االحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
فإن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- دعوة سنّية سلفية على منهاج النبوة، وقد كتب الله لها القبول على نحوٍ لم يَسبق له مثيل، فتأثر بها المصلحون والدعاة المخلصون في عامة بلاد المسلمين ممن تجرّدوا للحق وأحبّوه وآثروه على غيره، فلم تَحُل بينهم وبين اتباع الحقّ والدليل عصبية ولا قومية ولا طائفية، وهذا القبول لم يكن محصوراً في الجزيرة العربية، كما أنه لم يُفرض بقوة السيف والسلطان، بل ذاع وانتشر بالحجة والبيان، وكل من قلّب صفحات التاريخ علم صدق ذلك، فالدعوات التي قامت في بلاد المسلمين متأثرة بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية كثيرة، حتى إنه لم تخل دولة من دول المسلمين إلا ووجد فيها من يقوم بدعوة التوحيد متأثراً بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية المباركة، فحمل لواء هذه الدعوة شخصيات علمية، وهيئات وجمعيات ومؤسسات شرعية، بل نشأت دولٌ وتأسست حكومات قائمة على مبادئ هذه الدعوة المباركة، كما حصل في أندونيسيا والهند والسودان والسنغال، وغيرها من البلاد، والكتابات في آثار الدعوة الإصلاحية وصداها في العالم الإسلامي كثيرة متنوعة.
وهذه الدعوة الإصلاحية المباركة لم تبلغ ما بلغته من الانتشار والذيوع ولم يُهيّئ ما هُيّئ لها من التمكين إلا بعد جهدٍ كبير، وصبرٍ عظيم، وابتلاء وامتحان قلَّ مثيله، وهي سنّة الله تعالى في المصلحين قديماً وحديثاً، يُبتلون ويؤذون فيصبرون ثم تكون العاقبة لهم، قال تعالى: {أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون} الآيتين، وقال صلى الله عليه وسلم: «أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل» ؟؟.
والشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- قد نال أوفر الحظَّ والنصيب من هذا الابتلاء، فلقي من العداوة والخصومة ما لم يَلْقَه كثير من المصلحين، لا سيما في أول دعوته، فقد خالفه وعارضه كثير من الناس على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم، وأوذي في ذلك أذىً شديداً.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: (وصار أعداؤه وخصومه قسمين: قسم عاداه باسم العلم والدين، وقسم عادوه باسم السياسة، ولكن تستروا باسم العلم، وتستروا باسم الدين، واستغلوا عداوة من عاداه من العلماء الذين أظهروا عداوته). «محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته» ص38
والذين أشار إليهم الشيخ ابن باز في القسم الأول، وهم من عادوه باسم الدين، هم أيضًا قسمان: المنتسبون إلى العلم، والعامة المقلدون.
وأشدهم عداوة: المنتسبون إلى العلم، فإنهم كانوا أكثر الخصوم معاندة ومعارضة للدعوة، ومجاهدة لها، وهم من تولّى كِبَر الخصومة؛ ألَّبوا الرؤساء والعامة على الشيخ ودعوته، حتى إنهم لم يتركوا سبيلاً ووسيلة للصدّ عن دعوته والتنفير عنها إلا سلكوه. وهم أكثر من عانى منهم الشيخ في دعوته، ولذلك كانت عامة رسائله في محاورتهم وكشف شبهاتهم، والردّ على افتراءاتهم.
قال الشيخ -رحمه الله- في رسالته إلى أحمد بن يحيى: (ولا يخفاك أن الذي عادانا في هذا الأمر هم الخاصة الذين ليسوا بالعامة). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص300
وقال في موضع آخر: (ثم هؤلاء الذين يزعمون أنهم علماء، اشتد إنكارهم علينا لما تكلمنا بذلك، وزعموا أنه دين جديد، ومذهب خامس، وأنهم لم يسمعوه من مشايخهم ومن قبلهم، ولقد صدقوا في ذلك). «الدرر السنية» 7/535
حتى إن الشيخ قد سمّى منهم في رسائله الشخصية واحداً وأربعين بالاسم من داخل نجد وخارجها.
وقد قال ابن غنام في سياق مبدأ دعوة الشيخ في حريملاء وذِكر أول ما جرى من الخصومة: (لَهَجَ بالإنكار عليه كثيرٌ من أهل العلم والأفهام، وركضوا مع الرؤساء والشياطين والطغام، فقلدوهم في ذلك الأمر العوام، فكان للجميع على الأنكال انتظام، وعلى الإعانة في ذلك التزام). «تاريخ ابن غنام» 1/30
وهؤلاء الخصوم الذين يُسمّيهم الشيخ بالخاصة، لم يكونوا على درجة واحدة في الخصومة، بل كانوا متفاوتين فيها، كما أنهم مختلفون في أسبابها.
من ذلك ما أشار إليه الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- بقوله: (والخصوم في الحقيقة ثلاثة أقسام: علماء مخرفون يرون الحقّ باطلاً، والباطل حقًّا، ويعتقدون أن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، ودعاءها من دون الله، والاستغاثة بها وما أشبه ذلك دينٌ وهدى، ويعتقدون أن من أنكر ذلك فقد أبغض الصالحين، وأبغض الأولياء، وهو عدو يجب جهاده.
وقسم آخر: من المنسوبين للعلم جهلوا حقيقة هذا الرجل، ولم يعرفوا عنه الحقّ الذي دعا إليه، بل قلّدوا غيرهم، وصدّقوا ما قيل فيه من الخرافيين المضللين، وظنوا أنهم على هدى فيما نسبوه إليه من بغض الأولياء والأنبياء، ومن معاداتهم، وإنكار كراماتهم، فذموا الشيخ، وعابوا دعوته ونفروا عنه.
وقسم آخر: خافوا على المناصب والمراتب فعادوه لئلا تمتد أيدي أنصار الدعوة الإسلامية إليهم فتزيلهم عن مراكزهم، وتستولي على بلادهم). «محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته» ص39
وهذا يعني أن قسماً منهم خاصمه عن علمٍ بدعوته، وقسماً خاصمه عن جهل بها وتقليد، وقسماً خاصمه خوفاً على مصالحهم.
فأما القسم الأول، فإن الشيخ -رحمه الله- اعتنى بكشف شبهاتهم، وردّ باطلهم، وبيان ضلالهم، وأقام الحجج والبراهين على صحة ما دعا إليه من التوحيد والاتباع.
وأما القسم الثاني، فكاتبهم الشيخ موضحاً دعوته، ومبيّناً حاله وما يدعو إليه، ومكذِّباً ما افتراه عليه خصومه من الأقوال والأحوال.
وأما القسم الثالث، فقد قام الشيخ بتذكيرهم بالله، ووعظهم، وتخويفهم من عقابه سبحانه.
ولكلِّ طائفة منهم نصيبٌ من رسائله، وكتاباته.
وقد عدّ الشيخ بعض أسباب هذه الخصومة، فقال: (وبالجملة: فهذا الحديث قد خالف أهواءهم، من وجوه متعددة:
الأول: أنهم لا يعرفونه، مع كونهم يظنون أنهم من العلماء.
الثاني: أنه خالف عادات نشؤوا عليها؛ ومخالفة العادات شديد.
الثالث: أنه مخالف لعلمهم الذي بأيديهم، وقد أشربوا حبه كما أشرب بنو إسرائيل حب العجل.
الرابع: أن هذا الدين يريد أن يحول بينهم وبين مآكلهم الباطلة المحرمة الملعونة، إلى غير ذلك من الأمور التي يبتلي الله بها العباد.
فلما ظهر هذا الأمر، اجتهدوا في عداوته وإطفائه بما أمكنهم، وجاهدوا في ذلك بأيديهم وألسنتهم). «الدرر السنية» 7/535
وبالنظر إلى درجات الخصومة ووقتها، يمكن تقسيم الخصوم المنتسبين إلى العلم إجمالاً إلى ثلاث فئات:
الأولى وهي أشدها: وهي التي خاصمت الدعوة منذ بدايتها، وغَلَت في الخصومة، ومن أشهر رموزها: عبد الله بن عيسى المويس (1175ه) وهو من علماء حَرْمة، وسليمان بن محمد بن عبد الوهاب أخو الشيخ (1208ه)، ومحمد بن عبد الرحمن بن عفالق (1164ه) من علماء الإحساء.
والفئة الثانية: التي وافقت الشيخ في بداية الدعوة ثم خالفته، ثم إن منهم من غلا في الخصومة بعد ذلك، ومنهم من لم يَغْلُ. منها: سليمان بن سحيم من علماء الرياض (1181ه)، وعبد الله بن سحيم من المجمعة.
وأما الفئة الثالثة: وهي التي لم تشتد خصومتها للشيخ ودعوته، من هذه الفئة: عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية (1164ه) وابنه عبد الوهاب.
قال ابن غنام -رحمه الله- في ذكر أشدّ الخصوم للشيخ: (والذي تولى منهم هذا الأمر الكبير، واقتحم لجج موجه الخطير، وشمّر فيه أعظم التشمير، وتنادى عليه مع أعوانه لأجل التغيير حسداً وبغياً لفوزه بهذا الفضل الكثير، والفخر النابل المنير: سليمان بن سحيم وأبوه محمد من مطاوعة الرياض، والموانيس من أهل منيخ، وعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد الرحمن بن عفالق، فصار كل من هؤلاء معانداً مجادلاً مشاققاً، وحذروا منه جميع الأنام، وأخرجوه بلا شك من حوزة الإسلام، وأغروا به الخاص والعام؛ خصوصاً السلاطين والحكام…). «تاريخ ابن غنام» 1/32
ثانياً: موقف الخصوم تجاه الدعوة الإصلاحية
من نظر في المكتبة الإسلامية وتتبَّع ما كُتب عن تاريخ الدعوة الإصلاحية وصراعها مع خصومها، وتابع ما يُقال ويُبحث في المنتديات والمحاضرات واللقاءات، وما يُنشر ويُتداول في كثيرٍ من وسائل التواصل الاجتماعي، يرى ضعفاً ظاهراً في تصوّر الواقع عند عددٍ ليس بالقليل من الخائضين في هذا الموضوع، سواءٌ من المختصين بالتاريخ أو غيرهم، من خلال التخبط الواضح في تحقيق صورة الصراع، ومعرفة طبيعة النزاع، وهذا ظاهرٌ في أطروحاتهم في تحليل الأحداث، وتفسير الوقائع، وذِكر الأسباب، الأمر الذي ولّد عندهم انتقادات للدعوة أو بعض ممارساتها، ولو أمعن هؤلاء النظر في مواقف خصوم الدعوة تجاهها، وألمّوا بهذه المواقف حقيقة الإلمام، ووقفوا على جهود الخصوم ونشاطهم في معارضة الدعوة، واستبانت لهم صور أفعالهم، لعلموا خطأهم، بل جهلهم بالواقع أو الشرع أو كليهما.
وباستقراء تاريخ الدعوة، وتتبع ما جرى من أحداث، ومن خلال سبر كتابات الشيخ وخصومه، والوقوف على الرسائل المتبادلة بينهم، فإنه يمكن إجمال مواقف الخصوم من الدعوة الإصلاحية بالتالي:
الموقف الأول: إهمالهم توحيد العبادة وعدم اعتباره أصلاً في الدين، وحصرهم التوحيد والشرك في الربوبية، باعتقاد كونه تعالى خالقاً مدبّراً متصرفاً، ولذلك أنكروا كون الشرك في عبادة الله مخرجاً من الإسلام، فجوّزوا الشرك الصريح كدعاء الموتى وسؤالهم الشفاعة بشرط الإقرار بالربوبية، ومنهم من حرّم الشرك في العبادة تحريماً لا يبلغ الكفر
وهذا الأمر يُعدّ من أظهر مواقف الخصوم تجاه الدعوة الإصلاحية، فإن مدار خصومتهم ومعارضتهم للشيخ كانت حول الأصل الذي دعا إليه من وجوب توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والنهي عن الشرك، وهو الأسّ الذي قامت عليه دعوته، وحوله دارت خصومته.
ومظاهر موقفهم هذا من الدعوة كثيرة، منها: أقوالهم وكتاباتهم في تقرير هذه المسألة، وتسجيل خطوطهم على رسائل بعض علماء البلدان في حصر الشرك بالربوبية على جهة الإقرار بما فيها ونشرها وإذاعتها.
وقد ذكر الشيخ هذا الموقف في مواضع عدة من رسائله، وبيّن -رحمه الله- جهودهم الحثيثة في مجالس الأمراء والوجهاء وعند عموم الناس في القرى والبلدان في تقرير ضدّ ما دعا إليه من اعتبار التوحيد في العبادة أصل الدين، كما أشار إلى جهودهم الكتابية في تجويز الشرك في العبادة، وذَكَرَ إثبات خطوطهم على رسائل أرسلت إلى نجدٍ من بعض المنسوبين إلى العلم في البلدان فيها التصريحُ بتخطئة الشيخ وتضليله، وتقريرُ حصر الشرك الأكبر في الربوبية، وامتناعُ اعتبار الشرك في العبادة مخرجاً من الإسلام.
قال الشيخ -رحمه الله- في رسالته لابن عباد: (ولكنْ العام لما وجَّهنا إليه إبراهيم كتبوا له علماء سدير مكاتبة وبعثها لنا، وهي عندنا الآن، ولم يذكروا فيها إلا توحيد الربوبية… إن هؤلاء ما عَرَفوا التوحيد، وإنهم منكرون دين الإسلام،… وكذلك ابن إسماعيل إنه نقض ما أبرمْتُ في التوحيد، وتَعْرِف أنّ عنده الكتاب الذي صنَّفه رجل من أهل البصرة، -قلت: هو أحمد القباني- كلّه من أوله إلى آخره في إنكار توحيد الألوهية، وأتاكم به ولد محمد بن سليمان راعي وثيثة، وقرأه عندكم، وجادل به جماعتنا، وهذا الكتاب مشهور عند المويس وأتباعه مثل ابن سحيم وابن عبيد يحتجون به علينا، ويَدْعون الناس إليه، ويقولون: هذا كلام العلماء. فإذا كنت تعرِف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاتل الناس إلا عند توحيد الألوهية، وتعلَم أن هؤلاء قاموا وقعدوا ودخلوا وخرجوا وجاهدوا ليلا ونهاراً في صدِّ الناس عن التوحيد؛ يقرءون عليهم مصنّفات أهل الشرك). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص20
وقال في رسالته إلى فاضل آل مزيد: (فلما ذكرتُ لهم أنّ هذه المقامات التي في الشام والحرمين وغيرهم أنها على خلاف أمر الله ورسوله، وأنّ دعوة الصالحين والتعلق بهم هو الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار}، فلما أظهرتُ هذا أنكروه وكَبُر عليهم، وقالوا: أجعلتنا مشركين وهذا ليس إشراكاً). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص33
وأشار الشيخ إلى كتابة محمد بن فيروز بجواز ما يُفعل عند قبر يوسف من الدعاء والاستغاثة، فقال في رسالته لأحمد بن إبراهيم: (ولكن تعرف ابن فيروز أنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجلٌ من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة، ومع هذا صنَّف مصنَّفاً أرسله إلينا قرَّر فيه هذا الذي يُفعل عند قبر يوسف وأمثاله هو الدين الصحيح). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص206
وأشار إلى ما كتبه أحمد القباني البصري رداً على استكتاب أهل الإحساء، فقال في رسالته لأحمد بن إبراهيم: (وأيضاً جاءنا بعض القسم الذي صنَّفه القباني، واستكتبوه أهل الحسا وأهل نجد، وفيه نقلُ الإجماع على تحسين قبة الكواز وأمثالها، وعبادِتها وعبادةِ سيّة طالب، ويقول في تصنيفه: إنه لم يخالف في تصنيفه إلا ابن تيمية وابن القيم وعشرة أنا عاشرهم، فالجميع اثنا عشر، فإذا كان يوم القيامة اعتزلوا وحدهم عن جميع الأمة، وأنتم إلى الآن على ما تعلم مع شهادتكم أن التوحيد دين الله ورسوله وأن الشرك باطل وأيضاً مكاتيب أهل الحسا موجودة). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص206
وقال -رحمه الله- في الرسالة نفسها: (فما ظنك بولد المويس وفاسد –قلت: يقصد صالح- وأمثالهما، يوضحه: تسجيلهم على جواب علماء مكة، ونشره وقراءته على جماعتهم ودعوتهم إليه). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص208
قلت: وجواب علماء مكة الذي أشار إليه الشيخ قد قرروا فيه حصر الشرك بالربوبية، وإنكار أن يكون الشرك في العبادة مخرجاً من الملة.
قال الشيخ في رسالته لأحمد بن إبراهيم: (إن المكاتيب التي أرسلها علماء الحرمين مع المزيودي سنة الحبس عندنا إلى الآن تتناك -أي: تنتظرك-، وقد صرّحوا فيها أنّ من أقرّ بالتوحيد كَفَر وحلّ ماله ودمه وقُتل في الحل والحرم، ويذكرون دلائل على دعاء الأولياء في قبورهم، منها قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، فإن كانت ليست عندك، ولا صبرت إلى أن تجيء، فأرسل إلى ولد محمد بن سليمان في وشيقر، ولسيف العتيقي يرسلونها إليك، ويجيبون عن قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}، أنهم يدعون على أنهم المُعطون المانعون بالأصالة، وأما دعوتهم على أنهم شفعاء فهو الدين الصحيح، ومن أنكره قتل في الحل والحرم؟). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص205
مقالات أشهر الخصوم التي وقَّع عليها علماء نجد ونشروها:
ومقالات الخصوم في إنكار ما دعا إليه الشيخ من التوحيد في العبادة، ونهيه عن صرفها لغير الله، كثيرة.
قال أحمد القباني البصري مقرراً أن الشرك محصورٌ في السجود للتماثيل خاصة: (إن عبادة المشركين للأنبياء والأولياء إنما هي السجود لتماثيلهم ليتقربوا إليهم). «فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب» ق36 ، نقلاً عن «دعاوى المناوئين» ص279
وقال أيضًا في معرض ردّه على أقوال الشيخ: (أما إنهم بمجرد قولهم: يا رسول الله اشفع لي، أو أغثني، وأنها مساواة لقول المشرك واعتقاده أن المسيح هو الله، ولعبادة تمثاله من السجود والذبح كما ادعيت ذلك وجزمت به، فما أقمت على ذلك الدليل والبرهان يا طويل الآذان). «فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب» ق38، نقلاً عن «دعاوى المناوئين» ص279
وقال مؤكداً أن الشرك إنما هو اعتقاد التأثير بالمدعو لا غير: (فهل سمعت عن أحدٍ من المستغيثين أنه يعتقد في الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الولي المستغاث به، أنه إله مع الله يضر وينفع، ويشفع بذاته كما يعتقد المشركون فيمن عبدوه؟). «فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب» ق61 (نقلاً عن «دعاوى المناوئين» ص195)
وقال محمد بن عبد الرحمن بن عفالق نافياً أن يكون الذبح والنذر لغير الله شركاً: (فاجتمعت الأمة على أن النذر والذبح لغير الله حرام، ومن فعلها فهو عاص لله ورسوله… والذي مَنَعَ العلماء من تكفيرهم أنهم لم يفعلوا ذلك باعتقاد أنها أندادٌ لله). جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، «الوهابية دين جديد» ص453
ولم يكتف ابن عفالق بهذه الضلالة حتى بلغ به أن عدّ اعتبار الشرك في عبادة الله شركاً أكبر زندقة!!
حيث قال: (الظاهر الصريح من كلام هذا الجاهل -يعني: الشيخ محمد بن عبد الوهاب- أنّ الشرك في العبادة هو الشرك الأكبر، وهو الذي قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر الكفار بسببه، وهذا خطأٌ وجهلٌ وزندقة…
إلى أن قال: إن الشرك في العبادة هو الشرك الأصغر). [«الوهابية دين جديد» ص463-466]
فانظر إلى هذا الغلو والانحراف.
نعوذ بالله من الضلال. أين هو من قوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، ومن قوله: {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله}، ومن قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، ومن حكايته تعالى عن دعوة كل نبيٍّ لقومه: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.
والقرآن كله من أوله إلى آخره في الأمر بتوحيد العبادة، ووجوب إفراده تعالى بها، والنهي عن صرف شيءٍ منها لغير الله، وفي كون الشرك في العبادة أعظم الذنوب وأشدها خطراً، وأنه الذنب الذي لا يُغفر، كما في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}. فالقرآن قد أحكمه الله وفصّله في تفسير توحيد العبادة والأمر به وذكر دلائله، وفي النهي عما يضادّه من الشرك في العبادة.
ومن مقالاتهم في نفي كون الشرك في العبادة مخرجاً من الملة: قول سليمان بن عبد الوهاب: (من أين لكم أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إذا دعا غائباً، أو ميتاً، أو نذر له، أو ذبح لغير الله، أن هذا هو الشرك الأكبر الذي من فعله حبط عمله وحل ماله ودمه). «الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية» ص6
وقال سليمان أيضاً منكراً ردّة من دعا غير الله أو ذبح لغير الله: (لم يقل أهل العلم: من طلب من غير الله فهو مرتد، ومن ذبح لغير الله فهو مرتد). «الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية» ص7
وقد عَرَضَ سليمان باشا الكبير والي بغداد «كتاب التوحيد» على أكبر علماء بغداد: عبد الله أفندي الراوي، ليعرف رأي علماء بغداد فيه، فكان من جواب الراوي البغدادي على كتاب التوحيد أن قرّر أنَّ الشرك الأكبر لا يكون إلا في الربوبية باعتقاد مؤثّرٍ مع الله، يملك النفع والضر.
قال الشيخ محمد بن علي بن غريب في ذكر مضمون رسالة الراوي التي كتبها للإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: (ومضمونها: أن التوحيد إنما هو مختص بمعنى الربوبية، فالإله اسم مختص بالخالق الرازق الضار النافع وهو الله، ولا يكون اسماً لغيره إلا إن اعتقد أن ذلك الغير يوجد ذلك الضر والنفع اعتقاداً علمياً مع اعتقاد ذلك الغير أيضاً شريكاً لله حتى يطلق على ذلك المعتقد اسم المشرك واسم الكفر الموجب لسفك دمه وخلوده في النار…) «التوضيح عن توحيد الخلاق» ص14
ومن مقالاتهم: إنكار سليمان بن سحيم أن يكون دعاء الموتى والاستغاثة بهم شركاً.
قال الشيخ -رحمه الله- في تعليقه على ما كتبه سليمان بن سحيم: (ويقول -أي: ابن سحيم-: إن دعاء شمسان وأمثاله في الشدائد والنذر لهم ليبرئوا المريض، ويفرجوا عن المكروب الذي لم يصل إليه عبدة الأوثان بل يخلصون في الشدائد لله، ويجعل هذا ليس من الشرك!). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص89
ومن جملة ذلك إنكار سليمان بن سحيم أن يكون الذبح للجن شركاً، حيث عدّه في جملة انتقاداته على الشيخ رحمه الله في رسالته التي كتبها للعلماء في الأمصار محرضاً على الشيخ ومدّعياً ضلاله وخروجه عن الدين بما ابتدعه من الأقوال.
قال سليمان بن سحيم في رسالته إلى العلماء في البلدان في سياق تعداد ضلالات الشيخ حسب زعمه: (ومنها: أنه يقطع بكفر الذي يذبح الذبيحة ويسمّي عليها، ويجعلها لله تعالى، ويُدخل مع ذلك دفع شر الجن، ويقول: ذلك كفرٌ، واللحم حرام، فالذي ذكره العلماء أنه منهي عنه فقط). «تاريخ ابن غنام» 1/113
ومن أقوال ابن سحيم ما ذكره الشيخ في رسالته له: (وأما الكلام الذي لبَّست به على الناس فأنا أبيّنه إن شاء الله كلمة كلمة، وذلك أن جملة المسائل التي ذكرت أربعا: الأولى: النذر لغير الله تقول إنه حرام ليس بشرك. الثانية: أن من جعل بينه وبين الله وسائط كفر. أما الوسائط بأنفسهم فلا يكفرون). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص231
وقد قال الشيخ في رسالته إلى فاضل آل مزيد وهو يحكي عن معارضة خصومه: (فلما ذكرتُ لهم أن هذه المقامات التي في الشام والحرمين وغيرهم أنها على خلاف أمر الله ورسوله، وأن دعوة الصالحين والتعلق بهم هو الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار}، فلما أظهرت هذا أنكروه وكَبُر عليهم، وقالوا أجعلتنا مشركين، وهذا ليس إشراكاً). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص33
الموقف الثاني: تزيين الشرك للناس وتحسينه
هؤلاء الخصوم لم يكتفوا بإنكار وقوع الشرك في العبادة، وتجويز عبادة الأموات بالاستغاثة بهم أو الذبح لهم أو النذر لهم، أو على أحسن الأحوال إنكار كون هذه الأفعال شركاً، بل غايتها عند بعضهم، على نحو ما أشرنا إليه، أن تكون محرمة لا تُخرج من دائرة الإسلام، بل إنهم زادوا على ذلك تزيين الشرك وتحسينه.
قال الشيخ -رحمه الله- في رسالته إلى عموم المسلمين: (فلما عَظَّمَ العوام قطع عاداتهم، وساعدهم على إنكار دين الله بعض من يدَّعي العلم وهو من أبعد الناس عنه- إذ العالم من يخشى الله -فأرضى الناس بسخط الله؛ وفَتَحَ للعوام باب الشرك بالله، وزيَّن لهم وصدَّهم عن إخلاص الدين لله، وأوهمهم أنه من تنقيص الأنبياء الصالحين). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص176
وقال أيضًا في رسالته لابن عيد في إشارته إلى بعض أفعال الخصوم: (إنه على سبيل التنزل أنَّ الشرك لا يكفُر من فعله، أو أنه شرك أصغر، أو أنه معصية غير الكفر، مع أن جميع ما ذكرتم لا يدل على ذلك… لكن أنتم مسلِّمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكره ونهى عنه، فلو أن رجلا أقر بذلك مع كونه لم يفعله، لكنّه زيَّنه للناس، ورغَّبهم فيه، أليس هذا كافراً مرتداً… فكيف بمن سبَّ دين الله الذي بعث به جميع الأنبياء مع إقراره ومعرفته به، ومَدَحَ دين المشركين الذي بعث الله الأنبياء بإنكاره ودعا الناس إليه مع معرفته). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص29
الموقف الثالث: مجادلتهم عن الطواغيت الأحياء الذي يأمرون الناس بعبادتهم والتوجه لهم بالنذر والذبح والدعاء مثل شمسان وتاج وإدريس في الخرج وغيرها من قرى نجد
من جملة معارضة الخصوم لدعوة الشيخ: مجادلتهم عن أشخاص يدّعون الولاية، ويأمرون الناس بصرف العبادة لهم، وقد سمّى الشيخ بعض هؤلاء الطواغيت في كثير من رسائله، منهم: تاج وشمسان وإدريس.
فقال في رسالته إلى من يصل إليه من المسلمين: (إذا عرفتم ذلك، فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشّحون له ويأمرون به الناس؛ كلّهم كفار مرتدون عن الإسلام، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفَّرَهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلاً فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقلّ أحوال هذا المجادل أنه فاسق لا يُقبل خطُّه ولا شهادته، ولا يُصلّي خلفه، بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص188
وقال سليمان بن سحيم في رسالته التي كتبها إلى العلماء في البلدان في سياق تعداد ضلالات الشيخ حسب زعمه: (ومنها: أنه قاطعٌ بكفر سادة عندنا من آل الرسول لأجل أنهم يأخذون النذور -يعني: تاج وشمسان وإدريس-). «تاريخ ابن غنام» 1/112
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في التعريف بشمسان وتاج: (إن يوسف وشمسان وتاج أسماءُ أُناس كفرة طواغيت، وليست أَسماءَ مواضع. فأَما تاج فهو من أَهل الخرج تُصرف إليه النذور، ويُدعى، ويُعتقد فيه النفع والضر، وكان يأْتي إلى أَهل الدرعية من بلده الخرج لتحصيل ماله من النذور، وقد كان يخافه كثير من الناس الذين يعتقدون فيه. وله أَعوان وحاشية لا يُتعرض لهم بمكروه، بل يُدّعى فيهم الدعاوي الكاذبة، وتُنسب اليهم الحكايات القبيحة. ومما يُنسب إلى تاج أَنه أَعمى ويأتي من بلده الخرج من غير قائد يقوده. وأما شمسان فالذي يظهر من رسائل امام الدعوة رحمه الله أنه لا يبعد عن العارض، وله أَولاد يعتقد فيهم). [«فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ» 1/117]
الموقف الرابع: تثبيت المشركين على شركهم؛ وقد ركبوا إلى أهل القباب عباد القبور والأضرحة والمقامات يثبتونهم على ما هم عليه من الشرك ويحذرونهم من دعوة الشيخ
من أفعال الخصوم تجاه الدعوة الإصلاحية: سعيهم الحثيث في تثبيت المشركين على شركهم، ومن ذلك ذهابهم إلى أهل القباب والأضرحة والمقامات، يثبتونهم على ما هم عليه من عبادة الأموات، والعكوف على الأضرحة والمقامات، مصوّبين أفعالهم، مُثنين على صنيعهم، محذّرين من دعوة الشيخ، حاكمين عليه بالضلال والخروج عن الإسلام بدعوته الناس إلى التوحيد.
قال الشيخ -رحمه الله- في رسالته لابن عيد في ذكر بعض أفعال الخصوم: (وينصرون الشرك نصره الذي تعرف مع إقرارهم بأنه شرك، مثل كون المويس وخواص أصحابه ركبوا وتركوا أهليهم وأموالهم إلى أهل قبة الكواز وقبة رجب سنة، يقولون إنه قد خرج من ينكر قبتكم وما أنتم عليه، وقد أحلَّ دماءهم وأموالهم، وكذلك ابن إسماعيل وابن ربيعة والمويس أيضاً بعدهم بسنة رحلوا إلى أهل قبة أبي طالب، وأغروهم بمن صدق النبي صلى الله وسلم، وأحلوا دماءنا وأموالنا، حتى جرى على الناس ما تعرف). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص27
وقال في رسالته لأحمد بن إبراهيم: (مع أنك تعلم ما جرى من ابن إسماعيل، وولد ابن ربيعة سنة الحبس، لما شكونا عند أهل قبة أبي طالب يوم يكسيه صاية، وجميع من معك من خاص وعام معهم إلى الآن، وتعرف روحة المويس وأتباعه لأهل قبة الكواز، وسية طالب يوم يكسيه صاية، ويقول لهم: طالع الناس ينكرون قببكم، وقد كفروا وحلّ دمهم ومالهم، وصار هذا عندك وعند أهل الوشم وعند أهل سدير والقصيم من فضائل المويس ومناقبه). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص205
وقال في رسالته إلى من يصل إليه من الإخوان: (كيف لا يَكفُر من جاء إلى أهل الشرك يحثُّهم على لزوم دينهم وتزيينه لهم، ويحثُّهم على قتل الموحدين وأخذ مالهم؟). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص272
بل بلغ بالخصوم الحال في بغضِ الدعوة وحسدِ الشيخ على دعوته أن توجهوا إلى أمراء البوادي يحثونهم على البقاء على ما هم عليه من الضلالة والعماية، ويحذرونهم من دعوة الشيخ، بل حذّروهم حتى من إقام الصلاة ورفع الأذان بينهم، حسداً للشيخ وحنقاً على الدعوة بعدما رأوا انتشارها بين البوادي، حيث أٌمروا بالتوحيد وإقام الصلاة ورفع الأذان وتركِ ما خالف الشرع.
قال ابن غنام: (وكان كثيرٌ من علماء نجد العدوان يأتون رؤوساً البدوان، ويحذّرونهم وقع الصلاة في حيِّهم وسماع الأذان، ويحثّونهم على التمسك بقبيح تلك الأديان وما كانوا عليه من الفسق والعصيان، عياذاً بك اللهم من الحسد والبغي فيه والطغيان، كما فعل ذلك المنتمون للعلم والبيان). «تاريخ ابن غنام» 1/ 38
الموقف الخامس: امتناعهم من تكفير المشركين مطلقاً حتى مع تحقق الشروط ببلوغ الحجة وانتفاء الموانع
من أفعال الخصوم: امتناعهم من تكفير المشركين عبّاد القبور والأولياء مطلقاً، مع علمهم وتحققهم بتوافر شروط التكفير فيهم ببلوغ العلم وقيام الحجّة، وانتفاء الموانع كالجهل والإكراه، بحجة أنهم يقولون: لا إله إلا الله، زاعمين أنها تمنع قائلها مطلقاً من الكفر ولو فعل ما فعل من المكفّرات، حتى لو جحد الشريعة، وأنكر المعلوم من الدين بالضرورة.
وقد نبّه الشيخ مراراً على أن بعض خصومه لم يعارضوا ما جاء به التوحيد، وما نهى عنه من الشرك، بل أقرّوا به، ووافقوه بالقول، لكنهم ممتنعون عن الحكم على تارك التوحيد، أو فاعل الشرك الأكبر بالشرك والكفر والخروج من الإسلام، فضلاً عن إيجاب قتالهم.
قال الشيخ في رسالته لمحمد بن عباد: (فلما اشتهر عني هؤلاء الأربع -يعني: التوحيد والشرك والتكفير والقتال- صدَّقني من يدَّعي أنه من العلماء في جميع البلدان؛ في التوحيد وفي نفي الشرك، وردُّوا علىَّ: التكفير والقتال). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص25
قلت: مراده بالتكفير: تكفير من تَرَك التوحيد، أو فَعَل الشرك بعد بلوغ الحجة وانتفاء الموانع، وبالقتال: قتال تاركي التوحيد وفاعلي الشرك.
وقال في نفس الرسالة وهو يحكي عن خصومه: (ونقول ثانياً: إذا كانوا أكثر من عشرين سنة يُقرّون ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً أنَّ التوحيد الذي أظهر هذا الرجل هو دين الله ورسوله، لكنّ الناس لا يطيعوننا، وأنَّ الذي أنكره هو الشرك، وهو صادق في إنكاره، ولكنْ لو يَسْلَم من التكفير والقتال كان حقاً). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص26
وقال في رسالته إلى من يصل إليه من المسلمين: (فإذا قيل: التوحيد زين، والدين حقّ إلا التكفير والقتال، قيل: اعملوا بالتوحيد ودين الرسول، ويرتفع حكم التكفير والقتال، فإن كان حقّ التوحيد الإقرار به والإعراض عن أحكامه فضلاً عن بغضه ومعاداته، فهذا والله عين الكفر وصريحه). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص183
وقال في رسالة أخرى إلى من يصل إليه من المسلمين: (فإذا تحققتم هذا، وعرفتم أنهم يقولون: لو يترك أهل العارض التكفير والقتال كانوا على دين الله ورسوله، ونحن ما جئناكم في التكفير والقتال لكن ننصحكم بهذا الذي قطعتم أنه دين الله ورسوله إن كنتم تعلمونه وتعملون به إن كنتم من أمة محمد باطناً وظاهراً). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص196
وقال في رسالته إلى من يصل إليه من الإخوان: (وذلك أنهم يقولون كل هذا حقٌّ نشهد أنه دين الله ورسوله إلا التكفير والقتال، والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا، إذا أقرُّوا أن هذا دين الله ورسوله كيف لا يَكفُر من أنكره وقَتَلَ من أَمَرَ به وحَبَسَهم؟). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص272
ومن مظاهر امتناعهم من التكفير مطلقاً: امتناعهم من تكفير من ينكر البعث، أو ينكر حُكم الشريعة، أو يسبُّ الأذان ويسخر منه من أهل البوادي.
قال الشيخ في رسالته لابن عيد: (فلما بيّنتُ ما صرَّحت به آيات التنزيل وعلَّمه الرسول أمته، وأجمع عليه العلماء: أنّ من أنكر البعث أو شكّ فيه، أو سبَّ الأذان إذا سمعه، أو فَضَّل فراضة الطاغوت على حكم الله، أو سبَّ من زعم أن المرأة ترث، أو أنّ الإنسان لا يُؤخذ في القتل بجريرة أبيه وابنه؛ إنّه كافر مرتد، قال علماؤكم: معلوم أنّ هذا حال البوادي لا نُنكره، ولكنْ يقولون: لا إله إلا الله، وهي تحميهم من الكفر ولو فعلوا كل ذلك). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص26
وقال في رسالته إلى علماء البلد الحرام: (وإني لما أفتيت بكفر البوادي الذي ينكرون البعث والجنة والنار، وينكرون ميراث النساء مع علمهم أنّ كتاب الله عند الحضر، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث بالذي أنكروا، فلما أفتيت بكفرهم مع أنهم أكثر الناس في أرضنا استنكر العوام ذلك، وخاصتهم الأعداء ممن يدَّعي العلم، وقالوا: من قال لا إله إلا الله لا يَكفُر ولو أنكروا البعث وأنكروا الشرائع كلها). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص41
وقال في رسالته معلقاً على ما كتبه سليمان بن سحيم: أن من قال لا إله إلا الله لا يَكفُر مهما فعل من النواقض: (فصار في أوراقه يقول: أما من قال لا إله إلا الله لا يَكفُر، ومن أمَّ القبلة لا يكفُر، فإذا ذكرنا لهم الآيات التي فيها كفرُه، وكفرُ أبيه، وكفرُ الطواغيت، يقول: نزلت في النصارى، نزلت في الفلاني). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص88
وقال في رسالته لعبد الله بن سحيم: (قوله –أي: المويس- إنّ المشرك لا يقول لا إله إلا الله، فيا عجباً من رجل يدَّعى العلم، وجاي من الشام يحمل كتب فلمّا تكلم؟ إذ أنه لا يعرف الإسلام من الكفر، ولا يعرف الفرق بين أبي بكر الصديق وبين مسيلمة الكذاب). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص136
وقال في رسالته لعبد الله بن سحيم: (أين هذا من قول صاحبكم –أي: المويس- لأهل الوشم في كتابه لما ذكروا له أن في بلدانكم شيئاً من الشرك- يأبى الله أن يكون ذلك في المسلمين). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص74
الموقف السادس: ادعاؤهم أن من حَكَمَ بكُفرِ عبّاد القبور، أو كُفرِ من يدعو الأموات ويستغيث بهم معتقداً فيهم النفع والضرّ، أو كُفرِ عبّاد الطواغيت الذين يأمرون الناس بعبادتهم، فقد كَفَّر أهل الإسلام
من جملة أفعال الخصوم تجاه الدعوة: اتهامهم الشيخ بتكفير أهل الإسلام، والسبب: حكمه بكُفرِ عبّاد القبور، وكُفرِ الطواغيت الأحياء الذين يأمرون الناس بعبادتهم بالذبح والنذر والدعاء، ومقتضى ذلك حسب زعمهم: أنّ كلّ من حكم بكفر من دلَّت النصوص والإجماع على كفره فإنه يُكفّر أهل الإسلام؟!
قال الشيخ في تعليقه على كلام ابن سحيم: (فإذا كفَّرنا من قال: إن عبد القادر والأولياء ينفعون ويضرون، قال: كَفَّرتم أهل الإسلام، وإذا كَفَّرنا من يدعو شمسان وتاجا وحطاباً، قال: كَفَّرتم أهل الإسلام) ص89
قلت: ومن هنا نشأت الفرية المشهورة عن الشيخ: أنّه يُكفّر المسلمين من ستمائة سنة، فإن هؤلاء الخصوم لمّا رأوا انتشار تعظيم الأضرحة والمقامات بالدعاء والذبح والنذر والعكوف ونحو ذلك من الأفعال الشركية، مع زعمهم أنها ملأت بلاد الإسلام من ستمائة أو سبعمائة سنة، صار التكفير بها تكفيراً لجميع المسلمين، وهو عين ما رموا به الشيخ رحمه الله.
وقد نصّ على ذلك بعض رؤوس الخصوم.
قال سليمان بن عبد الوهاب: (ومعلوم عند الخاص والعام أن هذه الأمور -يعني: تعظيم الأضرحة والمقامات بالعبادة- ملأت بلاد المسلمين، وعند أهل العلم منهم أنها ملأت بلاد المسلمين أكثر من سبعمائة سنة). «الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية» ص7
ومقتضى كلامه: أن من كفّر بهذه الشركيات فقد كفّر المسلمين من سبعمائة سنة.
الموقف السابع: زعمهم أن النهى عن عبادة الموتى والقباب والأضرحة سبٌّ للصالحين وتنقيصٌ لهم
من جملة أفعالهم وأقوالهم: زعمُهم أنّ النهي عن عبادة الأضرحة والقباب يُعدّ سبًّا للصالحين وتنقيصاً لهم، وخروجاً عن جادة العلماء، وكان هذا من جملة ما اتهموا به الشيخ ووصموه به بقصد التنفير عنه وعن دعوته.
قال في رسالته إلى علماء البلد الحرام: (من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام نصر الله بهم سيد الأنام وتابعي الأئمة الأعلام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم، وسببه هدمُ بنيانٍ في أرضنا على قبور الصالحين، فلما كَبُر هذا على العامة لظنهم أنه تنقيصٌ للصالحين، ومع هذا نهيناهم عن دعواهم، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله، فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البنيان على القبور كَبُر على العامة جداً، وعاضدهم بعض من يدَّعى العلم لأسباب أخر التي لا تخفى على مثلكم، أعظمها اتباع هوى العوام، مع أسباب أخر، فأشاعوا عنا أنّا نسبُّ الصالحين، وأنّا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص40
وقال في رسالته لابن سحيم: (ونحن إذا نهينا عن الأوثان المجعولة على قبر الزبير وطلحة وغيرهما في الشام أو في غيره… وإن أقررتم أن ذلك كفرٌ وشركٌ وتبيَّن أن قول لا إله إلا الله لا ينفع إلا مع ترك الشرك، وهذا هو المطلوب، وهو الذي نقول، وهو الذي أكثرتم النكير فيه، وزعمتم أنه لا يخرج إلا من خراسان). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص137
الموقف الثامن: زعمهم أن التوحيد الذي دعا إليه الشيخ بدعةٌ وضلالةٌ في الدين
من جملة أفعال الخصوم: سبُّهم للتوحيد الذي دعا إليه الشيخ، واستهزاؤهم به، زاعمين أنه بدعة وضلالة.
قال الشيخ -رحمه الله- في رسالته إلى عبد الله بن سحيم: (وكتب –أي المويس- لأهل الوشم يستهزئُ بالتوحيد، ويزعم أنه بدعة، وأنه خرج من خراسان ويسبُّ دين الله ورسوله). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص66
وقال في رسالته إلى أحمد بن عبد الكريم: (فإذا أحكمتَ المسألة، وعرفتَ أن غالب من عندكم سمع الآيات وسمع كلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأقرّ به، وقال: أشهد أن هذا هو الحق، ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرُّح بمسبّة ما شهد أنّه الحق، ويصرُّح بحسنِ الشرك وأتباعه، وعدمِ البراءة من أهله… وإن كنتَ تزعم أنَّ الإنسان إذا أظهر الإسلام لا يكفُر إذا أظهر عبادة الأوثان، وزعم أنها الدين، وأظهر سبَّ دين الأنبياء، وسمّاه دين أهل العارض، وأفتى بقتل من أخلص لله الدين، وإحراقه وحل ماله، فهذه مسألتك). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص218
وقال في رسالته لسليمان بن سحيم: (إنّا لما أنكرنا عبادة غير الله بالَغْتُم في عداوة هذا الأمر وإنكاره، وزعمتم أنّه مذهب خامس، وأنّه باطل، وإن أنكرتما فالناس يشهدون بذلك وأنتم مجاهرون به). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص230
الموقف التاسع: معاداة أهل التوحيد وقتالهم، ونصرة أهل الشرك وعبّاد القبور والأولياء بالسيف واللسان
من جملة أفعال الخصوم، وهي من أشدها وأخطرها: معاداةُ أهل التوحيد وقتالُهم، والوقوف مع أهل الشرك ونصرتهم بالمحاجة والقتال.
فإن هؤلاء الخصوم لم يكتفوا بمعارضة الدعوة باللسان، ولا بإثارة الشبهات حولها، بل تجاوزوا ذلك إلى السعي الحثيث لطمسها ووأدها، فقاموا في صفّ المشركين، يُكثّرون سوادهم، ويقوّون قلوبهم، ويحاجّون عنهم، حتى بلغ بهم الحال إلى أن بذلوا مهجهم وأموالهم في سبيل الشرك وأهله، فقاتلوا أهلَ التوحيد مع أهل الشرك، ونصروهم بالمال والنفس، وهذا أقصى ما يكون من العداوة والخصومة.
ولهذا النوع من الخصومة صورتان:
الأولى: وقوفهم مع أهل الشرك وتكثير سوادهم والمحاجة عنهم
الصورة الثانية: قتالهم أهل التوحيد، ونصرة المشركين ومظاهرتهم ومعاونتهم بالنفس والمال
فمن الأولى:
ما قاله الشيخ في رسالته لابن عيد مخبراً عن بعض مواقف الخصوم تجاه دعوته: (يعادون التوحيد ومن مال إليه العداوة التي تعرف، ولو لم يُكفّر ويقاتل، وينصرون الشرك نصره الذي تعرف مع إقرارهم بأنه شرك). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص26
وقوله في رسالته لعالم من علماء المدينة: (فإن قال قائلهم إنهم يُكفّرون بالعموم فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، الذي نُكفّر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأنّ دعوة غير الله باطلة، ثم بعد هذا يُكفّر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج، ويتبيّن مع أهل القباب على أهل التوحيد). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص48
وقوله في رسالته إلى أحمد بن إبراهيم: (ولو يتكلم الإنسان بالتوحيد فسلامته على أخذ ماله، فإن كنت تزعم أن الكواوزة -أي: عبدة قبة الكوّاز-، وأهل الزبير تابوا من دينهم وعادَوْا من لم يتب فتبعوا ما أقرّوا به، وعادَوْا من خالفه هذا مكابرة، وإن أقررتم أنهم بعد الإقرار أشد عداوة ومسبة للمؤمنين والمؤمنات كما يعرفه الخاص والعام، وصار الكلام في أتباع المويس، وصالح بن عبد الله هل هم مع أهل التوحيد؟ أم هم مع الأوثان؟ بل أهل الأوثان معهم وهم حزبة العدو وحاملوا الراية، فالكلام في هذا نحيله على الخاص والعام). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص205
وقوله في رسالته إلى محمد بن فارس: (والذي يدلكم على هذا أن هؤلاء يعتذرون بالتكفير إذا تأملتهم إذا أنّ الموحدين أعداؤهم يبغضونهم ويستثقلونهم، والمشركون والمنافقون هم ربعهم الذين يستأنسون إليهم). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص212
وقوله في رسالته لسليمان بن سحيم: (إنكم تقرون أن الذي يأتيكم من عندنا هو الحق وأنت تشهد به ليلاً ونهاراً، وإن جحدت هذا شهد عليك الرجال والنساء، ثم مع هذه الشهادة أنّ هذا دين الله وأنت وأبوك مجتهدان في عداوة هذا الدين ليلاً ونهاراً ومن أطاعكما، وتبهتون وترمون المؤمنين بالبهتان العظيم، وتصوّرون على الناس الأكاذيب الكبار، فكيف تشهد أن هذا دين الله ثم تتبيّن في عداوة من تبعه؟). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص227
وأما الصورة الثانية: فنوعان:
الأول: القتال في صف المشركين ضدّ أهل التوحيد
قال الشيخ -رحمه الله- في رسالته لمحمد بن عباد: (فإذا كنت تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاتل الناس إلا عند توحيد الألوهية، وتعلم أن هؤلاء قاموا وقعدوا ودخلوا وخرجوا وجاهدوا ليلاً ونهاراً في صدّ الناس عن التوحيد يقرءون عليهم مصنفات أهل الشرك). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص20
وقال في رسالته إلى أحمد بن إبراهيم في ذكر بعض مواقف الخصوم: (ويجاهدون في زواله وتثبيت الشرك بالنفس والمال خلاف ما عليه الرسل وأتباعهم، فإنهم يجاهدون حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص206
الثاني: استعداء المشركين والاستنصار بهم على أهل التوحيد والفرح بانتصار المشركين على الموحّدين
من صوره: استنجادهم بالحسن بن هبة الله المكرمي الإسماعيلي الوثني الباطني حاكم نجران، وتشجيعه على قتال الموحدين، كما فعله أهل الرياض وحكام الإحساء سنة 1178ه.
قال ابن بشر في أحداث سنة 1178ه بعد هزيمة الدولة في وقعة الحائر: (فوفد على النجراني دهام بن دواس وأهدى إليه هدم -وهو: المشلح أو البشت-، وقدم عليه زيد بن زامل رئيس الدلم، وفيصل بن سويط رئيس عربان الظفير، وأثنوا عليه وهنوه بالنصر، وقالوا له: إن أخذت هؤلاء واستأصلتهم حصل الملك لك، وكنت الرئيس على الجميع). «عنوان المجد في تاريخ نجد» (1/95).
كما ذكر ابن بشر استنجاد زيد بن زامل رئيس بلد الدلم بالنجراني الإسماعيلي على الدولة، حيث قال في أحداث سنة 1187هـ: (وقام -أي: زيد بن زامل- يؤلب على المسلمين، فأرسل إلى رئيس نجران يستحثه ويدعوه إلى محاربة المسلمين، ويبذل له المال). «عنوان المجد في تاريخ نجد» 1/120
وذكر ابن بشر في أحداث سنة 1202ه استنجاد أهل وادي الدواسر بالمكرمي النجراني على أهل التوحيد واستغاثتهم به، حتى قدم بجموع كبيرة، إلا أن الله كفّ شرّه وأرجعه خائباً. «عنوان المجد في تاريخ نجد» 1/165
ومن صور هذا النوع من الخصومة: قيام محمد بن فيروز بالتحريض على الدولة السعودية الأولى، فقد قام بمكاتبة الحكومة العثمانية يحضّهم على قتال الدولة، كما حرّض والي بغداد وشجعه على قتالهم، داعياً إلى استئصال أهل التوحيد وتدمير دولتهم ودعوتهم، وكان ينظم القصائد في ذلك:
قال ابن بشر في أحداث 1211ه: (وكاتبه -يعني: سليمان باشا والي العراق- كثير من العلماء والرؤساء سيما محمد بن فيروز فإنه الذي يحكم ذلك ويبذل جهده…، وعمل ابن فيروز قصيدة في التحريض على المسلمين التي أولها: أنامل كف السعد قد أثبتت خطاً… بأقلام أحكام لنا قد حُررت ضبطاً، وقد أقذع في هذه المنظومة بالسب لأهل الدعوة والتحريض عليهم والمدح لعدوهم). «عنوان المجد في تاريخ نجد» (1/218)
وقال محمد بن عبد الله بن حميد عن جهود ابن فيروز في التحريض على دعوة الشيخ: (كاتب السلطان عبد الحميد خان يستنجده على قتال البغاة الخارجين في نجد). «السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة» ص973
الموقف العاشر: تكفير الشيخ ودعاة التوحيد واستحلال دمائهم وأموالهم
بلغ من خصومتهم للشيخ -رحمه الله- أن كفّروه واستحلوا دمه ودم أتباعه، وشجعوا على قتلهم واستباحتهم.
قال الشيخ في رسالته لأحمد بن إبراهيم: (تعلم ما جرى من ابن إسماعيل، وولد ابن ربيعة سنة الحبس لما شكونا عند أهل قبة أبي طالب يوم يكسيه صاية، وجميع من معك من خاص وعام معهم إلى الآن، وتعرف روحة المويس وأتباعه لأهل قبة الكواز، وسية طالب يوم يكسيه صاية، ويقول لهم: طالع الناس ينكرون قببكم، وقد كفروا وحلّ دمهم ومالهم… المكاتيب التي أرسلها علماء الحرمين مع المزيودي سنة الحبس عندنا إلى الآن تتناك، وقد صرّحوا فيها أنّ من أقرّ بالتوحيد كَفَر وحلّ ماله ودمه وقُتل في الحل والحرم). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص205
وقال في رسالته إلى أحمد بن إبراهيم: (فأما ابن عبد اللطيف وابن عفالق وابن مطلق فحشوا بالزبيل أعني: سبّابة التوحيد واستحلال دم من صدّق به أو أنكر الشرك). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص206
وقال في رسالته إلى من يصل إليه من الإخوان: (كيف لا يَكفُر من جاء إلى أهل الشرك يحثُّهم على لزوم دينهم وتزيينه لهم ويحثّهم على قتل الموحدين وأخذ مالهم؟). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص272
وقال ابن غنام في ذكر ما لقيه الشيخ من الخصوم في أول ظهور دعوته: (وعجّوا مطبقين على الشيخ بأنه ساحرٌ ومفترٍ وكذابٌ، وحكموا بكفره واستحلال دمه وماله وجميع من له من الأصحاب). «تاريخ ابن غنام» 1/31
وقد ذكر ابن غنام قيام سليمان بن سحيم بمراسلة العلماء في البلدان يستعديهم على الشيخ، فجاءت كتبهم مصرحة بكفر الشيخ، حيث قال: (وبعث الطروس مترعة بالباطل والمين إلى علماء الإحساء والبصرة والحرمين، فقاموا معه فوراً بالإنكار، وأفتوا للحكام والسلاطين والأشرار بأن القائم بدعوة التوحيد حتى أشرق لها أنوارا خارجي لها… فصنفوا المصنّفات في تبديعه، وتضليله، وتغييره للشرع النبوي وتبديله، وعدم معرفته بأسرار العلوم وتجهيله، وسطّروا فيها الجزم بكفره). «تاريخ ابن غنام» 1/31-32
وسنأتي على نقل نصوصهم في الحلقة الخامسة إن شاء الله.
الموقف الحادي عشر: مكاتبة أهل البلدان للتحريض على دعوة الشيخ واستكتاب العلماء ضدّ الدعوة
من أفعال الخصوم: مراسلة العلماء في البلدان واستكتابهم ضدّ الشيخ ودعوته، وتجييشهم لذلك، وتشجيع علماء الأمصار على إصدار فتاوى وبيانات في التحذير من دعوة الشيخ وتضليله وإرسالها إلى القرى والنواحي.
فقد كاتب سليمان بن سحيم علماء الحرمين والإحساء والبصرة يستعديهم على الشيخ، قال في مطلعها: (من الفقير إلى الله تعالى سليمان بن محمد بن سحيم، إلى من يصل إليه من علماء المسلمين وخدام شريعة سيد ولد آدم، من الأولين والآخرين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فالذي يحيط به علمكم أنه قد خرج في قطرنا رجل مبتدع، جاهل، ضال مضل، من بضاعة العلم والتقوى عاطل، جرت منه أمور فظيعة، وأحوال شنيعة، منها ما شاع وذاع وملأ الأسماع، وشيء لم يتعد أماكننا بعد، فأحببنا نشر ذلك لعلماء المسلمين…) «تاريخ ابن غنام» 1/112.
وقال الشيخ في رسالته إلى عبد الله بن سحيم في سياق حديثه عن المويس: (والآن أشرفتُ منه على أمور ما ظننتها لا في عقله ولا في دينه: منها أنه كاتب إلى أهل الحساء ؟؟ يعاونهم على سبّ دين الله ورسوله). ؟؟
وقال في رسالته لأحمد بن إبراهيم: (وأيضاً جاءنا بعض القسم الذي صنّفه القباني، واستكتبوه أهل الحسا، وأهل نجد). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص206
وذكر ابن غنام أن سليمان بن سحيم كاتب العلماء بشأن دعوة الشيخ: (وأرسل بذلك إلى الإحساء والبصرة… وبعث الطروس مترعة بالباطل والمين إلى علماء الإحساء والبصرة والحرمين). «تاريخ ابن غنام» 1/31
ومن ذلك سفر مربد بن أحمد التميمي النجدي من أهل حريملاء إلى اليمن سنة 1170ه للقاء الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني محاولاً إقناعه بضلال الشيخ وابتداعه، وذلك بعد انتشار قصيدة الصنعاني في الثناء على الشيخ ودعوته، وقد افترى مربد على الشيخ وزوّر عليه رسائل في تكفير أهل الأرض. [«أبجد العلوم» 3/197، ط. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، ت: عبد الجبار زكار، 1978م] [«علماء نجد في ثمانية قرون» 6/416
الموقف الثاني عشر: الإقرار بالتوحيد مع تركه وعدم اتباعه، والإقرار بالشرك مع عدم التبرؤ من أهله، وإبقاء مظاهر الشرك والطواغيت والبيوت المعبودة مع القدرة على إزالتها
من أفعال بعض من كان يُقرّ بما دعا إليه الشيخ من التوحيد، وما نهى عنه من الشرك من خصومه: تركُهم العمل بالتوحيد مع إقرارهم به، وعدمُ نهيهم عن الشرك والتحذير منه، بل أقرّوا الشرك في بلادهم مع قدرتهم على إزالته، كإبقاء مظاهر الشرك والبيوت المعبودة وترك إزالتها.
قال الشيخ -رحمه الله- في رسالته إلى أحمد بن عبد الكريم: (فإن كنت تزعم أن الذين عندكم أظهروا اتباع الدين الذي تشهد أنه دين الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبرؤا ممن أشرك بالقول والفعل، ولم يبق إلا أشياء خفية تظهر على صفحات الوجه أو فلتة لسان في السر، وقد تابوا من دينهم الأول وقتلوا الطواغيت وهدموا البيوت المعبودة فقل لي). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص218
أي: أنهم لم يفعلوا ذلك، بل أقروا الشرك على حاله، ولم يقتلوا أو يطردوا من كان يُعبد من الطواغيت الذين ادُّعي فيهم الولاية، ولا هدموا الأضرحة والمقامات والأماكن التي تُعظّم بالعبادة.
وقال في رسالته إلى أحمد بن إبراهيم: (والمرجع في المسألة إلى الحضر والبدو والنساء والرجال، هل أهلُ قبّة الزبير وقبّة الكواز تابوا من دينهم، وتبعوا ما أقروا به من التوحيد؟ أو هم على دينهم، ولو يتكلم الإنسان بالتوحيد فسلامته على أخذ ماله، فإن كنت تزعم أن الكواوزة، وأهل الزبير تابوا من دينهم وعادَوْا من لم يتب فتبعوا ما أقرّوا به، وعادوا من خالفه، هذا مكابرة). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص204
وقال في رسالته إلى عبد الله بن علي ومحمد بن جماز: (وأهل القصيم غارُّهم إن ما عندهم قبب ولا سادات، ولكن أخبرهم أن الحب والبغض والموالاة والمعاداة لا يصير للرجل دين إلا بها ما داموا ما يبغضون أهل الزلفي وأمثالهم فلا ينفعهم ترك الشرك، ولا ينفعهم قول: لا إله إلا الله، فأهم ما تفطنهم له كون التوحيد من أخل به مثل من أخل بصوم رمضان ولو ما أبغضه. وكذلك الشرك إن كان ما أبغض أهله مثل بغض من تزوج بعض محارمه فلا ينفعه ترك الشرك، وتفطنهم للآيات التي ذكر الله في الموالاة والمعاداة مثل قوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وقوله في المعاداة: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه} إلى قوله: {حتى تؤمنوا بالله وحده} الآية). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص322
يعني بذلك -رحمه الله- أنّ أهل القصيم تركوا لوازم التوحيد، فإن الإقرار بالتوحيد يستلزم اعتقاد بطلان ما يضادّه من الشرك بالله والبراءة منه، كما يستلزم حبّ التوحيد وحبّ أهله ومناصرتهم، وبغضَ الشرك وبغضَ أهله ومجانبتهم، وهو ما يُعبّر عنه بالكفر بالطاغوت، وهو المذكور في قوله تعالى: {ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها}، فمن لم يعادِ أهل الشرك، بل أحبّهم ووالاهم على أهل التوحيد فليس بمؤمن، ومقصود الشيخ أن يُبيّن ضلالهم وجهلهم بحقيقة التوحيد، حيث ظنّوا أن التوحيد تركُ الشرك فحسب والسلامة منه، وجهلوا أن من لوازم التوحيد ومقتضياته بغضَ الشرك وأهله ومعاداتهم، وأنّ انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، وهذا يؤكد جهلهم بحقيقة التوحيد ولوازمه.
ولذلك ذَكَر الشيخ عن أهل القصيم وغيرهم مدحَ أفعال خصوم الشيخ في حرب الدعوة والتحذير منها وتثبيت الشرك، بل كانوا يعدّون هذه الأفعال من المناقب.
فقد قال في رسالته لأحمد بن إبراهيم: (مع أنك تعلم ما جرى من ابن إسماعيل، وولد ابن ربيعة سنة الحبس، لما شكونا عند أهل قبة أبي طالب يوم يكسيه صاية، وجميع من معك من خاص وعام معهم إلى الآن، وتعرف روحة المويس وأتباعه لأهل قبة الكواز، وسية طالب يوم يكسيه صاية، ويقول لهم: طالع الناس ينكرون قببكم، وقد كفروا وحلّ دمهم ومالهم، وصار هذا عندك وعند أهل الوشم وعند أهل سدير والقصيم من فضائل المويس ومناقبه). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص205
ومن مظاهر هذا الأمر عدم عنايتهم بالتوحيد، وترك تعليمه وإشاعته ونشره بين الناس، وترك التحذير من الشرك على الرغم من شيوعه وانتشاره وحاجة الناس إلى التحذير منه ونهيهم عنه.
قال الشيخ في رسالته إلى من يصل إليه من المسلمين: (إذ عرفتم هذا فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر عبادة الأصنام، هذا يأتي إلى قبر نبي، وهذا إلى قبر صحابي كالزبير وطلحة، وهذا إلى قبر رجل صالح، وهذا يدعوه في الضراء وفي غيبته، وهذا ينذر له وهذا يذبح للجن، وهذا يدخل عليه من مضرة الدنيا والآخرة -أي: يستجير به من مضار الدينا-، وهذا يسأله خير الدنيا والآخرة، فإن كنتم تعرفون أن هذا من الشرك كعبادة الأصنام الذي يخرج الرجل من الإسلام، وقد ملأ البر والبحر وشاع وذاع حتى إن كثيراً ممن يفعله يقوم الليل ويصوم النهار وينتسب إلى الصلاح والعبادة، فما بالكم لم تفشوه في الناس وتبينوا لهم أن هذا كفر بالله مخرج عن الإسلام). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص125
الموقف الثالث عشر: وقوع بعض المنتسبين إلى العلم في الشرك بالجلوس في مجالس الشرك مع عدم الإنكار وعمل الحجب المحتوية على الطلاسم
من أفعال بعض الخصوم: مشاركتهم في مجالس الشرك التي يُستغاث فيها بغير الله من غير نكير، وعمل التمائم والحجب المحتوية على الطلاسم.
فقد كان ابن سحيم يعمل تمائم فيها طلاسم ويحضُر الموالد وسماع القصائد الشركية والاستغاثات بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ في رسالته لسليمان بن سحيم: ((الوجه الثاني): أنك تقول إني أعرف التوحيد، وتُقرُّ أن من جعل الصالحين وسائط فهو كافر، والناس يشهدون عليك أنك تروح للمولد وتقرأه لهم، وتحضرهم وهم ينخون -أي: يستغيثون- ويندبون مشايخهم ويطلبون منهم الغوث والمدد، وتأكل اللقم من الطعام المعدّ لذلك، فإذا كنت تعرف أن هذا كفر فكيف تروح لهم وتعاونهم عليه وتحضر كفرهم؟ (الوجه الثالث): أن تعليقهم التمائم من الشرك… وأنت تكتب الحجب وتأخذ عليها شرطاً، حتى إنك كتبت لامرأة حجاباً لعلها تحبل وشرطت لك أحمرين -أي: نقدين ذهبيين، وهي عملة ذلك الزمان-، وطالبتها تريد الأحمرين، فكيف تقول إني أعرف التوحيد وأنت تفعل هذه الأفاعيل؟ وإن أنكرت فالناس يشهدون عليك بهذا. (الوجه الرابع): أنك تكتب في حجبك طلاسم، وقد ذكر «في الإقناع» أنها من السحر، والسحر يكفر صاحبه فكيف تفهم التوحيد وأنت تكتب الطلاسم؟ وإن جحدت فهذا خط يدك موجود). «مؤلفات محمد بن عبد الوهاب»، القسم السادس «الرسائل الشخصية»، ص226
على ضوء ما سبق يتبيّن بياناً جليًّا أنّ المعارضين للشيخ في نجد وخارجها لم يكن سبب معارضتهم مجرد افتراءات افتراها خصومه النجديون ظنّوها حقًّا: كدعوى أن الناس منذ ستمائة سنة ليسوا على دين، وأنه مبطلٌ للمذاهب، أو أنه يدّعي النبوة، وغير ذلك من الافتراءات، على أن هذا الافتراءات لا يُنكر كونها سبباً من أسباب الخصومة، لكن المقصود أنها كانت سبباً ثانوياً فضلاً عن أن تكون السبب الوحيد، بل إنّ أساس المعارضة والخصومة هي الدعوة التي قام بها الشيخ رحمه الله من دعوة الناس إلى توحيد العبادة والنهي عن الشرك فيها؛ فقابلوا دعوته بتكذيب ما دعا إليه من توحيد العبادة، فأبطلوا تفسيره للتوحيد، وقرروا أن الشرك لا يكون إلا باعتقاد التأثير في المعبود، بل والتصريح بكونه نداًّ مع الله وإلهاً آخر، ولذلك منعوا من الحكم بالشرك على من عَبَدَ الأولياء ودعاهم وذبح لهم ورجاهم ونذر لهم وتعلّق بهم، إما لاعتقادهم حلّ هذه الأمور بل واعتبارها داخلة في محبة الصالحين وتوقيرهم، أو لاعتقادهم تحريمها تحريماً دون الشرك والكفر، وهذا ما أكّدته كتابات ابن سحيم وابن عفالق وابن فيروز وعلماء البلد الحرام والمويس وغيرهم على ما سبق نقله.
ولعله يحسن أن نختم البحث بنقل بعض كلام الشيخ وهو يصوّر حاله وحال خصومه، ويوضح حقيقة تلك المعارضة والعداوة التي لاقاها، منبهاً على وقوع كثير من خصومه فيما ينقض الإسلام ويبطله، حيث قال: (فإذا كان هذا في زمانه –يقصد ما ذكره البهوتي في شرح الإقناع في أبواب الردة من عموم البلوى في البلدان بانتشار مظاهر الشرك ومقالات الكفر-، لم يذكره عن عشرة أو مائة، بل عمت به البلوى في مصر والشام، في زمن الشارح، فأظنك تقطع أن أهل القصيم ليسوا بخير من أهل مصر والشام، في زمن الشارح؛ فتفطن لهذه المعاني، وتدبرها تدبرا جيدا. واعلم: أن هذه المسألة أمّ المسائل، ولها ما بعدها؛ فمن عرفها معرفة تامة، تبين له الأمر، خصوصاً إذا عرف ما فعل المويس وأمثاله، مع قبة الكواز وأهلها، وما فعله هو، وابن إسماعيل، وابن ربيعة، وعلماء نجد في مكة سنة الحبس، مع أهل قبة أبي طالب، وإفتائهم بقتل من أنكر ذلك، وأن قتلهم وأخذ أموالهم، قربة إلى الله، وأن الحرم الذي يحرم اليهودي، والنصراني، لا يحرمهم. ثم تفكر في الأحياء الذين صالوا معهم، هل تابوا من فعلهم ذلك وأسلموا، وعرفوا أن عشر معشار ما فعلوه ردة عن الإسلام، بإجماع المذاهب كلها؟ أم هم اليوم على ما كانوا عليه بالأمس؟ والمويس، وابن إسماعيل، وأضرابهما إلى اليوم، علماء يُعظَّمون ويُترَّحم عليهم!! ومن دعا الناس إلى التوحيد، وتَرَك الشرك، هم الخوارج، الذين خرجوا من الدين!! فالله الله الله استعن بالله، في فهم هذه المسألة، واحرص على ذلك، لعلك أن تخلص من هذه الشبكة؛ فلو يسافر المسلم إلى أقصى المشرق، أو المغرب، في تحرير هذه المسألة، لم يكن كثيرا؛ والفكرة فيها في أمرين:
أحدهما: في صورة المسألة، وما قال الله ورسوله، وما قال العلماء.
والفكرة الثانية: إذا عرفت التوحيد الذي دعت إليه الرسل، أولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأقر به من أقر به، كيف فعلوا؟ هل أحبوه ودخلوا فيه؟ أم عادوه وصدوا الناس عنه؟ وكذلك لما عرفوا ما جاء به من إنكار الشرك والوسائط، وعرفوا أقوال العلماء: أنه الذي عمت به البلوى في زمانهم، هل فرحوا بالسلامة منه؟ ونهوا الناس؟ أم زينوه للناس وزعموا أن أهله السواد الأعظم؟ وثبتوه بما قدروا عليه من الأقوال والأعمال، وجاهدوا في تثبيته كجهاد الصحابة في زواله؟! فالله الله الله الله! بادر ثم بادر ثم بادر!). «الدرر السنية» 10/124
وللحديث بقية.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.