الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
فقد قرأت مقالاً للدكتور عبد المحسن زبن المطيري بعنوان “وقفات علمية مع كتاب التنظيمات الدعوية” تناول فيه كتابي المذكور بالنقد.
وقد تأملت نقده فوجدته اسماً على غير مسمى؛ إذ لم يكن نقداً مبنياً على قواعد علمية، ولا أسسٍ منهجية، بل قد خالفها في كثير من المواضع، كما أن نقده جاء مبنياً على خطأٍ في تصور مسائل الكتاب، ولذلك وقع الدكتور في خلط كثير، فجمع بين مفترقات، وفرّق بين متماثلات.
ومن ذلك عدم تفريقه بين تنظيم جمعية إحياء التراث الإسلامي، وبين جمعية إحياء التراث الإسلامي الخيرية، فالتنظيم شيء، والجمعية شيء آخر، فالتنظيم هو المظلة العامة التي تنضوي الجمعية تحتها.
والكتاب كما هو ظاهرٌ من اسمه يدور حول التنظيمات لا الجمعيات، وقد ذُكر فيه صورة التنظيم وقطاعاته بشكل واضح.
وقد خَلَص الكتاب إلى تحريم التنظيم ووجوب إلغائه وترك الانتماء إليه دون الجمعية الخيرية، وأما الجمعية فيجب انفصالها عن التنظيم والعمل على إصلاحها لا إغلاقها وإلغائها.
وسأحاول عبر هذه الوقفات المرور على أهم ما جاء في مقاله من الأخطاء العلمية والمنهجية، حتى يعلم القارئ مدى الاتزان العلمي فيه!!
الوقفة الأولى عند قوله: (كتبت هذه الورقات على عجالة لبيان أهم الأخطاء في الكتاب).
قلت: في العجالة الندم، فما الذي أحوج الدكتور إلى هذه العجالة التي أوقعته في أخطاء علمية ومنهجية؟ وكان الأجدر به أن يتأمل ويتأنى قبل الكتابة، وأن يُعيد النظر في الكتاب قبل الاستعجال الذي سترى أثره فيما يأتي من الوقفات.
ومن مظاهر العجلة في المقال كثرة الأخطاء الإملائية واللغوية على الرغم من كونه لم يتجاوز ثلاث صفحات.
الوقفة الثانية عند قوله: (ولم أتتبع كل ما فيه، وإنما جل اعتنائي بالأخطاء العلمية والمنهجية فقط، وأما اللغوية كقوله (في هيكلة التنظيم وأعضاءه) والصحيح (أعضائه) فلم ألتفت إليها).
قلت: ما ذكره لا يعدو كونه خطأ مطبعياً، فإن كلمة (أعضائه) قد وردت في مواضع كثيرة من الكتاب على الوجه الصحيح. والظن أنه قد أشار إلى هذا الأمر من باب تنقيص قدر الكتاب والتهوين منه.
على أني أفرح بكل من ينبهني على خطأٍ وقعت فيه وأشكر له صنيعه، سواءٌ كان علمياً أو منهجياُ أو لغوياً.
ولعل الدكتور جوزي بذلك، فوقع في أكثر من ثلاثين خطأً نحوياً ولغوياً وإملائياً على صغر مقاله، وقد كفانا أخونا خالد المنصوري تتبع هذه الأخطاء عبر تغريدات له في تويتر.
ولعلي أشير إلى بعضها:
– قال: (وتحته وكلاء مساعدين)، والصواب “مساعدون”.
– قال: (وهل السياسة خارج الدين)، والصواب “خارجة عن الدين”.
– قال: (فهو يرى إن العمل الإداري إذا كان هرمياً محرم)، والصواب: بفتح “أن”، والأولى “فهو محرم”.
– قال: (لابد يكون للمؤسسات لجان شرعية)، والصواب: “أن يكون”.
– قال: (وكلها هذه الأحاديث)، والصواب: “وكل هذه الأحاديث”.
– قال: (دل على الأمر من باب تحريم الوسائل)، والصواب: “أن الأمر”.
الوقفة الثالثة عند قوله: (فأنا لست من إحياء التراث، وإن كنت أكن لها وللقائمين عليها الاحترام والتقدير، ولكن هالني ما في الكتاب من تهويل ونقد لاذع ودعاوى فجة وعدم إنصاف)
قلت: إن كنت كما زعمت لست من إحياء التراث، فما شأنك إذاً في الموضوع، ولماذا تتولى الرد على نقدهم في الوقت الذي سكتوا فيه عن الردّ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». ولذلك كان ردّ الدكتور محل استغراب، لكن لعلّه كشف بعض المستور!!
ثم يُقال أيضاً: كيف تدافع عن تنظيم تعترف بجهلك به وبحقيقته وعدم انتمائك إليه، بل وتعترف بأن المؤلف أعلم منك به وأخبر، كما في قولك: (أن المؤلف كان في الجمعية سنوات طويلة وترأس عدة مناصب، فقد يؤخذ كلامه على وجه التسليم).
وهل يصح في ميزان النقد أن يردّ الجاهل بالشيء على العالم والخبير به!! قال تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون). فإن كنت كما تزعم لست منهم، فكيف تنكر أمراً تجهله ولم تقف على حقيقته؟
الوقفة الرابعة عند قوله (والذي لا يعرف الجمعية يظن أنه يتحدث عن لوبي صهيوني في الكويت).
قلت: عجيب أمرك أيها الدكتور، فهل كل من يذكر هيكلة تنظيم من التنظيمات ويوضّح ترتيبه الإداري التنظيمي وفق ما أعدّه مؤسسوه، ويُبيّن أسسه التنظيمية يكون حاله كمن يتحدث عن لوبي صهيوني!!
ولعل الدكتور يقصد بهذا التعبير المنفّر التنفير عن كشف حقائق التنظيمات وإظهار ما تخفيه عن كثير من الناس والأتباع. فلربما كان الكتاب سبباً في فتح الباب لكشف تنظيم سرّي ينتمي إليه الدكتور نفسه، وهذا ما بعث الخوف في نفسه.
الوقفة الخامسة عند قوله: (إن جمعية إحياء التراث تنتسب للتيار السلفي الذي هو أحرص ما يكون على نقاء التوحيد واتباع السنة، ومع هذا فقد وصل المؤلف إلى عدم شرعية هذه الجمعية).
قلت: يُفهم من كلام الدكتور أن مجرد الانتساب إلى التيار السلفي –كما يسمّيه الدكتور!!- عاصمٌ من الوقوع في الخطأ والزلل؟!!
وهذا يعني: أن أيّ تكتل أو تنظيمٍ يصبح شرعياً بمجرد الانتساب إلى التيار السلفي!!
فلا أدري، تحت أي أصل من أصول النقد والتقويم يندرج هذا الحكم؟!!
وهل يخفى على أصغر طالب علم فضلاً عن دكتور في كلية الشريعة بأن من مبادئ منهج أهل السنّة والجماعة أن لا أحد معصومٌ من الخطأ والزلل ولو كان إماماً من الأئمة، فضلاً عن التكتلات الحزبية والجماعات الإسلامية.
والواجب تقييم الأشخاص والجماعات وفق الأصول العلمية المقررة في الكتاب والسنّة وعمل سلف الأمة، لا بمجرد الدعاوى أو الانتساب.
الوقفة السادسة عند قوله: (إذا كان يرى عدم شرعية إحياء التراث فهو لغيرها أشد تحريما وإسقاطا، وعليه فكل التنظيمات الدعوية في الكويت محرمة، وهذا صد عن سبيل الله.)
قلت: معظم القياديين والمنظّرين في الحركات الإسلامية يحرصون على السرية والاستتار وعدم الظهور، ولعل ما خَلَص إليه الكتاب من تحريم التنظيمات الهرمية العامة وتحريم السرّية هو الذي دفع الدكتور عبد المحسن إلى التعليق عليه ونقده، فحرّك ما كان ساكناً في النفس ومستتراً عن الناس، فالدكتور قد أدرك أن الكتاب قد يكون له أثرٌ على أتباعه، وربما هدم عمله السرّي من أساسه، زاعماً في الوقت نفسه بأنه لا ينتسب إلى تلك التنظيمات السرية!! وقد قال تعالى (ولتعرفنهم في لحن القول).
والعجيب أن الدكتور اعتبر من ينتقد هذه الأحزاب والتنظيمات الهرمية العامة، ومنها جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير والجماعة القطبية والتبليغ وغيرهم، صاداً عن سبيل الله، وهذا في حقيقته طعنٌ مبطن لعلماء أجلاء لهم جهود في التحذير من مثل هذه التنظيمات الحزبية من أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز والألباني والعثيمين والفوزان والعباد وغيرهم كثير، فإن هؤلاء كلهم حذّروا من هذه التنظيمات والأحزاب. لكن من له خبرة ودراية بواقع الجماعات قد لا يستغرب هذا من الدكتور، فإن القطبيين والمتأثرين بهم لم يزل دأبهم التنفير عن العلماء بطرق لا تخفى على اللبيب.
ونقد الجماعات وتقويمها أمرٌ متعين على أهل العلم العارفين بهذه الجماعات، بل هو مقدمٌ على نقد الأفراد، ولا يجوز بحال التهوين من ذلك، أو التنفير عنه، فضلاً عن نقد القائمين به ولمزهم واتهامهم.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: (الجماعة التي يجب اتباعها والسير على منهاجها هم أهل الصراط المستقيم، هم أتباع النبي وهم أتباع الكتاب والسنة الذين يدعون إلى كتاب الله وسنة رسوله قولا وعملاً، أما الجماعات الأخرى فلا تتبع منها أحداً إلا فيما وافقت فيه الحق. سواءٌ كانت جماعة “الإخوان المسلمين” أو “جماعة التبليغ” أو “أنصار السنَّة” أو من يقولون: إنهم السلفيون، أو “الجماعة الإسلامية” أو من تسمي نفسها بـ”جماعة أهل الحديث” وأيّ فرقة تُسمّي نفسها بأيّ شيء فإنهم يُطاعون ويُتَّبعون في الحق، والحقُّ ما قام عليه الدليل، وما خالف الدليل يُردُّ عليهم، ويقال لهم: قد أخطأتم في هذا، فالواجب موافقتهم فيما يوافق الآية الكريمة أو الحديث الشريف أو إجماع سلف الأمة. أما ما خالفوا فيه الحقّ فإنه يُردُّ عليهم فيه، فيقول لهم أهل العلم: قولكم كذا وفعلكم كذا خلاف الحق -هذا يقوله لهم أهل العلم فهم الذين يبصرون الجماعات الإسلامية. فأهل العلم العالمون بالكتاب والسنَّة الذين تفقهوا في الدين من طريق الكتاب والسنَّة، هم الذين يعرفون تفاصيل هذه الجماعات، وهذه الجماعات عندها حق وباطل، فهي ليست معصومة، وكلّ واحد غيرُ معصوم، ولكنَّ الحق ما قام عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع سلف الأمة). [فتاوى ابن باز 7/120]
الوقفة السابعة عند قوله: (اعتماده على الأخبار المرسلة (قيل وسمعت وأخبرني بعض الثقات…) وقد قال صلى الله عليه وسلم: “بئس مطية الرجل زعموا”)
قلت: هذا الكلام يتناقض مع ما ذكره الدكتور في أول مقاله، فإنه ذكر في أول المقال بأن المؤلف كان في الجمعية سنوات طويلة وترأس فيها عدة مناصب، وهذا يعني بالطبع علم المؤلف بالتنظيم وخبرته به، ثم هو يقول هنا: بأن المؤلف اعتمد على أخبار مرسلة!! فلا أدري، كيف يجتمع هذان الوصفان؟
فإن الاعتماد على الأخبار المرسلة في الحكم على شيء معين (مثل: قيل وسمعت) إنما يكون ممن لا خبرة له ولا دراية له بهذا الشيء، ولذلك يحتاج إلى النقل عن غيره والاعتماد عليه. فوَصْفُه للمؤلف بالخبرة بالتنظيم والعمل معه مدة طويلة مع دعوى اعتماده على أخبار مرسلة، تناقض.
ثم أقول على سبيل التفصيل: إن الكتاب يتكون من فصلين: الأول: بحثٌ علمي في أنواع التنظيمات الدعوية وحكمها، وقد استغرق هذا الفصل ثلاثة أرباع الكتاب، والثاني: في ذكر تنظيم جمعية إحياء التراث وبيان حقيقته والأسس التنظيمية التي يقوم عليها والحكم عليه بناءً على ما تم تفصيله في الفصل الأول من الكتاب.
فالفصل الأول: بحثٌ عام مستند إلى النصوص الشرعية وأقوال العلماء والأئمة.
والفصل الثاني: فيه بيان حقيقة تنظيمٍ خَبَره المؤلف بنفسه مدة طويلة، لم يعتمد فيه على غيره إلا ما لم يشهده بنفسه، وهي مسألة البيعة، والتي شهد بها وأثبتها ثقات وطلبة علم مشهورون.
فإذا تبيّن هذا، فهل يمكن بعد ذلك الزعم بأن المؤلف اعتمد في الكتاب على أخبار مرسلة؟!! فأين هي هذه الأخبار المرسلة؟ أهو البحث العلمي الذي يمثل ثلاثة أرباع الكتاب؟ أم صورة وحقيقة ما عاشه المؤلف وخبره بنفسه لا بغيره؟ أم ماذا؟
لا شك أن هذا حكم جائر يُقصد به التنفير عن الكتاب لا غير.
على أنه يُقال: لو كان ذِكرُ المؤلف لحقيقة التنظيم منقولاً عن غيره مما لم يخبره بنفسه، فإنه لا يمكن الحكم عليه بأنه اعتمادٌ على أخبار مرسلة إذا كان المنقول عنهم ثقات.
كما أنّ الدعوى لا تُردُّ إلا إذا أنكر المدَّعَى عليه، وطولب المدَّعِي بعدها بالبينة فعجز عنها. وكل هذا لم يحصل، فلم يحصل بعدُ إنكارٌ من المدّعى عليهم، ولم يُطالَب المدِّعِي بالبينة، ولو طولب المدّعِي بالبينة، فهل البينة إلا شهودٌ ثقات!!
هذه هي أصول الدعاوى.
الوقفة الثامنة عند قوله (نقده للجمعية في محاسنها: مثل عدم إشغال طلبة العلم في المناصب الإدارية، فطالب العلم مكانه التعليم والدعوة وليس المناصب الإدارية التي تشغله عما هو فيه، نعم لابد يكون للمؤسسات لجان شرعية تشرف وتحافظ على المسير، وأما المناصب فشرطها القوة والأمانة، وليس شرطها أن يكون طالب علم).
قلت: البحث يدور حول تنظيمات دعوية وعلمية عامة، لا مؤسسات إدارية أو مجتمعية، فالتنظيم الدعوي العام مؤسس لأجل الدعوة إلى الله كما يدعيه أصحابه، والدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والمرسلين، ولذلك من شروطها العلم، فالعلماء هم الدعاة على الحقيقة، وكل دعوة لا تقوم على العلم ولا ترجع إلى أهل العلم، ولا يوجهها أهل العلم فهي دعوة على غير منهاج النبوة، قال تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً)، وقال عمر بن عبد العزيز: (من عَمِل بغير علم فهو يفسد أكثر مما يُصلح).
وعلى هذا، فهذه مناصب علمية لا إدارية، فلا يمكن أن يقود الدعوة جاهلٌ بالشرع!!
وهذا هو أصل بلاء الأحزاب والحركات الإسلامية، وهو أن مؤسسيها وقيادييها وموجهيها ليسوا علماء، فإن العلماء بالكتاب والسنّة على هدي سلف الأمة لا يؤسسون حزباً ولا تنظيماً سرياً، ولا يُنشؤون جماعة تحت جماعة الإمام، فيفرقون المسلمين.
الوقفة التاسعة عند قوله: (ومنها نقد دخولها السياسة؛ وهذا نقد عجيب؛ فهل السياسة خارج الدين أم أنها علمانية جديدة مغلفة باسم العلم الشرعي).
قلت: أولاً: الصواب “خارجة عن الدين”.
ثانياً: المؤلف لم ينتقد التنظيم لمجرد دخوله في السياسة من غير أن يكون لها أثرٌ على الدعوة، وإنما انتقد تأثير السياسة على التنظيم وتغلغلها فيه، في الوقت الذي أغفل فيه التنظيم الدعوة العلمية.
الوقفة العاشرة عند قوله: (ومنها أن الجمعية وضعت منهجاً علمياً على مستويات بحسب مستوى الطالب، وهذا هو الجادة في طلب العلم، وهو أمر حسن).
قلت: أين موضع هذا النقد من الكتاب؟ فالكتاب ليس فيه نقد التنظيم على إعداد منهج علمي على مستويات كما يزعم الدكتور. وكيف يُتصور هذا، والكتاب أساساً ينقد التنظيم على إهماله الجانب العلمي!!
ثم يقال: أين هو المنهج العلمي الذي أعدّه التنظيم؟ وأين هي تطبيقاته؟ فالذي أعرفه أن التنظيم مهملٌ للجوانب العلمية إهمالاً كبيراً، وأن الجهود المبذولة في الجوانب العلمية عامتها جهود شخصية لا تنظيمية، وقد فصّل المؤلف هذا الأمر في الكتاب.
ثم إني أتعجب، وحُقّ لي أن أتعجب، كيف عَلِمَ الدكتور بإعداد التنظيم لهذا المنهج العلمي المزعوم وهو يزعم عدم انتسابه إليه، في الوقت الذي يجهله من كان مع التنظيم سنين طويلة وقد كان خلالها يحاول إصلاح الخلل العلمي لدى التنظيم ولم يستطع.
الوقفة الحادية عشرة عند قوله: (ومنها طعنه بالجمعية لموقفها من الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله، وهل احترام العلماء وتقدير سابقتهم في الجمعية من الخلل المنهجي؟).
قلت: إنكار خطأ العالم وبيان انحرافه عن جادة الصواب لا يعارض احترامه وتقديره، بل إن بيان ما وقع فيه العالم من خطأ وزلل هو من البر به والإحسان إليه وللمسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم، أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم، ونرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب، وأعظم حظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لكن دين الإسلام إنما يتم بأمرين:
أحدهما: معرفة فضل الأئمة وحقوقهم ومقاديرهم، وترك كل ما يجر إلى ثلمهم.
والثَّاني: النصيحة لله سبحانه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإبانة ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى.
ولا منافاة أن الله سبحانه بين القسمين لمن شرح الله صدره، وإنما يضيق عن ذلك أحد رجلين: رجل جاهل بمقاديرهم ومعاذيرهم، أو رجل جاهل بالشريعة وأصول الأحكام). [الفتاوى الكبرى (6/92]
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله-: (يجب أن تكون أخلاق أهل العلم مع أهل العلم: يقدرون أهل العلم لمكانتهم، ويعرفون لهم قدرهم ومحلهم وفضلهم. ولكن لا يمنعهم هذا من أن ينبهوا على الخطأ إذا وجدوا خطأ ظاهراً، سواء كان من العلماء المتقدمين أو المتأخرين، ولم يزل أهل العلم يرد بعضهم على بعض إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة …). [مجموع فتاوى ابن باز (26/306)]
فأما إذا كان العالم أو طالب العلم رأساً في فتنة فحينئذٍ يتعين البيان ويجب التحذير تعظيماً لحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم وحق المسلمين.
قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
وليس هذا بمستغربٍ من الدكتور، فإن تربية الشباب على تعظيم القيادات والرؤوس الفكرية للتنظيمات هو دأب الجماعات الحزبية، لأن نقد القيادات، علمية كانت أو غير علمية، مؤذنٌ بتفكك الحزب والتنظيم، ولذلك تجدهم يربون أتباعهم على تعظيم القيادة، ومن ذلك عدم نقدها، فإن كان النقد متعيناً ففي السر لا في العلن، فحقّ الحزب عندهم مقدّم على حق الله وحق رسوله وحق المسلمين.
الوقفة الثانية عشرة عند قوله: (إدخاله قضايا اجتهادية في النقد وكأنها مسلمات “نظام محكم” ص٨، “تقسيم الناس في مدى اتصالهم بالجمعية” ص56)
قلت: إن من أصول منهج السلف لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وأن يكون الولاء للمؤمنين بحسب إيمانهم واتباعهم للكتاب والسنّة ولزوم الجماعة، لا بحسب قبائلهم ولا انتماءاتهم الحزبية والتنظيمية، قال تعالى: {ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون}، وقال صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله»، فكل أمرٍ يفرق الجماعة، ويفصم عرى الأخوة الإيمانية، كالعصبيات أو الانتماءات، فهو محرمٌ ومخالف لأصول منهج أهل السنّة والجماعة.
ومن ذلك إنشاء الأحزاب والتنظيمات الدعوية العامة، وتقسيم الناس باعتبار الانتماء إليها من عدمه، وهذا هو عين التفرق الذي نُهينا عنه في قوله: {ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}.
فكيف يدّعي الدكتور بعد ذلك أن هذا من المسائل الاجتهادية؟!!
الوقفة الثالثة عشرة عند قوله: (عدم تفريقه بين الجماعة الدعوية والفرقة العقدية فهو يراهما سواء (ص٨)).
قلت: وأي فرق بين الجماعة الدعوية والفرقة العقدية إذا كان الجميع مجتمعين على ما يخالف مذهب السلف، فإن العبرة بموافقة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما في الحديث: «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي».
ومما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منهج الدعوة إلى الله، فدعوتهم قائمة على التوحيد والاتباع ولزوم الجماعة والسمع والطاعة للأئمة، وعلى الاجتماع على العقيدة الصحيحة المأخوذة من نصوص الكتاب والسنّة، ومجانبة الشرك وأهله، والبدعة أهلها، والبراءة منهم.
فمن لم يلتزم أصول منهجهم وعقيدتهم فليس منهم، سواءٌ خالفهم في الأسماء والصفات، أو في الإيمان، أو في القدر، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في لزوم الجماعة، أو في السمع والطاعة للأئمة والجهاد معهم، أو في غير ذلك من أصول العقيدة المذكورة في كتب العقائد السلفية.
فكل جماعة لا تلتزم هذه الأصول فهي من الفرق الهالكة، ولو وافقت في بعضها.
قال الإمام أحمد –رحمه الله-: (أصول السنَّة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة). [رواه اللالكائي (1/156)]
وقال البربهاري –رحمه الله-: (ولا يحل لرجل أن يقول: فلان صاحب سنَّة، حتى يعلم أنه قد اجتمعت فيه خصال السنَّة، فلا يُقال له: صاحب سنَّة، حتى تجتمع فيه السنَّة كلها). [«شرح السنَّة» ص57]
فالجماعات التي لا تفرق بين السنّة والبدعة، بل تجمع أفراداً مختلفين في عقائدهم على منهج حركي موحد، ولا يدعون إلى اتباع السنّة ولا يُحذّرون من البدعة، كجماعة الإخوان المسلمين وجماعة التبليغ وغيرهما، فلا شك أنها من الثنتين والسبعين فرقة.
وكذلك كل جماعة تجتمع على مفارقة الجماعة، والوقيعة في الأئمة ونشر معايبهم، والتزهيد في العلماء، والسعي في قلب أنظمة الحكم، كالجماعة القطبية “السرورية”، فهي أيضاً من الثنتين والسبعين فرقة.
قال الشيخ صالح الفوزان –حفظه الله-: (الجماعات فِرَقٌ توجد في كل زمان، وليس هذا بغريب؛ قال صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثة وسبعين فرقة؛ كلهم في النار؛ إلا واحدة»؛ فوجود الجماعات ووجود الفِرَق هذا أمرٌ معروف، وأخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «مَن يَعِش منكم؛ فسيرى اختلافًا كثيرًا».
ولكن الجماعة التي يجب السّير معها والاقتداء بها والانضمام إليها هي جماعة أهل السّنّة والجماعة؛ الفرقة الناجية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بيَّن هذه الفِرَق؛ قال: «كلها في النار؛ إلا واحدة». قالوا: مَن هي؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي».
هذا هو الضّابطُ؛ فالجماعات إنما يجب الاعتبار بمن كان منها على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من السّلف الصالح، والله تعالى يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
هؤلاء هم الجماعة؛ جماعة واحدة، ليس فيها تعدُّدٌ ولا انقسام، مِن أوّل الأمة إلى آخرها، هم جماعة واحدة، {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
هذه هي الجماعة الممتدَّةُ من وقت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام السّاعة وهم أهل السنة والجماعة، وأما ما خالفهم من الجماعات؛ فإنه لا اعتبار بها، وإن تسمّت بالإسلاميّة، وإن تسمّت جماعة الدّعوة أو غير ذلك؛ فكل ما خالف الجماعة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنها من الفرق المخالفة المتفرّقة التي لا يجوز لنا أن ننتمي إليها أو ننتسب إليها؛ فليس عندنا انتماء إلا لأهل السنة والتوحيد، {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ}، والذين أنعم الله عليهم بيَّنَهُم في قوله: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.
فالجماعة التي اتخذت منهجها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعملت بقوله صلى الله عليه وسلم: «فإنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي؛ تمسّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور»؛ هؤلاء هم الجماعة المعتبرة، وما عداها من الجماعات؛ فإنه لا اعتبار بها، بل هي جماعة مخالفة، وتختلف في بعدها عن الحق وقربها من الحق، ولكن كلها تحت الوعيد، كلها في النار؛ إلا واحدة، نسأل الله العافية) [«المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان» (1/ س210)]
ولذلك حكم الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- على جماعتي الإخوان المسلمين والتبليغ بأنهما من الثنتين والسبعين فرقة [شريط صوتي في موقع اليوتيوب بعنوان “ابن باز: الإخوان المسلمين في النار”]، ومثله الشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله- كما نقله عنه الشيخ الدكتور عبد الله بن زيد المسلّم وأثبته مكتوباً في بيان بتاريخ 5/6/1431ه.
وعنون الشيخ بكر أبو زيد –رحمه الله- كتابه الماتع حول الانتماء إلى الأحزاب بـ “حكم الانتماء إلى الفرق والجماعات والأحزاب الإسلامية”، فلم يفرق بين المذكورات في الحكم، بل كلما ذكر كلمة “جماعة” قرنها بكلمة “فرقة” وجعلها بين قوسين للدلالة على أن حكمهما واحد.
وقال في ختام بحثه الطويل معلناً النتيجة التي توصّل إليها: (في ظل وحدانية الإسلام، وقواعده، وأصوله الضابطة العامة، والتي منها ما تقدّم، يحصل بكل اطمئنان المنع شرعاً لتحزب أي (فِرقة: جماعة) تحت مظلة الإسلام، تخالفه في شكل أو مضمون، في وسيلة أو غاية، بأمر كلي أو جزئي، إذ الحق واحد لا يتعدد). [«حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية» ص153]
الوقفة الرابعة عشرة عند قوله: (التناقض: فمثلا يقول: “الرد على المخالف وتقويم الجماعات لا يعني اهدار الحسنات”ص١٢، ثم في آخر الكتاب يرى عدم شرعية الجمعية كلها).
قلت: أين التناقض؟ إنما التناقض في ذهن الدكتور!
فهل الردّ على المخالف، أو التنبيه على خطئه يستلزم إهدار حسناته، وعكسه: هل الاعتراف بحسنات جماعة يستلزم ترك الردّ على أخطائها أو عدم بيان الزلل في طريقة اجتماعها؟
لا يخلو مؤمن من حسنات ولو كان مبتدعاً، فإن أعظم الحسنات إيمانه بالله، وكون الشخص مبتدعاً لا يعني خلوه من الخير، كما لا يعني مخالفته للسنّة في كل شؤونه، وكذلك الجماعات والأحزاب قد تكون لها جوانب طيبة موافقة للشريعة وإن كانت في أصلها مجتمعة على وجه يخالف مذهب أهل السنّة والجماعة.
الوقفة الخامسة عشرة عند قوله: (ويستدل بكلام الشيخ عبد الله السبت رحمه الله للوصول الى عدم شرعية الجمعية، بينما الشيخ عبد الله نفسه كان في الجمعية ولم ير ذلك).
قلت: إنما استدل المؤلف من كلام الشيخ السبت بما وافق الحق وأقره عليه الشيخ صالح الفوزان، ولم يستدل بفعله.
ومن القواعد المقررة: أن القول مُقدّم على الفعل حال تعارضهما، لأن الفعل يحتمل التأويلات.
على أني أقول: وما أدراك أيها الدكتور عن حقيقة موقف الشيخ السبت رحمه الله من التنظيم السري، وهل تعلم سبب تأليفه لكتاب “العمل الجماعي”؟ وجهوده في إصلاح أخطاء التنظيم؟
فإذا كان الجواب بـ “لا”، فلا يحق لك إبطال قوله الموافق للكتاب والسنّة بما يظهر لك من فعله.
الوقفة السادسة عشرة عند قوله: (قال المؤلف: “فالإسلام يحرم السرية في الدعوة” ص٦١، وفي نفس الصفحة قال: “والسرية من أوصاف دعوة أهل البدع”، وقال: “ما أستسر أحد بشيء إلا اتهم بالبدعة والسعي في الفرقة”، ولاحظ كلمة “بشي”، وهي نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء. وقال “فالجمعيات السرية في حقيقتها جمعيات سياسية ثورية” (ص63)؟؟؟!!! وقد ردد هذه القضية كثيرا. وهذا الكلام باطل، دل الكتاب والسنة على خلافه).
قلت: ما حكم الدكتور في قول عمر بن عبد العزيز: (إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيءٍ دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة). فإنّ كلمة “شيء” نكرة في سياق الشرط فتعم كل شيء، هل سيحكم على عمر بن عبد العزيز بمثل ما حكم به على المؤلف؟!!
أما تحريم السرّية في جماعات الدعوة في بلاد المسلمين من غير مسّوغ شرعي، فهذا مما لا نزاع فيه بين علماء أهل السنّة والجماعة.
فصورة السرّية الممنوعة: هي تكوين جماعةٍ أو تنظيم سرّي في ظل جماعة مسلمة وتحت ولاية حاكمٍ مسلم، سواءٌ كان اجتماعهم على منازعة الحاكم ولايته أو على الدعوة عموماً أو على غير ذلك من الأمور. وهذه هي السرية التي كانت تعمل بها الجماعات الباطنية والسياسية.
ولا شك أن هذا الفعل من أسباب الفرقة والخلاف، وهو افتئات على الحاكم المسلم، كما أنه أمارة على الابتداع والإحداث، ولذلك اتهم السلف من فعل ذلك بأنه على تأسيس ضلالة.
أما إذا كان المسلمون تحت ولاية كفار يُؤذون كل من أظهر إسلامه من المسلمين، كما جرى للمسلمين في أول البعثة فحينئذٍ يُشرع للمسلمين أن يرتبوا أمورهم سراً، وهذا قد ذكره المؤلف في الكتاب.
والنهي عن السرية قد جاء منصوصاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أوصني. قال: (اعبد الله ولا تشرك به شيئا، وأقم الصلاة، وآت الزكاة، وصم رمضان، وحج البيت واعتمر، واسمع وأطع، وعليك بالعلانية وإياك والسر). [رواه ابن أبي عاصم في السنة (1070) وقواه الألباني]
ونصوص العلماء في المنع من هذا النوع من السرية كثيرة، نقل المؤلف بعضها في الكتاب، أكتفي منها في هذا الموضع بقول الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-: (في الدولة الإسلامية لا يجوز أن تقوم جماعة سرية، كأصلٍ عند أهل السنّة، لا يجوز أن تقوم جماعة سرية لها أهداف خاصة سرية؛ لأن هذا فيه افتئات على الحاكم). [شرح “كشف الشبهات” ص104]
الوقفة السابعة عشرة: ذكر الدكتور قصة أصحاب الكهف في اختفائهم عن قومهم، وقول نوح عليه السلام {ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا}، ثم ذكر حديث معاذ وعمر رضي الله عنهما في إخفاء فضل التوحيد لئلا يتكل الناس. ثم قال: (وكلها هذه الأحاديث في الصحيح وكلها في المدينة بدار الاسلام والتمكين، ومع هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسرية.)
قلت: هذه الصور المذكورة خارجة عن محل النزاع، والدكتور وللأسف لم يتصور المسألة تصوراً صحيحاً، ولا أدري ما السبب: هل هو سوء الفهم؟ أم سوء القصد؟ أم أمر آخر؟ المهم أن الدكتور هدانا الله وإياه، ورزقنا وإياه الفهم الصحيح وحسن القصد، قد خلط الأمور، فإن صورة السرّية المتنازع عليها ما ذكرته آنفاً ألا وهي سرّية الأحزاب والجماعات تحت ولاية الحاكم المسلم وفي ظل الجماعة المسلمة. وهو لم يأت بما يدل على جواز هذه الصورة المتنازع عليها لا من نصوص الكتاب والسنة، ولا من أقوال العلماء والأئمة. كما أنه لم يُبيّن ما يجوز من السرية وما لا يجوز، وظاهر كلامه تجويز سريّة الجماعات في البلاد الإسلامية وفي ظل جماعة المسلمين وإمامهم، إذ إنّ الكتاب يدور حول هذا النوع من السرّية.
والذي يظهر أن الدكتور هدانا الله وإياه أخذ يقلب الأحاديث باحثاً عما ورد فيها من كلمة “سرّي” وما تصرف منها، ثم أخذ يسوقها مستدلاً بها على جواز السرية في التنظيمات والأحزاب!!
ولا أجد وصفاً مناسباً لهذا الصنيع إلا سؤال الله تعالى أن يرزقنا وإياه حسن الفهم والقصد.
وبعد صنيعه هذا، وبسبب خطئه في تصوّر المسألة، وجمعه بين المفترقات، أخذ الدكتور يفرّع تفريعات خارجة عن محل النزاع.
وأما قوله: (وكلها هذه الأحاديث في الصحيح وكلها في المدنية بدار الاسلام والتمكين، ومع هذا أمر النبي ﷺ بالسرية.). فإنه من المضحك المبكي!!
فإن هذه أحاديث فيها الأمر بكتم بعض فضائل الأعمال عن الناس لئلا يتكلوا، وهي بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره، وهو الرسول والحاكم معاً، وأما السرّية التي يتحدث عنها الكتاب فهي السرّية عن الإمام والحاكم بتشكيل جماعات دون جماعة الإمام، وهاتان صورتان مختلفتان ومتضادتان.
ثم قال في ختام بحثه في السرية: (وأخيرا، -وستعجبون كما عجبت- سأرد من نفس الكتاب، قال في ص١٤: “والنصح والتوجيه والتقويم قد يكون “سرا” وقد يكون علانية بحسب الحال والمقام”. وقال في نفس الصفحة “فإن كان ولابد ففي السر لا في العلن“.)
ولا أدري أيهما أحق بالتعجب المؤلف أم الدكتور!!!
فأين هذا مما نحن فيه؟ نحن نتكلم عن سرّية الجماعات والأحزاب عن الإمام والجماعة.
الوقفة الثامنة عشرة عند قوله: (فإن كان المقصود بالسرية عنده عدم وجود ترخيص، فجمعية إحياء التراث مرخصة).
قلت: قوله هذا يؤكد ما ذكرته من أن الدكتور لم يفهم مراد المؤلف ولم يفقه موضوع الكتاب برمّته على وضوحه، فإن السرّية التي منع منها الكتاب هي سريةّ التنظيم الذي هو أعلى من الجمعية المرخصة رسمياً، وأما الجمعية الرسمية فهي من فروع التنظيم وأذرعه، فجمعية إحياء التراث تندرج تحت التنظيم لا العكس. وهذا الأمر مذكور في الكتاب بشكل واضح وصريح في مبحث “حقيقة تنظيم جمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت” ص112.
الوقفة التاسعة عشرة عند قوله: (ثانيا: الهرمية: وهذه مشكلة عند المؤلف في تعليق التحريم بمناطات ليس فيها نص، فهو يرى أن العمل الإداري إذا كان هرمياً محرم. وهذا أمر عجيب، كيف أصبح الأسلوب الاداري محرماً، وعلى أي أساس حُرم، فإن قال إن الهرمية حرام بعينها، طالبناه بالدليل).
قلت: المراد بالهرمية الممنوعة في الكتاب هي: هرمية الأحزاب والتنظيمات الدعوية العامة، لا مطلق الهرمية، فالمؤلف يتكلم عن هرمية مخصوصة قد وصفها بشكل واضح في المبحث الثالث من الفصل الأول من الكتاب، وضرب لها أمثلة بهرمية جماعة الإخوان المسلمين وجماعة القطبيين. وفرّق بينها وبين ما دونها من الهرمية، مثل وضع نظام لترتيب العمل الدعوي المؤسسي أو المحدود.
وكل من له اطلاع على هيكلة الفرق والجماعات والأحزاب يعلم ما يعنيه المؤلف من الهرمية التي تقوم على مبدأ الانتماء والولاء للجماعة، وعلى مبدأ السمع والطاعة، والترقّي في المناصب يكون بحسب الولاء للحزب والبذل له.
وقد نقل المؤلف من كلام الألباني -رحمه الله- ما يدل على التفريق بين النوعين في الصورة والحكم (ص99) وذلك حينما سُئل سؤالاً هذا نصه: (ما رأيكم بالعمل الجماعي الحركي إن كانوا على منهج السلف الصالح المنظّم القائم على التخطيط؟
فأجاب: نحن لا نؤمن بالتنظيم المعروف اليوم؛ لأن هذا التنظيم يعني شيئًا لا يُمكِّن المسلمين من القيام بواجبهم الديني، لا يشك أي مسلم أن التنظيم كلمة عامة يمكن أن نوسعها بحيث إنه تشمل عمل سري مثلًا، وأن نضيقها بحيث إنه تشمل تنظيم دروس من كل أنواع الدروس التي ينتفع منها المسلمون، يوم مثلًا درس التفسير، يوم في الحديث، يوم في الفقه، يوم في المواعظ، ويوم في اللغة؛ في النحو وفي الصرف إلى آخره مما يساعد المسلمين على أن يتفقهوا في دينهم؛ هذا بلا شك: تنظيم ولا أظن أن هذا النوع من التنظيم حينما يُذكَر التنظيم في مثل السؤال السابق، هو المقصود به، وإنما يُقصَد به ما هو أوسع من ذلك بكثير وكثير جدًا، ومن ذلك التحزُّب والتكتل جماعة ضد الجماعة الأخرى، ولكل من الجماعتين منهج ونظام، ولكل من الجماعتين رئيس يجب أن يُطاع ويجب أن تُنفَّذ أوامره، هذا ليس من الإسلام في شيء أبدًا؛ لأنه من غير شيء نحن نعيش في فُرقة، فحينما نريد أن نوجد حزبًا جديدًا: فمعنى ذلك أننا زدنا سببًا جديدًا في توسيع دائرة الفرُقة والاختلاف بين المسلمين. ولذلك نحن لا نؤيد مثل هذا التنظيم إطلاقًا).
كما نقل المؤلف أيضاً عن الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- ما يدل على التفريق بينهما (ص104) وهو قوله: (أهل السنّة والجماعة يُقرّون بالجماعة بمعنى التجمع؛ التجمع للدعوة للخير، للأمر والنهي، وللهدى والصلاح، تجمعاً مشروعاً يكون فيه تطاوع وليس فيه طاعة، ويكون فيه ائتلاف ولا يكون فيه أمرٌ ونهي، يكون فيه نظام وليس فيه تنظيم، وهذه هي أصول دعوة كل من تجمّع من أهل السنّة والجماعة في قديم الزمان وفي الحديث …
كذلك من جهة التنظيم، يعني بعض الجماعات تتجمع على تنظيم، وهؤلاء كما رأيت في بعض مؤلفاتهم يستدلون بمقالات شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، هم لم يفهموا، فإن شيخ الإسلام -رحمه الله- ذَكَر نظاماً وما يعني به النظام ولم يذكر تنظيماً، لأن التنظيم هذا حادث، التنظيم بمعنى تكوين رأس للحزب يُطاع، ومن تحته تُبلّغ لهم الأشياء كما يحصل من طاعة الإمام هذا لا شك أنه لا يجوز، ولا يدل عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ولا غيره.
إذن تحقيق القول في المسألة وهي تكوين الجماعة الخاصة أنه يجوز أن تكون الجماعة بمعنى التجمع على الخير والهدى، اثنين، ثلاثة، أربعة، عشرة، نتواصى ونتآخى، نقرأ، ننصح، نذهب إلى فلان ندعو ونحو ذلك، لكن يكون بيننا تطاوع وليس بيننا طاعة، بيننا نظام وليس عندنا تنظيم، وهذه هي أصول الدعوة الناجحة، وما عداها من دعوات فهي دعوات تشبه دعوات الخارجين عن مسمى الإسلام).
وعلى هذا فقول الدكتور: (وهذه مشكلة عند المؤلف في تعليق التحريم بمناطات ليس فيها نص) نابعٌ من ضعف تصورّه، فإن الهرمية المقصودة في التنظيمات والأحزاب أمرٌ محدث، والأمر المحدث لا يُطلب له نص، فإن عدم النص دليلٌ على حدوثه. ودليل هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي لفظ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
ومناهج الدعوة توقيفية لا يجوز إحداث منهج جديد، بخلاف الوسائل، وقد ذكر المؤلف ما يدل على أن الدعوة عبر تكوين تنظيمات دعوية هرمية عامة أمرُ مُحدث لم يجر عليه عمل السلف، وذَكَر الأوجه الدالة على المنع منها.
وقد نقل المؤلف من كلام العلماء ما يدل على ذلك (انظر ص77)، ومن ذلك قول الشيخ صالح الفوزان –حفظه الله-: (مناهج الدعوة توقيفية، بيَّنها الكتاب والسنّة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا أحدثنا ضِعنا وضَيَّعنا. قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ».
نعم، جَدَّت وسائل تُستخدم للدعوة اليوم، لم تكن موجودة من قبل، مثل : مكبرات الصوت، والإذاعات، والصحف، والمجلات، ووسائل الاتصال السريع، والبث الفضائي؛ فهذه تُسمى وسائل، يُستفاد منها في الدعوة، ولا تُسمّى مناهج؛ فالمناهج بَيَّنها الله تعالى بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة بمكة والمدينة ما يُبَيّن مناهج الدعوة؛ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}).
ثم قال الدكتور: (كيف أصبح الأسلوب الاداري محرماً، وعلى أي أساس حُرم، فإن قال إن الهرمية حرام بعينها، طالبناه بالدليل).
قلت: وهذا ناشئ كما ذكرت من ضعف تصوره، فإن هرمية الأحزاب والتنظيمات العامة ليست أسلوباً إدارياً، بل منهجاً مُحدثاً. وأما مطالبته المؤلف بالدليل فقد سبق الجواب عليه.
نعم، المؤسسات المرخصة لابد لها من ترتيب إداري لضبط العمل، وهذا داخل في النوع الأول من التنظيمات الجائزة، وهو مُفصّل في المبحث الثاني من الفصل الأول من الكتاب.
ثم قال الدكتور: (وإن قال هو مخصوص على العمل الدعوي، طالبناه بالمخصص).
قلت: المخصص ما سبق ذكره من أن مناهج الدعوة توقيفية لا يجوز إحداث منهج لم تأت به النصوص ولم يَجر عليه عمل السلف.
وعلى هذا فمناط التحريم هو الابتداع والإحداث، وكل بدعة ضلالة.
الوقفة العشرون عند قوله: (والصحيح أن السرية والهرمية من المصالح المرسلة، وهي وسائل حكمها حكم غايتها.)
قلت: أما المصلحة المرسلة فهي: المصلحة التي لم يشرع الشارع حكماً لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها، وسميت مرسلة لأنها لم تقيد بدليل اعتبار أو دليل إلغاء.
ومن ضوابطها ألا تخالف نصاً أو إجماعاً أو عملاً للسلف. فأما إذا خالفت نصاً أو إجماعاً أو خالفت عمل السلف بأن وُجد مقتضاها في عهدهم ولم يعملوا بها مع عدم المانع، فهي مصلحة ملغاة شرعاً، فإنها لو كانت مصلحة شرعية لما تركها السلف مع وجود المقتضي وعدم المانع، والسنّة كما أن منها ما هو فعليٌّ، فمنها ما هو تركيٌّ أيضاً.
قال ابن تيمية –رحمه الله-: (فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً، لو كان مصلحة ولم يُفعل يُعلم أنه ليس بمصلحة، وأما ما حدث المقتضى له بعد موته من غير معصية الخالق فقد يكون مصلحة). [«اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم» (1/287)]
وعدم اعتبار هذا الضابط هو الذي فتح باب البدع في الدين على مصراعيه، ولأجل ذلك أنكر جمعٌ من أهل العلم الاحتجاج بالمصالح المرسلة.
قال العثيمين -رحمه الله-: (المصالح المرسلة والمقيدة إن اعتبرها الشرع، ودل عليها فهي حق ومن الشرع، وإن لم يعتبرها؛ فليست مصالح، ولا يمكن أن تكون كذلك، ولهذا كان الصواب أنه ليس هناك دليل يسمى بالمصالح المرسلة، بل ما اعتبره الشرع فهو مصلحة، وما نفاه ليس بمصلحة، وما سكت عنه فهو عفو. والمصالح المرسلة توسع فيها كثير من الناس، فأدخل فيها بعض المسائل المنكرة من البدع وغيرها). [مجموع فتاوى ابن عثيمين 10/743]
هذا ما تيسر ذكره، والله أسأل أن يرينا الله الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يرزقنا حسن الفهم والقصد.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.