، وهذا خطأ مصادم لما علم ضرورة من الفرق بين الحي والميت، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ }فاطر22.
الثالث : قال الأستاذ : (قال بعض العلماء: وحديث توسل الأعمى بالنبي صلى الله عليه وسلم يبطل زعمهم أن لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر، لأن هذا الأعمى لم يكن حاضراً في المجلس حين توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم …)
قلت: وهذا جهل منه نشأ من عدم التفريق بين الاستغاثة والتوسل، وبين التوسل المشروع والممنوع، فإن الأعمى إنما توسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وذلك أنه أتى إليه وطلب منه أن يدعو له، ثم سأل الله متوسلاً بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له. وهذا لا يحتاج فيه إلى حضور المتوسل به، كما لو توسل بالإيمان به. وأين هذا من الاستغاثة به وسؤاله والطلب منه، وإنما اشترط العلماء الحضور في مسألة الاستغاثة بالشخص القادر، لا في مسألة التوسل بدعائه.
الوقفة الثالثة : هو ما ذكره تحت عنوان (التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً) وفيه مؤاخذات :
الأول : قوله (فمن ذلك-أي من التبرك الجائز بالنبي صلى الله عليه وسلمبعد موته- الاستسقاء برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، روى البيهقي بإسناد صحيح عن مالك الدار خازن عمر قال: (أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام فقيل له: إئت عمر فأقرئه السلام وأخبره إنكم تسقون، وقل له: عليك الكيس ، عليك الكيس. فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه). وقد جاء في تفسير هذا الرجل أنه بلال بن الحارث المزني الصحابي).
قلت : وهذا لا دليل فيه لأمور :
(أولها) أن القصة لا تثبت لجهالة حال مالك الدار خازن عمر، فإنه لا يعرف بالضبط في رواية الحديث ، أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، وقال المنذري في “الترغيب والترهيب” : (لا أعرفه ).
(الثاني) أن الرجل الذي أتى القبر مجهول لا يعرف، فكيف يُعوّل في هذه القصة على روايته وقد خالفها الإجماع المنعقد على مقتضى النصوص الواردة فيما يشرع عند وجود القحط من استغفار الله والتوبة.
وما قيل: أن المجهول هو بلال بن الحارث الصحابي. فلا يصح لأنه من رواية سيف بن عمر ذكرها في “الفتوح”، وسيف بن عمر المتفرد بهذه الزيادة ضعيف باتفاق المحدثين، بل قيل إنه كان يضع الحديث وقد اتهم بالزندقة ، قال ابن حبان (يروي الموضوعات عن الأثبات ، وكان يضع الحديث ) [انظر ميزان الاعتدال (2/255) ].
(الثالث) أن هذه القصة حجة عليه، لأن الرجل لما طلب الدعاء من النبي r لأمته لم يقل صلى الله عليه وسلم له: أنا أدعو لكم، بل أمره بما شرعه وسنه لهم وهو أن يدعون الله ويستسقون. وهذا يقتضي أنه إذا حصل قحط وجدب لا نذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ونطلب منه الدعاء، بل نستسقي الله، لأنه أرشد الأمة إلى ذلك كما في هذه القصة، فمن ذهب إلى القبر فقد خالف ما دل عليه الحديث إن صح. فكيف يكون دليلاً في جواز الذهاب إلى القبر وطلب الدعاء!!
(الرابع) أن القصة مخالفة لفعل الصحابة فقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان يستسقى بدعاء العباس كما مر سابقا مما يدل على نكارتها.
(الخامس) أن القصة منكرة المتن لمخالفتها ما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء في مثل هذه الحالات.
الثاني : قوله (ومن ذلك التوسل به صلى الله عليه وسلم لقضاء الحاجات عند الأمراء، أخر الطبراني في معجميه الكبير والصغير عن عثمان بن حنيف : أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان t في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي بن حنيف فشكى ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف : ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم اني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي. وتذكر حاجتك، ورح حتى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان رضي الله عنه فأجلسه معه على الطنفسة. فقال : حاجتك. فذكر حاجته، وقضاها له، ثم قال له ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة، وقال ما كانت لك من حاجة فأذكرها، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلي حتى كلمته في. فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أفتصبر. فقال : يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات. قال بن حنيف : فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. قال الطبراني في معجمه: والحديث صحيح)
قلت : قول الطبراني “الحديث صحيح” إنما قاله في المرفوع منه وهو قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعمى، وذلك بعد أن ذكر اختلاف الرواة عليه، وإنما الشأن في هذه القصة التي زادها راوٍ اسمه شبيب بن سعيد الحبطي. فإن هذا الحديث قد رواه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم وابن السني كلهم من طريق أبي جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف t به. اكتفوا جميعهم بالمرفوع منه، ولم يذكروا قصة الرجل في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وإنما ذكرها الطبراني وقد تفرد به شبيب بن سعيد الحبطي وهي زيادة منكرة لأمرين :
الأول : أن شبيب بن سعيد الحبطي له منكرات، وأقوى حديثه ما كان من رواية ابنه عنه من نسخة يونس عن الزهري، وليس هذا منها، وأضعف حديثه ما رواه ابن وهب عنه كما هو الحال هنا. قال عنه ابن حجر في التقريب: (لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه لا من رواية ابن وهب). وقال أيضاً في مقدمة الفتح في الإشارة إلى هذا القيد وهو أن روايته إنما تقبل بأمرين: أن يكون الرواي عنه ابنه، وأن يكون شيخه يونس، وذلك بعدما أورد شبيباً هذا في ( من طعن فيه من رجال البخاري ) من ( مقدمة فتح الباري ) ثم دفع الطعن عنه بقوله : (قلت : أخرج البخاري من رواية ابنه عنه عن يونس أحاديث ولم يخرج من روايته عن غير يونس ولا من رواية ابن وهب عنه شيئا).
الثاني : أنه خالف من هو أوثق منه وهما شعبة وحماد بن سلمة وهشام الدستوائي وروح بن القاسم، فإنهم لم يذكروا هذه الزيادة، فتبين أنها من منكراته.
الثالث : قوله : (ومن ذلك التوسل بقبره الشريف، جاء في سنن الدارمي و وفاء الوفاء للسمهودي عن اوس بن عبد الله قال : قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها فقالت : انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السقف حتى لا يكون بينه وبين السماء حائل، ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل)
قلت: وهذا باطل من وجوه :
(أولها) أنه حديث ضعيف ، ففيه علتان أولهما : سعيد بن زيد ، وقد ضعفه الحفاظ ، فقال فيه يحيى بن سعيد : ضعيف ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، واختصر ابن حجر حاله فقال كما في التقريب : (صدوق له أوهام)، وهذا فيما إذا لم يتفرد ، فإن تفرد من هذا حاله فلا يُقبل كما هو الحال في هذه القصة، والثاني : أبو النعمان الملقب بعارم ، وهو ثقة قد اختلط في آخر عمره، والحكم في المختلطين أنه لا يُقبل حديثهم إلا ممن روى عنهم قبل الاختلاط، والراوي عنه في هذا الحديث الحافظ الدارمي، وهو ممن لا يُعلم: هل روى عنه قبل الاختلاط أم بعده، وعلى هذا فيتوقف في تصحيح روايته عنه .
(الثاني) أن الثابت عن الصحابة أنهم إذا قحطوا واستسقوا، دعوا الله إما في المسجد أو في الصحراء.
(الثالث) أن سقف عائشة رضي الله عنها منه ما كان مكشوفاً غير مسقوف، كما في الحديث المتفق عليه عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد) ، وهذا يدل على أن بعض سقف بيتها كان مكشوفاً تدخل منه الشمس، وكان كذلك مدة حياة عائشة. فكيف يُحتاج إلى فتحة كوة إلى السماء، وهذا يدل على بطلان القصة.
(الرابع) أن هذا الفعل ليس حجة في محل النزاع، سواء كان مشروعاً أو لم يكن، فإن هذا استنزال الغيث على قبره، والله تعالى ينزل رحمته على قبور أنبيائه وعباده الصالحين، وليس في هذا سؤالهم بعد موتهم ولا طلب ولا استغاثة.
الرابع : قوله : (وقال الإمام مالك للخليفة المنصور لما حج وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسأل مالكاً قائلاً: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعوا، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله” ذكره القاضي عياض في الشفا وساقه بإسناد صحيح، والسيد السمهودي في خلاصة الوفا، والعلامة القسطلاني في المواهب اللدنية، وابن حجر الهيتمي في الجوهر المنظم وغيرهم).
قلت : أين الإسناد الصحيح الذي يزعمه الأستاذ، وقد روى القاضي عياض هذه القصة في الشفا بإسناده عن محمد بن حميد الرازي. ومحمد بن حميد الرازي لم يدرك الإمام مالك، فهو منقطع بينهما، كما أنه معروف بسرقة الحديث وقد كذبه أبو زرعة وابن خراش وصالح جزرة. فالإسناد منقطع مظلم.
والقصة كذب على الإمام مالك بلا ريب من وجوه :
منها: أنها مخالفة لمذهب مالك ومذهب سائر الأئمة، فإنهم متفقون على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء فإنه يستقبل القبلة، كما روى عن الصحابة فعلم بهذا أنه كذب عليه مخالف لمذهبه كما كذبوا عليه في أنه كان يأخذ طنبورا يضرب به ويغني لما كان في المدينة من يغني.
ومنها: أن مالكاً من قوة متابعته للسنة كره أن يقال زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره ابن القاسم عنه في المدونة.
الوقفة الرابعة : ما ذكره تحت عنوان (التوسل إلى الله تعالى بغير النبي صلى الله عليه وسلم من صالحي الأمة المسلمة) وفيه مؤاخذات متعددة :
الأول : قوله : (لا يخرج حكم التوسل بالصالحين من غير النبي صلى الله عليه وسلم عما سبقه من التوسل به. ومن الدليل على جواز التوسل بالأنبياء والصالحين حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي حسنه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار وغيره، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج الرجل من بيته إلى الصلاة فقال : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج بطراً –ثم ساق الحديث-)
قلت : وقوله هنا في التسوية بين النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين في التوسل والتبرك منكر وبدعة مخالفة لما كان عليه السلف، من ترك التبرك بغير النبي r من الصالحين، فإن الصحابة اقتصروا على التبرك بآثار النبي r دون غيره من أكابر الصحابة كأبي بكر وسائر العشرة المبشرين وغيرهم رضي الله عنهم، ولو كان هذا سائغاً في غير النبي صلى الله عليه وسلم لكانوا أحق الناس به، ولم يفعله أحد من التابعين ولا أتباعهم ولا أحد من الأئمة، بل تتابعوا على تركه مما يقتضي كونهم علموا أنه خاص بذات النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره.
وأعجب من هذا استدلال الأستاذ بهذا الحديث وما أعقبه من المنكرات والقصص المكذوبات. أما حديث أبي سعيد فالجواب عليه من وجوه :
(أولها) أن هذا الحديث لا يصح، لأن فيه عطية العوفي وهو ضعيف الحديث، قال عنه الذهبي في الكاشف (ضعفوه) ، وقال ابن حجر في التقريب: (صدوق يخطئ كثيراً وكان شيعياً مدلساً). كما أنه لم يصرح بالتحديث في هذا الحديث وهو معروف بالتدليس.
وأما ما رواه ابن السني في أذكار اليوم والليلة عن بلال رضي الله عنه بنحوه فهو أشد ضعفاً ونكارة ، ففيه الوازع بن نافع العقيلي وهو واهٍ جداً ، قال عنه البخاري: منكر الحديث ، وقد قال البخاري: (كل من قلت فيه منكر الحديث لا تحل الرواية عنه ) ، وقال النسائي عنه: متروك.
(الثاني) أن الحديث ليس فيه دليل على جواز التوسل بالمخلوق، وإنما فيه سؤال الله بحق السائلين وبحق الماشين في طاعته. وحق السائلين عند الله : أن يجيبهم، وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حقٌ أوجبه هو سبحانه على نفسه لا هم أوجبوه عليه، فليس للمخلوق أن يوجب على الخالق شيئاً.
(الثالث) إذا كان حق السائلين هو الإجابة وحق العابدين هو الإثابة، فالإجابة والإثابة فعلٌ له جل وعلا. فهو إذاً سؤال له بأفعاله لا بذوات المخلوقين. كالاستعاذة ونحو ذلك. كما في قوله صلى الله عليه وسلم : (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك) فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله كالسؤال بإثابته التي هي فعله.
الثاني : قوله : (بل جاء في بعض الآثار في السنة ما يفيد استحباب الاستعانة والتوسل بالملائكة، فعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن لله ملائكة سوى الحفظة سياحين في الفلاة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة في فلاة فليناد : يا عباد الله أعينوا) وهذا الحديث أخرجه الحافظ ابن حجر في الأمالي وحسنه).
قلت : هذا الحديث إن صح فليس فيه جواز التوسل والاستعانة بالملائكة مطلقاً، بل في مثل هذه الصورة، والمراد بالملائكة في الحديث ملائكة حاضرون يسمعون وهم السياحون، فهو نداء حاضر لا غائب، ولذلك قال في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (فإن لله في الأرض حاضراً) مما يدل على إنه نداء حاضر موجود يسمع النداء، لا نداء ميت ولا غائب.
الثالث : قوله : (وقد جاء بسند صحيح في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي أن الإمام الشافعي رحمه الله وهو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة رحمه الله، يجيء إلى ضريحه يزوره فيسلم عليه ثم يتوسل إلى الله تعالى به في قضاء حاجاته، عن علي بن ميمون قال : سمعت الشافعي يقول : إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره، وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حاجتي حتى تقضى)
قلت : وهذه قصة مكذوبة مفتراة على الشافعي رحمه الله، وهو أجَلُّ من أن يفعل مثل هذا، وقول الأستاذ : (بإسناد صحيح) تدليس إن لم يكن كذباً، فيا ليته يبرز لنا إسناد هذه الحكاية ويبين لنا رجالها واتصال سندها، وهيهات فالقصة مدارها على مجهول اسمه (عمر بن إسحاق بن إبراهيم) وهو لا تُعرف عينه فضلاً عن عدالته وضبطه.
الأمر الثاني : مما يدل على كونها مكذوبة عليه، أنه لو كان الشافعي رحمه الله يرى جواز قصد قبر الرجل الصالح للتوسل إلى الله به، لفعله بقبر النبي r وقبور صحابته لما كان بالمدينة الذين هم أجل من أبي حنيفة رحمه الله، أو بقبور أئمة التابعين في مكة والمدينة. ولم يؤثر عنه حرف واحد في ذلك، ولعل هذه القصة مما يفتريها بعض متعصبة الأحناف كما حصل من بعضهم من اختلاق أحاديث إلى النبي r في فضل الإمام أبي حنيفة.
الأمر الثالث : أن هذا الأمر لم ينقله أحد من أصحاب الشافعي وخواصه الذين هم أعلم به وبحاله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم 343) : (وهذا والحمد لله لم ينقل هذا عن إمام معروف ولا عالم متبع، بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذباً على صاحبه، مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي رحمه الله أنه قال : إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة رحمه الله فأجاب، أو كلاماً هذا معناه، وهذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له أدنى معرفة بالنقل، فإن الشافعي لما قدم ببغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة، بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفاً، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عند قبر أبي حنيفة. ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن ابن زياد وطبقتهم لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره، ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور الصالحين خشية الفتنة بها وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه).
الثالث : قوله : (كما توسل الإمام أحمد بالشافعي رحمه الله حتى تعجب ابنه عبد الله ابن الإمام أحمد من ذلك فقال له الأمام أحمد : إن الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن)
قلت : وهذه حكاية قد حرفها الأستاذ تدليساً وافتراءاً، إذ أن عبد الله سأل أباه عن سبب كثرة الدعاء للشافعي لا عن كثرة توسله به، فقال : (قلت لأبي : يا أبت أي شيء كان الشافعي فاني سمعتك تكثر من الدعاء له) ثم ذكر قول الإمام أحمد.
الوقفة الخامسة : تحت عنوان (الخلاصة العلمية) قال الأستاذ : (يقرر ابن تيمية –وهو من أشد الناس في المنع- أن هذه المسألة خلافية، وأن التكفير فيها –كما يفعل بعض المنتسبين إلى السلف- حرام وإثم)
قلت : وفي هذا مؤاخذات وافتراءات
الأول : أن شيخ الإسلام ابن تيمية إنما يرى هذا الخلاف في مسألة التوسل بذات الأشخاص كالأنبياء ونحوهم وهو السؤال بهم كقول القائل : (أسألك بجاه نبيك، أو بحق فلان) ونحو ذلك. ولا يرى هذا الخلاف في مسألة الاستغاثة بالأموات والأنبياء وطلب الحاجات منهم، والدعاء ونحو ذلك، فإنه قد نقل الإجماع على كون هذا شركاً وكفراً فقال كما سبق نقله : (فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين).
مع أن الأستاذ في أول الكلام لم يفرق بين التوسل والاستغاثة، وتخبط في ذلك.
الثاني : قوله (كما يفعل بعض المنتسبين إلى السلف) محض افتراء واختلاق، إذ أن السلفيين لا يعرف عن أحد منهم حكم بالكفر على من سأل الله بذوات الأنبياء كقول (أسألك بحق نبيك) وإنما حكى كثير منهم كونه بدعة لا شركاً، ولينقل لنا الأستاذ عن أحد من العلماء أو طلبة العلم السلفيين ممن حكموا بالكفر والشرك. ولكنهم حكموا بالشرك والكفر في مسألة الاستغاثة بالأموات وطلب الحاجات منهم، كما سبق عن شيخ الإسلام ابن تيمية.