لتحميل المقال على ملف pdf يرجع النقر على الرابط أدناه
إضاءات في تاريخ الدعوة السلفية النجدية ٨ تاريخ نجد لابن غنام وابن بشر قراءة هادئة ونظرة فاحصة
تاريخ نجد لابن غنّام وابن بشر قراءة هادئة ونظرة فاحصة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
فإنّ مما لا شك فيه أنّ من أهمّ وأوسع الكتب التي أرّخت للدعوة الإصلاحية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري على الإطلاق، كتابين:
الأول: تاريخ العلامة أبي بكر حسين بن غنّام الإحسائي (١١٥٢-1225ه) المعروف بـ «روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام»، ويشتهر اختصاراً بـ «تاريخ نجد»، وقد أرّخ للفترة ما بين (1158 – 1213ه).
ويليه في الأهمية كتاب عثمان بن عبد الله بن بشر النجدي الحنبلي (1210-1290ه) المعروف بـ «عنوان المجد في تاريخ نجد» وقد أرّخ للفترة ما بين (1157-1267ه).
وقد اعتنى العلماء بهذين التاريخين، وأَولَوْهما اهتماماً بالغاً، إذ يُعدّان أهم مصدرين من مصادر تاريخ الدعوة الإصلاحية بالخصوص، ونجدٍ بالعموم، لا سيما أن المؤلِّفَيْن قد عاصرا عامة أحداث تلك الحقبة التاريخية، وما لم يشهداه منها فقد عاصرا من شهدها وحضرها.
وقد أرّخ لتلك الفترة كثيرون ممن شهدها أو كان قريباً منها، ممن لم تتأخر وفاته عن القرن الثالث عشر، لكنّ عامّة كتاباتهم كانت مختصرة، قد أَهملت فيها كثيرٌ من تفاصيل المجريات والأحداث، ومن هذه التواريخ:
تاريخ محمد بن ربيعة العوسجي (١٠٦٥-١١٥٨هـ).
تاريخ محمد بن يوسف، وقد تُوفّي خلال الربع الأول من القرن ١٣هـ.
تاريخ حمد بن لعبون (ت: ١٢٥٧هـ).
تاريخ محمد بن عبّاد العوسجي (ت: ١١٧٥هـ).
تاريخ محمد بن عمر الفاخري (ت: ١٢٧٧هـ).
تاريخ أحمد بن دعيج (ت: ١٢٦٨هـ).
«تاريخ نجد» لعبد الوهاب بن محمد بن حميدان بن تركي (تُوفّي في منتصف القرن ١٣هـ).
ثم جاء بعدهم من جَمَع ما في هذه التواريخ ورتّبها وهذّبها، من أبرزهم:
إبراهيم بن صالح بن عيسى النجدي الحنبلي (ت: ١٣٤٣هـ)، في كتابيه: « عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث في آخر القرن الثالث عشر وأول الرابع عشر»، و«تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد»، وفي المجموع الذي جمعه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسّام تحت عنوان «مجموع في التاريخ النجدي لابراهيم بن عيسى وعبد الله بن محمد البسام».
وعبد الله بن محمد البسام (ت:١٣٤٦هـ) في تاريخه المعنون بـ «تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق»، وفي المجموع الذي جمعه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسّام.
ومقبل بن عبد العزيز الذكير (ت: ١٣٦٣هـ) في كتابيه: «مطالع السعود في تاريخ نجد وآل سعود»، و«العقود الدرية في تاريخ البلاد النجدية».
وخالد بن محمد الفرج (ت: ١٣٧٤هـ) في كتابه «الخبر والعيان في تاريخ نجد».
وثمة مختصرات تاريخية متنوعة، منها: تاريخ صالح بن عثمان القاضي (ت: ١٣٥١هـ)، وتاريخ إبراهيم بن ضويان (١٢٧٥ – ١٣٥٣هـ)، وغيرهما من المختصرات.
ولأهمية كتابي ابن غنّام وابن بشر بالخصوص، بالنظر إلى ما تضمّناه من تفاصيل مهمة للصراع بين الدعوة الإصلاحية وخصومها ومعارضيها، فقد تعرّضا للنقد والتشكيك في بعض ما ذُكر وفُصّل فيهما من الأحداث.
الدوافع على نقد تاريخي ابن غنّام وابن بشر
وقد اختلفت أسباب هذا النّقد ودوافعه:
فمنهم من كان الحامل على نقده: الخلاف الديني العقدي، كالصوفية والرافضة والأشاعرة وغيرهم.
ومنهم من كان الحامل له: التعصّب لبلده أو قريته أو قبيلته أو جنسه.
ومنهم من كان الحامل له: الجهل بالتاريخ، وقلة الخبرة فيه، وضعف التصوّر للأحداث.
ومنهم من كان الحامل له: الخطـأ في بعض أصول العقيدة، كالخطأ في تصوّر حقيقة الإيمان عند أهل السنّة والجماعة والجهل بمنزلة العمل منه ومرتبته، أو الجهل بحقيقة معنى الكفر بالطاغوت وعدم الإلمام بلوازمه، أو الجهل بلوازم التوحيد ومقتضياته، وعدم تصوّر شروط كلمة التوحيد.
مع التنبيه على أنّ ابن غنّام وابن بشر لم يكونا المصدر الوحيد لنقل تفاصيل تلك الأحداث والوقائع وجزئياتها، كما أنهما لم ينفردا بإطلاق تلك الأحكام التي أُنزلت على بعض الأشخاص أو القرى أو الطوائف، ففي كلام الشيخ المصلح محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه ومن جاء بعدهم من أئمة الدعوة ما يشهد لما ذكراه من التفاصيل والجزئيات، ويؤكد صحة ما أنزلا من الأحكام.
وإنّ مما طال هذين التاريخين من النقد بالخصوص: نبزُهما بالتعصّب للدعوة الإصلاحية، والمبالغةِ في وصف الحالة العلمية والدينية لنجد قبل مجيء الدعوة، ونقد بعض العبارات والأوصاف التي أطلقاها على بعض الخصوم، لا سيما ابن غنّام، كوصفِ بعض خصوم الدعوة ومعارضيها بالمشركين أو المرتدّين، أو تسمية جيوش الدولة بالمسلمين، وفي بعض المواضع تسمية جيوشِ الخصوم بالمشركين، فزعم الناقدون أنّ هذه الإطلاقات من دلائل احتواء التاريخين على الغلوّ والمبالغة في الحكم على المخالفين وتكفيرهم.
الجواب عما انتُقد على تاريخي ابن غنّام وابن بشر
الانتقاد الأول: المبالغة في وصف الحالة العلمية والدينية في نجدٍ
أما اتهام التاريخين بالمبالغة في وصف الحالة العلمية والدينية لنجد قبل الدعوة فقد أجبنا عنه بالتفصيل في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، ويمكن الرجوع إليها عبر الرابط التالي:
http://www.al-jasem.com/archives/2236
الانتقاد الثاني: الغلوّ في الأحكام على خصوم الدعوة ووصمهم بالردّة
من أشهر الانتقادات على تاريخي ابن غنّام وابن بشر، وأكثرها تداولاً: دعوى الغلو في الحكم على المخالفين، كوصفهم بالمرتدين، أو المشركين، وكذلك التعبير عن جيوش الدولة بـ«جيش المسلمين»، ونحو ذلك، وهي في تاريخ ابن غنّام أكثر منها في تاريخ ابن بشر.
وقد سبق الجواب عن هذا النقد، والردّ على هذا الاتهام في مقالٍ بعنوان: «دفع مواضع النقد عن تاريخ نجد لابن غنّام والردّ على الدكتور أحمد الدعيج»، يمكن الرجوع إليه عبر الرابط التالي:
http://www.al-jasem.com/archives/2307
أذكر منها هنا ما يتعلق بهذه السلسلة بالخصوص، فأقول: الجواب على هذا الاتهام من وجوه:
الوجه الأول: تقدُّم ابن غنّام على منتقديه في: العلم بالشرع وتصوّر الواقع
لا يخفى أن تاريخ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية ليس كغيره من التواريخ من عدة اعتبارات؛ منها: أنها دعوة قامت على تجريد التوحيد الخالص لله تعالى، ومحاربة الشرك الذي عمّ وانتشر في عامة بلاد الإسلام منذ قرون طويلة، وأنها انتظمت بتأييد الأمير محمد بن سعود، فاعتضد فيها سيف السلطان وحجة القرآن، فتأسست دولةٌ من دول الإسلام العظام، وجرت أحداث كثيرة وفصول عديدة من الصراع والخصومة والقتال، مما استوجب تنزيل الأحكام على المخالفين بقدر مخالفتهم للشرع حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية.
ولا يخفى أن تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع والحوادث والنوازل هو وظيفة العلماء الراسخين وليس من شأن المؤرّخين، وذلك أنه مبنيٌّ على أمرين:
الأول: العلم بالأحكام الشرعية التفصيلية، وهو فقه الدليل، ومعرفة الأصول والضوابط والقواعد في تنزيل الأحكام على الوقائع والنوازل، وهو فقه التنزيل.
الثاني: تصوّر الواقع.
فوظيفة المؤرّخ في مثل هذا النوع من التواريخ: أن يسوق الأحداث ويذكر الوقائع، دون التعرض لنقد الأحكام التي أنزلها العلماء على تلك الوقائع، لا سيما من عاصر منهم تلك الأحداث، لكونهم أعلمَ بالشرع وأصولِ تنزيل الأحكام، هذا أولاً، ولأنهم أخبرُ بالواقع الذي عاشوه وعاصروه من المؤرّخ المتأخر عن تلك الأحداث ثانياً.
وهذا الخطأ المتمثّل في نقدِ الأحكام التي أنزلها علماء ذلك الزمان على تلك الوقائع والحوادث قد وقع فيه غير واحد من المؤرّخين الذين خاضوا في تاريخ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالخصوص، من أمثال الدكتور عبد الله العثيمين، والدكتور أحمد البسام، والدكتور أحمد الدعيج، وغيرهم.
ولا شك أن هذا الانتقاد ليس في محله، لأنَّ ابن غنّام بالخصوص لم يكن مؤرخاً فحسب، بل كان عالماً مجتهداً، تتلمذ على يديه عدد من تلاميذ الشيخ وأولاده وأحفاده، بل إنه استُقدم للدرعية لأجل هذا الغرض.
قال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله- في ترجمة ابن غنّام: (نشأ في الإحساء، وأخذ في صباه مبادئ القراءة والكتابة، ولما شبّ شرع في القراءة على علماء الإحساء من آل مبارك وآل عبد القادر وغيرهم، وكان الغالب في الإحساء شيوع مذهب الإمام مالك، فدرس كتب المالكية في الفروع، فصار مالكي المذهب. ولما قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوته، واتسعت بعد رحيله إلى الدرعية، انتقل ابن غنّام إلى الدرعية، واتصل بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودَرَسَ عليه كما دَرَسَ على أبنائه وكبار تلاميذه، فشرب الدعوة وغُرست في قلبه، فصار من كبار المدافعين عنها، والذايدين عن حياضها. وقد جلس في الدرعية للتدريس، فأخذ عنه عدد من كبار العلماء، واستفادوا منه في العلوم العربية). [«علماء نجد في ثمانية قرون» 2/56]
وقد أثنى عليه العلماء، منهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- وهو من تلاميذ ابن غنّام، وكان لا يذكره إلا بوصف: «شيخنا»، وقد قال في وصف شيخه: (فريدُ وقته بعلم المعقول والمنقول، والشعر والإنشاء- في صَدْر القرن الثالث عشر). [«الدرر السنية» 11/487]
وقال عنه عثمان بن بشر -رحمه الله-: (كانت له اليد الطولى في معرفة العلم وفنونه، وله معرفة في الشعر والنثر). [«عنوان المجد في تاريخ نجد» 1/151]
وكان علماء الدعوة إذا ذكروه لقبوه بـ«العلامة»، و«عالم الإحساء»، ونحوهما من الألقاب الدالة على ما كان عليه من العلم والتقدّم فيه.
وعلى هذا، فحُكْمُ ابن غنّام على أهل ناحية أو قرية بالردّة هو حكمٌ صادرٌ من عالمٍ معتبرٍ على واقعة عَرَفَها وخَبَرها وأحاط بأحداثها وتفاصيلها، ولم يكن جرأةً منه ولا جهلاً، بل كان وفق علمٍ وتأصيلٍ وتنزيلٍ للقواعد الشرعية على الأحداث.
الوجه الثاني: إقرار أئمة الدعوة الإصلاحية بتاريخ ابن غنّام وقبولهم لما جاء فيه
تاريخ ابن غنّام قد كُتب إما بطلب من الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، أو الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهما الله- على ما هو معروف ومذكور في مقدمة تاريخه.
فقد قال ابن غنّام -رحمه الله- في مقدمة تاريخه في ذكر الأسباب التي دعته لتأليفه: (والإمام أيّده الله تعالى يَعزِمُ عليّ في ذلك ويُشير). [«روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام» 1/4]
وهذا يعني أن تاريخه قد كُتب في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو عهد تلاميذه وكبار مشايخ الدعوة، وقد قرأوه وأقروه، ونقلوا عنه في عدة مواضع من كتبهم على ما هو مدوّن مُثبت في المجاميع والرسائل، وأوصوا بتكرار النظر فيه.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- في وصية لصاحب له: (وكَرِّر النظر فيما اشتمل عليه تاريخ ابن غنّام، من كلام شيخ الإسلام). [«الدرر السنية» 8/380]
فإقرارهم بهذا التاريخ ورضاهم عنه، وموافقة من جاء بعدهم من علماء الدعوة إلى يومنا هذا على هذا الأمر، وعدم استنكارهم شيئاً منه، أو تنبيههم على بعض مواضع النقد فيه، يدلّ على صحة ما ذَكَره ابن غنّام من الأحكام في الجملة، فانتقادُ ابن غنّام في هذه الأحكام يقتضي انتقادَ علماءِ الدعوة على إقرارهم ورضاهم بما اشتمل عليه تاريخه من الغلوِّ والمجازفة في الأحكام بتكفير المسلمين حسب ما يدّعيه المدّعون.
الوجه الثالث: موافقة إمام الدعوة وتلاميذه ومؤرخي نجد ابن غنّام في كثير من أحكامه
إن الأحكام التي أصدرها ابن غنّام في كثيرٍ من الوقائع، قد جاء في رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة ما يوافقها ويؤيدها، ووافقه في كثير منها عامة من أرَّخ لتلك الفترة كابن يوسف والفاخري وابن لعبون وابن بشر وغيرهم.
فانظر على سبيل المثال رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- لأهل شقراء محذراً لهم من نقض العهد وترك الدين: (مع أن مصداق قولي فيما ترونه فيمن ارتدّ من البلدان أولهن (ضرما) وآخرهن (حريملا)، هم حصلوا سعة فيما يزعمون، أو ما زادوا إلا ضيقاً وخوفاً على ما هم قبل أن يرتدّوا). [«مؤلفات محمد بن عبد الوهاب» ص292]
ومن «تاريخ الفاخري»: قوله: (وفي سنة 1176ه… وفيها ارتدّ أهل وثيثة) [ص139]، وقوله: (وفي سنة 1165ه … وفيها ارتدّ أهل حريملاء) [ص133].
ومن «تاريخ ابن يوسف»: قوله: (وفي سنة 1168ه: وفي تلك السنة يوم الجمعة، سابع من شهر جمادى الآخر، فُضِّيَتْ حريملا يوم فَضْي المسلمين) [ص141].
قلت: (فُضِّيَتْ): أي فُتحت.
ومن كتاب «كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب» لأحد مؤرخي نجد قوله: (وأسلم رياض العارض وضرما). [ص61]، وقال في غزو حجيلان بن حمد لأهل جبل شمّر: (وجاهد قرية تُسمّى جبة فأسلمت). [ص89].
وعلى هذا، فابن غنّام لم ينفرد بتلك الأحكام.
الوجه الرابع: وقوف ابن غنّام على تفاصيل وجزئيات يتعذّر تدوينها في كتب التواريخ
إن ابن غنّام وابن بشر كانا أدرى بحقيقة ما جرى من الوقائع والأحداث، وأعلمَ بالمواقف التي اتّخذها المخالفون تجاه الدعوة في تلك القرى والنواحي والتي استوجبت تنزيلَ تلك الأحكام عليهم، وهما أَخبَرُ بمقالاتهم التي صدرت عنهم في تلك الوقائع، مما قد لا يكون منقولاً بحروفه وتفاصيله في كتب التاريخ، فإن أقصى ما يمكن لمن تأخر عن تلك الأحداث أن يُحيط منها بما نُقل ودوِّن في الكتب والتواريخ ليس إلا، ولا يمكن بالطبع ادّعاء أن الحَدَثَ قد نُقل بكل تفاصيله وجزئياته في الكتب والتواريخ، فإذا كان من المسلّم أنّ المؤرّخ المتقدّم، لا سيما المعاصر، أعلمُ وأخبرُ وأكثرُ إحاطة بالأحداث وتفاصيلها من المؤرّخ المتأخر عنها، وأنّ التواريخ قد تخلو عن ذكر أسباب الأحداث والوقائع وتفاصيلها، فإنّ هذا يقتضى تقديمَ تصويرِ وتحليلِ من شَهِدَ الأحداث والوقائع وخَبَرَها على من تأخر عنها، فكيف إذا أضيف إلى ذلك كون المؤرّخ المتقدّم والمعاصر للحدث أعلمَ بالشرع من المتأخر ومعروفاً بالأمانة والصدق، فلا ريب حينئذ في تعيّن تقديمِ حُكمِهِ وتحليله للأحداث على المتأخر.
الوجه الخامس: التعبير بالارتداد لا يلزم منه بالضرورة الردّة عن الإسلام، كما أنّ وصفُ أتباع الدعوة بالمسلمين لا يستلزم وصف مخالفيهم بالكفر
إنّ التعبير بالارتداد، مثل قول ابن غنّام (ارتدّ أهل كذا) لا يلزم منه بالضرورة الارتداد عن الإسلام، إذ قد يُعبّر بالارتداد عن نكث البيعة، والرجوع عمّا كان مُلتزماً به، وقد نبّه الشافعي -رحمه الله- إلى هذا المعنى في تفسير ما ورد عن بعض السلف في وصف مانعي الزكاة في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- بالردّة، حيث قال -رحمه الله-:
(فإن قال قائل: ما دلَّ على ذلك؟ والعامة تقول لهم: أهل الردّة، قال الشافعي رحمه الله تعالى: فهو لسان عربي، فالردة الارتداد عمَّا كانوا عليه بالكفر، والارتداد بمَنْعِ الحق، قال: ومن رجع عن شيء جاز أن يقال: ارتدّ عن كذا). [«الأم» 9/206].
ومثله قول الخطابي-رحمه الله-: (إن الردّة اسم لغوي، وكل من انصرف عن أمرٍ كان مقبلاً عليه فقد ارتدّ عنه…). [«معالم السنن» 2/6].
نعم، لا شك أنّ ابن غنّام قد عنى بالردّة في بعض المواضع الخروج عن الإسلام، لكن لا يلزم منه أن يكون هذا مراده في جميع المواضع.
ومثله التعبير عن جيش الدولة بالمسلمين، كقول: (غزا المسلمون)، (قُتل من المسلمين كذا وكذا)، ونحو هذه العبارات، فإن هذا التعبير لا يلزم منه الحُكْمُ على الفريق الآخر بالكفر، فإنّ وصف جيش الإمام وجماعته وأهل العدل بالمسلمين في مقابل البغاة أو الخوارج قد جرى عليه كثير من المؤرّخين، وله شواهد لا يسع المجال لذكرها، منها على سبيل المثال:
ما ذكره ابن كثير عن يعقوب بن سفيان، عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن عمران بن حدير، عن لاحق قال: (كان الذين خرجوا على عليٍّ بالنهروان أربعة آلاف في الحديد، فركبهم المسلمون فقتلوهم، ولم يقتلوا من المسلمين إلا تسعة رهط). [«البداية والنهاية» 9/204]
وفي رسالة أرسلها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن إلى أمير الكويت أحمد الجابر يخبره بما جرى في معركة «السبلة» والتي جرت بين الملك عبد العزيز والثائرين عليه من حركة الإخوان، قال فيها -رحمه الله-: (ولذلك قام المسلمون في التاسع عشر من الشهر الماضي بالهجوم عليهم، وقتلوهم، ولقّنوهم درساً مخيفاً). [«الإخوان السعوديون في عقدين» ص305].
فانظر إلى وصفه جيوش الدولة بالمسلمين في مقابل الخارجين عليه.
وهذا التعبير قد عبّر به أئمة الدعوة الإصلاحية.
من ذلك: قول الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- في كلامه عن قدوم قوات محمد علي باشا إلى نجد: (وأما الدول التركية المصرية، فابتلى الله بهم المسلمين… فأقبل ذلك العسكر ونزل رابغاً، ونزل المسلمون وادي فاطمة). [«الدرر السنية» ١٢/٢٨]
بل أصبح وصف أتباع الدعوة بالمسلمين شائعاً بين الناس، حتى صار لا يراد به عند الإطلاق إلا هم.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله-: (إنّ الله سبحانه ألبس هذه الطائفة أفخر لباس، واشتهر في الخاصة والعامة من الناس، فلا يسميهم أحدٌ إلا بالمسلمين). [«الدرر السنية» ١٢/٢٥]
وقد تتابع مؤرخو تلك الحقبة كابن يوسف والفاخري وابن لعبون وابن بشر وغيرهم على التعبير عن جيش الدولة بجيش المسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة:
فمن «تاريخ الفاخري» قوله: (وفي سنة 1176ه غزا المسلمون الإحساء) [ص139]، وقوله: (وفي سنة 1177ه غزا المسلمون جلاجل).
ومن «تاريخ ابن لعبون» قوله: (وفي سنة 1194ه سار جيوش المسلمين على أهل الزلفي) [ص١٩١]، وقوله: (وفي سنة 1195ه سار سعود بالمسلمين على الخرج) [ص١٩٢].
ومن «تاريخ ابن يوسف» قوله: (وفي سنة 1168ه: فُضِّيَتْ حريملا يوم فَضْي المسلمين) [ص141].
ومن كتاب «كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب» لأحد مؤرخي نجد قوله: (فظفروا بقوم من المسلمين). [ص64]
ومن «تاريخ ابن بشر» قوله في حوادث سنة 1167هـ: (وفيها تضجر دهام بن دواس من الحرب بينه وبين المسلمين، وطلب من محمد بن سعود المهادنة والدخول في الدين وتجري عليه أحكام المسلمين). [1/67]، وقوله في حوادث سنة 1177ه: (وفيها غزا عبد العزيز بالمسلمين وقصد عربان سبيع) [1/91]، وقوله في حوادث سنة 1171هـ: (وفيها سار عبد العزيز رحمه الله بجنود المسلمين إلى سدير واستولى على بلد الحوطة). [1/78].
الوجه السادس: وصف قرية بالردّة لا يستلزم الحكم على جميع من فيها بأعيانهم
لا يخفى أن وصف ابن غنّام لأهل بلد بالردّة مثلاً، كقوله: (ارتدّ اهل حريملاء) أو (أهل القصيم)، ونحو ذلك، سواء أريد به الارتداد عن الإسلام، أو نكث البيعة، لا يستلزم وصفَ جميع أهل البلد بذلك، وانسحابَ الحكم عليهم جميعاً بأعيانهم، بل المقصود به: أولو الأمر فيهم وذوو الشأن وأصحاب النفوذ والسلطان، فلا يكون هذا الحكم لازماً لأهل البلد جميعهم ما لم يُظهروا الرضى والقبول، أو يُمالؤوا أولي الأمر وأصحاب السلطان، إذ إنّ القاعدة أنّ الحكم على القرى والبلاد بكونها بلد إسلام أو ردّة أو كفر إنما هو باعتبار أصحاب النفوذ وذوي السلطان فيهم. ومعلومٌ أنّ نَكْثَ البيعة مثلاً أو الردّة عن الإسلام لم يقع من جميع أهل البلد أو الناحية، وإنما وقع من ذوي السلطان والأَمْر فيهم، فقول ابن غنّام (ارتدّ أهل القصيم) ونحوها من العبارات إنما عنى به أصحاب الأَمْر والنفوذ.
ومثل ذلك: الحُكمُ على بلدٍ بكونها: بلدَ إسلامٍ أو كفرٍ أو حربٍ أو عهدٍ، ونحو ذلك، فإن هذه الأحكام متعلقة بذوي السلطان والأَمْر على نحو ما هو مفصّل في كتب الفقه، فحُكمُ أهل العلم على بلدٍ مثلاً بكونها بلدَ كفر لا يلزم منه الحكمُ بالكفر على جميع من فيها، وهكذا الحال في حكمهم على بلد بالردّة أو نقضِ العهد.
الوجه السابع: وصف قرية أو بلد بالردّة لا يلزم أن يكونوا واقعين في شرك العبادة بخصوصه
مما ينبغي التنبيه عليه أنّ من حَكَم عليهم ابن غنّام وغيره بالردّة عن الإسلام من أهل القرى والنواحي، لا يلزم أن يكونوا واقعين في الشرك في العبادة بخصوصه، إذ إنّ أسباب الكفر وموجباتِ الردّة ليست محصورةً في الشرك بالله، بل هي كثيرة متنوعة ما بين اعتقادات وأقوال وأفعال، وهي مذكورة في أبواب الردّة من كتب الفقه، قد اختار منها الشيخ محمد بن عبد الوهاب أكثرها وقوعاً في رسالته المعنونة بـ «نواقض الإسلام» حتى عدّ منها عشرة.
فمن نواقض الإسلام وموجبات الردّة على سبيل المثال: عدمُ البراءة من الشرك والمشركين، كعدم اعتقاد بطلان الشرك، أو الرضى به، أو محبته ونحو ذلك، وهو المعبّر عنه بالكفر بالطاغوت، ومنها: مناصرةُ المشركين على المسلمين ومظاهرتُهم بما يستلزم ظهورَ الشرك وأعلامِه وتثبيتَه وطمسَ التوحيد وقمعَ أهله، ومنها: الفرحُ بظهور الشرك على التوحيد، وبانتصار المشركين على الموحّدين، ومنها: مدحُ الشرك والثناءُ على أهله لأجله ولو بالقول، ومنها: سبُّ دعوة التوحيد وتضليلُ أهلها لأجله، ونحو ذلك من النواقض، فمن حُكِمَ عليهم بالردّة عن الإسلام في ذلك الوقت من الطوائف والأشخاص فلأجل وقوعهم في ناقضٍ من نواقض الإسلام لا يلزم أن يكون شركاً.
من النماذج: موقف أهل القصيم من الدعوة الإصلاحية
وقد نبّه الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- على هذا الأمر، لمّا ظنّ بعض الناس في وقته انحصار الكفر في الوقوع في الشرك بعبادة الأضرحة والمقامات، فادّعوا براءتهم من الكفر بكونهم لم يعبدوا قبراً، ولم يستغيثوا بغائب، فقال في حقّ أهل القصيم:
(وأهل القصيم غارّهم إِنْ ما عندهم قبب ولا سادات، ولكنْ أَخبِرْهم أنّ الحبّ والبغض والموالاة والمعاداة لا يصير للرجل دينٌ إلا بها… وكذلك الشرك إِنْ كان ما أبغض أهله مثل بغضِ من تزوج بعض محارمه فلا ينفعه تركُ الشرك). [«مؤلفات محمد بن عبد الوهاب» 6/322]
قلت: قوله: (غارّهم)، أي: اغتروا وظنوا أن خُلوّ بلدتهم من القباب والسادة الذين يُعتقد فيهم وتُصرف لهم بعض أنواع العبادة، يعني: سلامتهم من الكفر وبراءتهم منه، فنبّههم الشيخ أنّ تَرْكَ الشرك، مع عدم بغضه والبراءة منه ومن أهله، لا ينتُفعُ به، ولا يثبتُ به إسلام، إذ لا يكون تاركُ الشرك مسلماً حتى يتبرّأ من الشرك وأهله ويبغضَهم لأجله، فكيف إذا اجتمع مع عدمِ بغضِ الشرك والبراءةِ منه: نصرةُ أهله على أهل التوحيد، أو مدحُهم على ما هم عليه من الشرك، أو تثبيتُهم عليه، أو سبُّ دعوة التوحيد وتحذيرُ الناس منها، فهل يمكن أن يبقى من الإسلام بعد ذلك شيء؟!
قلت: مما يؤكد حال أهل القصيم في تلك الأوقات خاصة، ويبيّن موقفهم من دعوة التوحيد: ما جرى منهم سنة 1196هـ، وهي الحادثة التي تعرف بالتاريخ بـ«ذَبْحة المطاوعة»:
قال الفاخري -رحمه الله- في تاريخه عن هذه الحادثة: (وفي سنة 1196ه ذَبْحةُ المطاوعة) [ص149].
وهي أن أهل القصيم عزموا على نقض العهد وكاتبوا أمير الإحساء سعدون بن عريعر للقدوم عليهم، وتعاهدوا على قتل معلّمي التوحيد وأئمة المساجد خاصة ممّن أرسلهم الإمام لتعليم أهل القصيم التوحيد.
قال ابنُ لعبون -رحمه الله- في تاريخه: (وفي سنة 1196ه أقبل بنو خالد على القصيم، وانقلبوا عن الدين -أي: أهل القصيم-، وقتلوا من عندهم ممن ينتسب إلى الدين -يقصد: دعوة التوحيد-). ثم سمّى ابن لعبون رجالاً من أئمة المساجد والمعلمين. [ص194]
وقال ابن بشر -رحمه الله- في تاريخه في أحداث سنة 1196ه: (وفيها أجمع أهل القصيم على نقض البيعة والحرب، سوى أهل بريدة والرس وتنومة، وقَتَلوا كلَّ من ينتسب إلى الدين عندهم- يقصد بالدين: دعوة التوحيد التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب- ، خصوصاً المعلّمين الذين يعلّمونهم أحكام الشريعة… فحين قَرُبَ -أي: سعدون بن عريعر- من القصيم، قام كل أهل بلد فقَتَلوا مَنْ عندهم من العلماء المعلّمة… وحين نَزَل -أي: سعدون بمن معه من أهل الإحساء- بريدة أرسل إليه أهل عنيزة على سبيل الإكرام والامتثال من كان عندهم من معلّمة الدين، وهما عبد الله القاضي وناصر الشبيلي، وقالوا: هذان كرامة لك، وهدية منا إليك، فقتلهما سعدون صبراً). [«عنوان المجد» 1/145-146]
ومما يوضّح موقف أهل القصيم من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تلك الأوقات: أنّ عبد الله بن عيسى المويس، وهو من خصوم الدعوة المشاهير من أهل حَرْمة، ذهب إلى أهل قبة الكوّاز وعَبَدَتِه، يثبّتُهم على ما هم عليه من الشرك، ويحذّرُهم من دعوة التوحيد، ويُكفّرُ الشيخ محمد بن عبد الوهاب على دعوته للتوحيد، فقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في رسالته لأحمد بن إبراهيم معلقاً على هذه الحادثة:
(وصار هذا -أي: ذهاب المويس إلى عبّاد القبور وتثبيتهم عليه- عندك وعند أهل الوشم، وعند أهل سدير والقصيم من فضائل المويس ومناقبه). [«مؤلفات محمد بن عبد الوهاب» 6/205]
فانظر كيف اعتبر أهلُ القصيم وغيرهم تثبيتَ عُبّاد القبور والأضرحة على شركهم، ومدحَهم، والثناءَ عليهم، فضيلةً ومنقبة؟!
وقد قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في رسالته لأهل مكة: (ولا نُكفّر إلا من بلغته دعوتنا للحق، وَوَضَحَتْ له المحجّة، وقامت عليه الحجّة، وأصرّ مستكبراً معانداً، كغالبِ من نقاتلهم اليوم، يُصرّون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات، وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به، ولتكثير سواد من ذُكِر، والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله). [«الدرر السنية» 1/243]
فذَكَر الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- صنفين ممن قوتلوا وقتها:
الأول: من أصرّوا على الشرك بعد بلوغ الحجة، وامتنعوا من فعل الواجبات، وتظاهروا بفعل الكبائر، وهم الغالب.
والثاني: من ناصروا الصنف الأول، وذبّوا عنهم.
يزيده توضيحاً الوجه الثامن:
الوجه الثامن: أن الإقرار بالتوحيد غير كافٍ في الإسلام حتى يضاف إليه الكفرُ بالطاغوت والبراءةُ من المشركين وبغضُهم وموالاةُ التوحيد وأهله ونصرتُهم على أهل الشرك
وهذا الأصل سيأتي تفصيله وذكر دلائله في حلقة مستقلة، لكن نشير إليه هنا على سبيل الإجمال، ونبيّن حقيقة الكفر بالطاغوت الذي هو ركن التوحيد الأول.
وهو أنّ التوحيد أصلان: إفراد الله بالعبادة، وكفرٌ بالطاغوت، فمن زَعَمَ أنّ بعض قرى نجد أو علمائِها كانوا مُقرّين بالتوحيد غيرَ منكرين له، مجانبين للشرك تاركين له، فغاية ما يدلّ عليه هذا الزّعم: أنّهم حققوا ركناً من ركني التوحيد، لكنّ السؤال: كيف كان موقفهم من الركن الثاني؟ وهو الكفر بالطاغوت. الجواب: إنّ أكثرهم لم يَقُم به، ولم يحقّقه، ولذلك ظهر منهم:
- حبُّ المشركين وتركُ بغضهم وبغضِ ما هم عليه من الشرك.
- وظهر من بعضهم: موالاةُ المشركين ونصرتُهم.
- وظهر من بعضهم: تحسينُ أعمال المشركين وتثبيتُهم على ما هم عليه من الشرك.
- وظهر من بعضهم: مساكنتُهم ومجامعتُهم من غير نكير ومن غير براءة من فعلهم وشركهم حتى صاروا في الظاهر من جملتهم.
- وظهر من بعضهم: سبُّ دعوة الشيخ وتسفيهُه وتسفيهُ أتباعه لأجل ما دعوا إليه من التوحيد.
- وظهر من بعضهم: الامتناعُ من تكفير المشركين بعد بلوغ العلم وقيام الحجة.
- وظهر من بعضهم: إنكارُ وقوع الشرك في أمة الإسلام، وادّعاءُ أنّ قول كلمة التوحيد تعصم من الكفر والشرك ولو أتى الإنسان بكل ناقض؛ كإنكار البعث وسب الدين والاستهزاء به.
- وظهر من بعضهم: كراهيةُ انتشار التوحيد وكراهيةُ انتصاره وعلوه.
- وظهر من بعضهم: الفرحُ بانتصار أهل الشرك على أهل التوحيد ومحبةُ علوهم على الموحدين.
وكلّ واحد من هذه الأفعال موجبٌ للردّة والخروج من الإسلام.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: (أصل دين الإسلام وقاعدته أمران:
الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه.
الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله.
والمخالف في ذلك أنواع: فأشدهم مخالفة:
(1) من خالف في الجميع، ومنهم:
(2) من عَبَدَ الله وحده، ولم يُنكر الشرك. ومنهم:
(3) من أشرك ولم يُنكر التوحيد. ومنهم:
(4) من أنكر الشرك ولم يُعاِد أهله. ومنهم:
(5) من عاداهم ولم يُكفِّرهم. ومنهم:
(6) من لم يُحبّ التوحيد، ولم يبغضه. ومنهم:
(7) من أنكره ولم يُعاد أهله. ومنهم:
(8) من عاداهم ولم يُكفِّرهم. ومنهم:
(9) من كفّرهم، وزَعَم أنه مسبّة للصالحين. ومنهم:
(10) من لم يبغض الشرك، ولم يحبّه. ومنهم:
(11) من لم يَعرِف الشرك ولم ينكره. ومنهم:
(12) وهو أشد الأنواع خطراً: من عَمِلَ بالتوحيد ولم يَعرف قَدْرَه، فلم يبغض من تركه، ولم يكفّرهم. ومنهم:
(13) من تَرَك الشرك وكرهه وأنكره، ولم يَعْرِف قَدْرَه؛ فلم يُعاِد أهله، ولم يكفّرهم.
وكل هؤلاء قد خالفوا ما جاء به الأنبياء من دين الله). [«الدرر السنية» (2/22)]
الوجه التاسع: موجبات الردّة لا يلزم أن تكون مسائل إجماعية
المُكفّرات منها ما هو مجمع عليه ومعلومٌ من الدين بالضرورة، ومنها ما هو مختلفٌ فيه، كما اختلفوا في تارك الصلاة كسلاً، وتارك الزكاة بخلاً، وفي كفر من تزوج امرأة أبيه، وفي كفر الجاسوس المسلم، وفي كفر الجهمية وبعض الطوائف، ونحو ذلك مما هو مبسوط في أبواب الردّة من كتب الفقه، بل منهم من كفّر بتصغير ما هو مُعظّمٌ في الشرع، كتصغير المسجد أو المصحف ونحو ذلك.
وعلى هذا، فإنّ من حَكَمَ بالكفر على فعلٍ معين لمقتضى دليلٍ وافق فيه بعض السلف، ولم يبتدع قولاً من عنده، فإنه لا يُنكر عليه، فضلاً عن أن يُتّهم بالخارجية والابتداع والغلوّ، ولا يعدو هذا أن يكون من المسائل الاجتهادية.
ومثال ذلك: من كفّر بتصغير المسجد، أو بترك الزكاة، أو بتقنين قوانين مخالفة للشريعة من غير استحلال، أو بتصديق الكاهن، فإنه لا يُنكر عليه، لأنها مسائل اجتهادية.
ومن أمثلة ذلك في بعض الوقائع: ما ذكره البرزلي -رحمه الله- فيما نقله عنه الشيخ عبد الهادي العلوي من اختلاف علماء وقته في تكفير المعتمد ابن عبّاد لاستعانته بالنصارى ضد خصومه المسلمين، حيث قال: (أحفظُ أنّ المعتمد بن عبّاد استغاث بهم –أي: النصارى- في حرب المرابطين، فنَصَرَهم الله عليه، وهرب هو، ثم نزل على حكم يوسف بن تاشفين أمير صنهاجة، فاستفتى فيه الفقهاء، فأكثرهم أفتى أنها ردة، وقاضيه مع بعضهم لم يروها ردة، ولم يُبح دمه بالردة، فأمضى ذلك من فتواه ولم يُبح دمه). [النوازل الصغرى 1/415]
وإنما المنكر فعلُ الخوارج، وهو: التكفير بالمعاصي والذنوب المجمع على كونها معصية دون الكفر، كالزنا وشرب الخمر والسرقة ونحوها، وهذا ما لم يقع من الشيخ قط.
فأقلُّ ما يقال في الجواب على بعض المنتقدين:-على سبيل التنزل معهم-: إنّ مواضع النقد التي ذكرتموها في التكفير هي من مواضع الاجتهاد، التي لا يُنكر على من كفّر بها وفقاً لما لاح له من الدليل، ولم يخالف في ذلك نصًّا ولا إجماعاً.
قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني -رحمه الله-: (وقد جرى العلماء في الحكم بالردّة على أمور، منها ما هو قطعيّ، ومنها ما هو ظنّي، ولذلك اختلفوا في بعضها، ولا وجه لما يتوهمه بعضهم أنه لا يُكفَّر إلا بأمرٍ مجمع عليه). [«رفع الاشتباه» ص941]
وقد كان هذا الأمر من جملة أجوبة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- على بعض منتقديه، كما جاء في رسالته إلى علماء مكة التي أرسلها مع الشيخ عبد العزيز الحصيّن سنة ١٢٠٤هـ، حيث قال فيها: (ثم اعلموا وفقكم الله: إن كانت المسألة إجماعاً، فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد، فمعلومكم أنّه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد؛ فمن عَمِل بمذهبه في مَحلّ ولايته، لا يُنكر عليه. وأنا أُشهد الله وملائكته، وأُشهدكم أنّي على دين الله ورسوله، وإنّي متبع لأهل العلم، غيرُ مخالف لهم، والسلام). [«الدرر السنية» ١/ 58]
وعلى هذا، فلا يتوجه النقد على ابن غنّام أو غيره من العلماء في حُكمِه على شخص أو طائفة بالردّة في المسائل المختلف فيها بناءاً على ما أداه إليه اجتهاده، فإنه كان من أهل العلم والاجتهاد، شريطة ألا تخالف نصاً أو إجماعاً.
الوجه العاشر: أن المعارضين لم يذكروا دليلاً يدل على خلاف ما ذكره ابن غنّام وابن بشر
وقد سبق الإشارة إلى هذا الوجه وذكر دلائله في الحلقة الثانية، على الرابط التالي:
http://www.al-jasem.com/archives/2236
وملخصه:
أن من ينتقد ابن غنّام وابن بشر في الحكم على بعض معارضي الدعوة وخصومها في نجدٍ بالشرك أو الردّة لم يذكروا دليلاً يدل على خطأ هذا الحكم والوصف ويؤكد صحة عقيدة هؤلاء الخصوم، بل ليس لهم إلا مجرد الاستبعاد الظني، الذي لا يعدو أن يكون مجرد دعوى لا تستند إلى دليل وبرهان، ولذلك عجزوا أن ينقلوا عن هؤلاء الخصوم ما يبين صحة عقيدتهم، ويؤكد سلامة توحيدهم.
بل المنقول عن هؤلاء الخصوم يؤكد صحة ما وصفهم به ابن غنّام وغيره، على ما سبق بيانه وتوضيحه في الحلقة الرابعة، يؤكده أنَّ المشتهرين بالعلم في وقت الشيخ قد عارضوا دعوته إلى التوحيد الخالص، وناصبوه العداوة، وأعلنوا بالخصومة، حتى إنه لا يُعرف أن أحداً منهم وافقه وأيّده على دعوته، إلا ما كان من عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية، وكان من أجل علماء نجد، وقد اعترف بجهله بحقيقة كلمة التوحيد قبل مجيء هذه الدعوة الإصلاحية المباركة، كما سبق نقل كلامه.
إيرادات وجوابها
الإيراد الأول: لو قال قائل: كيف تزعمون أنّ الحالة العلمية في نجد وقت دعوة الشيخ على نحو ما ذكره ابن غنّام مع إثبات الشيخ في أكثر من موضع إقرار بعض علماء نجد لدعوته
فالجواب أن يقال: إنّ الموافقة لم تكن من جميعهم، بل منهم من عاداه منذ بداية الدعوة، كعبد الله بن عيسى المويس، وابن عفالق وغيرهما، هذا أولاً.
وثانياً: أن الذين وافقوه في البداية وكاتبوه في ذلك مقرّين بما جاء به من الدعوة، لم يستمروا على هذه الموافقة، بل تراجعوا عنها بعد الموافقة، وأنكروها بعد الإقرار، حتى صاروا من ألدِّ أعدائها، ومن أشهر هؤلاء: سليمان بن سحيم وعبد الله بن سحيم وعبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى وغيرهم، فاجتمع جميع المنسوبين إلى العلم في نجد بعد انتشار الدعوة وذيوعها على معارضة الدعوة وإنكارها، وسعوا في تثبيت أهل الشرك على شركهم، وتحريض الرؤساء والعلماء في الأقطار المجاورة على الدعوة، حاشا عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية، فقد استمر على موافقة الدعوة في أصولها، حتى قُتل على يد أعدائها سنة ١١٦٤هـ.
الإيرادالثاني: قد يُقال: إن بعض العلماء في وقت الشيخ وافقوه على أصلين: بيان التوحيد، والنهي عن الشرك، وعارضوه في أصلين: التكفير والقتال، كما نص عليه الشيخ في أكثر من موضع
قال الشيخ: (فلما اشتهر عني هؤلاء الأربع، صدَّقني من يدّعي أنّه من العلماء في جميع البلدان، في التوحيد، وفي نفي الشرك، وردُّوا عليَّ التكفير والقتال). [«الدرر السنية» ١٠/113]
فالجواب من وجوه:
الوجه الأول
أن يُقال: إنّ مجرد الإقرار بكون التوحيد حقًّا واجباً، والشرك باطلاً منهياً، لا يكفي في التوحيد والإسلام، حتى يأتي بلوازم هذا الإقرار والاعتراف وهو الحكم على من تَرَكَ التوحيد، أو فَعَلَ الشرك بعد بلوغ العلم وإقامة الحجة بالكفر والخروج عن الإسلام، وهو الكفرُ بالطاغوت المذكور في قوله تعالى {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}، الذي هو أحد ركني كلمة التوحيد.
فعلى هذا، فإنّ تكفير من تَرَك التوحيد وأعرض عنه، ولو كان مقراً به بلسانه أو قلبه، أو أشرك بالله في عبادته، يُعدّ من من صُلب التوحيد وأصله، إذ لا يتم إسلام أحد حتى يكفرَ بالطاغوت ويتبرّأَ من المشركين، فمن لم يتبرأْ من المشركين ويكفرْ بما هم عليه فليس بمسلم، لأنّ التوحيد: نفيٌ وإثبات، فالامتناع عن تكفير المشركين كفرٌ بإجماع المسلمين، وسيأتي ذكر الدلائل على ذلك في حلقة قادمة، فالمخالفُ في ذلك مخالفٌ في أصل الإسلام وصلبِ التوحيد لا في فرعٍ من فروعه.
قال الشيخ: (أصلُ دين الإسلام وقاعدته: أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاةُ فيه، وتكفيرُ من تركه. الثاني: الإنذارُ عن الشرك في عبادة الله، والتغليظُ في ذلك، والمعاداةُ فيه، وتكفيرُ من فَعَلَه). [«الدرر السنية» ٢/22]
الوجه الثاني
أن يُقال: إنّ معارضي الشيخ في التكفير والقتال، ممتنعون من وصف عُبّاد القبور ونحوهم بالشرك والمروق من الدين، لا لكونهم لم تبلغهم الحجة، ولكن لأنهم لا يرون عبادة الموتى والغائبين والاعتقاد فيهم شركاً أكبر، بل منهم من يراه شركاً أصغر، ومنهم من يراه محرماً فقط لا يبلغ الشرك، ومنهم من يراه فضيلة داخلة في محبة الصالحين وموالاتهم، وقد سبق ذكر مواضع من نصوصهم في ذلك في الحلقة الرابعة، يمكن الرجوع إليها على الرابط التالي:
http://www.al-jasem.com/archives/2270
الوجه الثالث
أن يقال: إنّ معارضة خصوم الشيخ من علماء نجد وغيرهم كانت منذ بداية ظهور الدعوة، وفي أوائل أيامها، قبل القوة والتمكين، فإنّ المعارضة، كما سبق توضيحه، قد بدأت في حريملاء، واشتدت في العيينة، أي قبل ما يُعرف بمرحلة التكفير والقتال، وهي المرحلة التي لم تبدأ إلا بعد انتقال الشيخ إلى الدرعية، وهذا يدل على أنّ معارضة الخصوم كانت على أصل ما دعا إليه الشيخ من التوحيد والنهي عن الشرك، لا على مجرد التكفير والقتال، ومراسلات خصوم الشيخ لعلماء الإحساء والحرمين في التحريض عليه والتنفير عنه كانت قبل انتقاله إلى مرحلة التكفير والقتال التي لم تبدأ إلا بعد انتقاله إلى الدرعية.
فرسالة سليمان بن سحيم لعلماء البلدان كانت قبل انتقال الشيخ للدرعية.
ورسالة ابن عفالق كانت ردًّا على رسالة عثمان بن معمر له كانت قبل انتقال الشيخ للدرعية.
ورسالة ابن عفالق الأخرى المعنونة بـ «تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين» كانت قبل انتقال الشيخ إلى الدرعية.
ورسالة عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف «سيف الجهاد لمدعي الاجتهاد» كانت قبل انتقال الشيخ للدرعية.
ورسالة أحمد القباني البصري «فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب» كانت قبل انتقال الشيخ إلى الدرعية.
ورسالة علماء الحرمين في الردّ على الشيخ وتضليله واستحلال دمه كانت قبل انتقال الشيخ إلى الدرعية.
وهذا يقتضي أن الخصومة حقيقةً لم تكن على مجرد تكفير المشركين وقتالهم، بل على أصل التوحيد الذي دعا إليه الشيخ، والشرك الذي حذّر منه ونهى عنه.
وأمّا إقرارهم بالتوحيد والشرك، وإنكارُهم التكفير والقتال فقط، فهذه مرحلة أخرى من الخصومة اضطُرّ لها الخصوم بعد أن رأوا تمكّن الدعوة بانتقال الشيخ إلى الدرعية، وتنامي قوتها، وتوسّع نفوذها، وعجزهم عن مقارعتها، أو الحدّ من انتشارها، فضلاً عن مقارعتها بالحجة وإبطال دلائلها، فرأوا أنّ إنكار أَصلَيْ التوحيد والشرك لا يُجدي، إذ إنّ كثيراً من الناس قد قَبِلوا ما دعا إليه الشيخ، واعترفوا بصحة ما بيّنه وأوضحه من التوحيد، وانتظم مع دعوته سيف السلطان بتأييد محمد بن سعود، وأنّ شبهاتهم على أَصلَيْ التوحيد والشرك لم تَقْوَ على التزهيد في دعوته، وصدِّ الناس عنها، فاحتالوا على ذلك بإعلان الإقرار بهذين الأصلين، وإنكار التكفير والقتال.
الإيراد الثالث: ادّعى بعض المنتقدين أنّ الدرعية لم تكن لتقبل إقرار القرى بالتوحيد والانتهاء عن الشرك والتزام أصول الدعوة فقط ما لم يدخلوا في الطاعة وينضووا حتى رايتها ويدخلوا تحت نفوذها
ادّعى الدكتور أحمد البسام: أنّ القرى لو أعلنت موافقة الدرعية في أصول دعوتها، وأزالت مظاهر الشرك، والتزمت أحكام الشريعة، ووعدت بالقيام بتعليم أصول الدعوة للناس، لكن أبوا الدخول في الطاعة، لم تكن الدرعية لتقبل ذلك منهم حتى يدخلوا في الطاعة، وينضووا تحت لواء الدرعية.
ومقتضى هذا الادّعاء: أن الدرعية إنما كانت تقاتل لتوسيع نفوذها، وبسط سيطرتها، متذرعةً بالدعوة إلى التوحيد.
والجواب من وجوه:
الوجه الأول
أنّ هذا تخرّصٌ وظنٌّ، وحكمٌ على ما لم يقع أصلاً ولا قريباً منه، فالبحث فيه ظنونٌ وتخرصات، ولا طائل ورائها.
الوجه الثاني
أنّ هذا خلاف الثابت والمدوّن في التواريخ، وقد سبق ذكرُ منهج الدولة في قتال خصومها، وأنها كانت تبدأ بالدعوة إلى التزام التوحيد، وأحكام الشريعة، والامتناع عن الشرك ومظاهره، فأيما قرية أقرَّت بذلك والتزمته كُفّ عنها، وأيّما قرية أبت قوتلت.
وقد سبق ذكر نموذج من رسائل الدرعية إلى القرى، ومن ذلك ما نقله الفرنسي جان ريمون، وكان ضابط مدفعية لدى والي بغداد في الفترة ما بين عامي 1217-1222هـ، فإنه ذَكَر طريقة دعوة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود للقرى والقبائل، فقال: (كان عبد العزيز يُرسل للقبائل العربية قبل مهاجمتها رسولاً يحمل القرآن بيد، والسيف بالأخرى، ويحمل تحذيراً موجهاً للقبيلة التي يودّ إخضاعها، وكانت الرسالة مصوغة بعبارات مستوحاة من عقيدة الإصلاح، وإليكم قطعة من تلك الدعوة الموجزة: «السلام على القبيلة الفلانية، إذا استجبتم لدعوتي فأنتم آمنون، وإن ضربتم بها عرض الحائط فإن غضب الله سيحل عليكم»). [«التذكرة في أصل الوهابيين ودولتهم»، ترجمة وتعليق: محمد خير الدين البقاعي، ص54]
ويؤكّده ما في رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- لأهل مكة: (ولا نُكفّر إلا من بلغته دعوتنا للحق، وَوَضَحَتْ له المحجّة، وقامت عليه الحجّة، وأصرّ مستكبراً معانداً، كغالبِ من نقاتلهم اليوم، يُصرّون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات، وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به، ولتكثير سواد من ذُكِر، والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله). [«الدرر السنية» 1/243]
الوجه الثالث
أننا نطالب هؤلاء بإثبات هذه الدعوى تاريخياً، بأن يأتوا بقرية أو بلدٍ من بلاد نجدٍ ثبت إقرار أهلها وأولي الأمر فيها بأصول الدعوة ووعدوا بالتزامها، وقاموا بحقوق التوحيد ولوازمه، واجتنبوا الشرك وعادَوْا أهله، لكنّهم امتنعوا عن الدخول في الطاعة، فقامت الدولة بقتالهم مع قيامهم بالتوحيد، ونبذ الشرك، ومجانبة أهله وترك موالاتهم؟ فإن عجزوا المدّعون عن إثبات ذلك، بطلت دعواهم.
وقد مثّل الدكتور أحمد البسام بالقصيم، وعجز عن إثبات دعواه، وقد سبق ذكر حال أهل القصيم.
التنبيه الأول: أن وصف حال نجد بما يشبه الجاهلية لا يستلزم الحكم عليهم بالكفر
إنّ وصف الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابن غنّام وغيرهما حال نجد قبل مجيء الدعوة بما يُشبه الجاهلية، لا يستلزم الحكم على أهل نجدٍ بالكفر، وذلك لغلبة الجهل آنذاك وقلة العلم بآثار الرسالة، ومن هنا امتنع الشيخ عن تكفيرهم في أول دعوته، كما سبق إيضاحه في الحلقة السادسة من هذه السلسلة، على الرابط التالي:
http://www.al-jasem.com/archives/2313
ومن ذلك قوله عندما سُئل عمّا يُقاتِل عليه؟ وعمّا يُكفِّرُ الرجلَ به؟ فأجاب: (وإذا كنا لا نُكفِّرُ من عَبَدَ الصنم الذي على عبد القادر؛ والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم وعدم من يُنبّههم، فكيف نُكفِّرُ من لم يشرك بالله؟! إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يُكفِّر ويقاتل {سبحانك هذا بهتان عظيم}). [«الدرر السنية» 1/104]]
التنبيه الثاني: أن خصوم الشيخ أحقُّ بوَصْف الخوارج من الشيخ وأتباعه
وذلك أنّ الخارجي: هو من يُكفِّرُ بما ليس بكفرٍ، ويستحلّ الدم عليه، ومعلومٌ أنّ تكفيرَ المخالفين للشيخ كان بغير حقِّ، إذ إنهم كَفَّروه على محضِ التوحيد، واستحلوا دمه بذلك، بينما لم يُكفّر الشيخ إلا من استحقَّ الكفر، بأن فَعَل أو قال أو اعتقدَ ما هو مجمع على كونه كفراً، بعد بلوغ العلم وقيام الحجة، وعلى هذا فخصومه أحقّ بوصف الخوارج منه، بل هو منطبقٌ عليهم مطابقة تامة.
التنبيه الثالث: لا ملامة على العالم إذا حَكَمَ على شخص أو قرية أو ناحيةٍ بالكفر لأمر قد شاع عنهم واشتهر من أفعال الكفر، ولو لم يكن ثابتاً في واقع الأمر
إنّ العالم لو حَكَم على أهل ناحيةٍ أو بلدٍ بمقتضى ما نَقَلَه له من يثق به، أو بمقتضى ما شاع عنهم واشتهر، كما لو اشتهر عن قرية: عبادة القبور، أو سبُّ الدين، أو موالاةُ المشركين ومناصرتهم على المسلمين، أو إنكارُ البعث ونحوِ ذلك، ولم يكن ما اشتهر ثابتاً في واقع الأمر، فإن هذا لا يُعدُّ من الغلو، لأنّ الغلوّ إنما هو التكفير بغير حق، كمن يُكفّر بالمعاصي والذنوب، أو يكون الغلوّ من جهة المسارعة إلى التكفير بمجرد الأوهام والظنون.
وأما والحال ما ذكرنا، فإنه تكفيرٌ على فعلٍ أو قولٍ أو اعتقادٍ كفريٍّ في نفس الأمر، وقد حُكِمَ به على من شاع عنهم هذا الكفر واشتهروا به في بلد المفتي وناحيته، وإن كان في نفس الأمر غير ثابت.
فما يثيره بعضهم منتقداً على الدعوة أو على أحد أئمتها أنهم حكموا بكفر القرية الفلانية أو البلد الفلاني، وجعلوها دار كفر، لا بُد أن يُنظر فيه إلى السبب الذي أوجب لهم الحكمَ عليهم بالكفر، فإن كان السبب صحيحاً واقعاً وموجِباً للكفر، قُبِل حكمهم، وإن كان مخالفاً لواقع البلدة أو القرية في نفس الأمر رُدَّ الحكم لعدم مطابقته للواقع، لا لكون السبب في نفسه غير مُكفِّر.
التنبيه الرابع: من قرائن صحة منهج الدعوة تمكينُ الله لها
فإنّ الله أبطل جهود كلِّ من عارض الدعوة: من العلماء والرؤساء والأمراء والملوك، حتى أذهب الله رئاستهم، وأضاع ملكهم، وأبقى ملك الدولة ودعوتها إلى يومنا هذا.
ولا يُعرف في التاريخ قط أنّ دولة سقطت مرتين ثم قامت إلا هذه الدولة القائمة بهذه الدعوة. وهذا من الدلائل الكونية على صحة منهج الدولة وبطلان ما خالفها.
فالدولة العثمانية بولاياتها المصرية والشامية والعراقية والحجازية انتهت، ودولة الأشراف انتهت، ودولة بني خالد انتهت، وكل البلدان والأقاليم التي عارضت الدعوة وحاربت الدولة لم يبق لها وجود اليوم، وبقيت دولة الدعوة الإصلاحية.
التنبيه الخامس: من القرائن على صحة منهج الدعوة وصلاح الدولة آثارها الحميدة
فانظر إلى ما جرى على يديها من انتشار الأمن، وقمع الفساد والتعدّي الذي كان شائعاً في الجزيرة، فضلاً عن انتشار التوحيد، وإماتة الشرك وإزالة مظاهره، وإعزاز السّنة وتعظيم الدليل، وانتشار العلم، ووفرة العلماء.
وليتأمل المنصف ما ذكره ابن بشر من انتشار الأمن وحصول الخير العظيم في عامة الجزيرة.
قال ابن بشر -رحمه الله- عن عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: (وكانت البلاد من جميع الأقطار في زمنه آمنة مطمئنة في عيشة هنية، وهو حقيقٌ أن يُلقّب مهدي زمانه، لأنّ الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أيّ وقت شاء، شتاءً وصيفاً، يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً، في نجد والحجاز واليمن وتهامة وعمان وغير ذلك، لا يخشى أحداً إلا الله، لا سارق ولا مكابر). [«عنوان المجد» ١/٢٦٦]
وليتأمل ما ذكره الرحالة من أمثال بوركهارت وغيره عمّا عمّ الجزيرة من الخير وانتشار الأمن وحصول العدل وقمع الظلم والفساد.
قال بوركهارت في تعداد الآثار المترتبة على قيام الدولة السعودية الأولى: (توقّف السرقات العامة والخاصة توقّفاً تاماً بين المستوطنين المستقرين، وبدو الجزيرة العربية الذين كانوا من قبل يفرحون فرحاً شديداً بعمليات السلب والنهب التي كانوا يقومون بها، وهنا حدث لأول مرة منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن أصبح بوسع التاجر أن يعبر وحيداً في صحراء الجزيرة العربية وهو آمن تماماً، وراح البدو أيضًا ينامون بلا خوف من أن يسطو لصوص الليل على مواشيهم). [«ملاحظات على البدو والوهابيين» ٢/٨٣]
وهذا لا يمكن أن يكون نتاج دعوة تُكفِّر الناس بغير حق وتغلو في أحكامها.
ومما يؤكد صحة الاستدلال والاستشهاد بتمكين الله للدولة والدعوة: أنّ ما ينسبه إليها أعداؤها وبعض منتقديها من الغلو والمجازفة في تكفير الناس بغير حق، محصّله أنّ منهج الدولة منهجُ الخوارج، لأنّ تكفير المسلمين بغير حق هو منهج الخوارج، ومعلوم من سنة الله الكونية أنه لا يُمكّن للخوارج.
قال وهب بن منبّه -رحمه الله-: (يا ذا خولان، إني قد أدركت صدر الإسلام، فوالله ما كانت الخوارج جماعة قط، إلا فرقها الله على شر حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قوله، إلا ضرب الله عنقه، ولو مكَّن الله لهم من رأيهم، لفسدت الأرض، وقُطعت السبل والحج، ولعاد أمرُ الإسلام جاهليةً، وإذا لقام جماعةُ كلٍّ منهم يدعو إلى نفسه الخلافة، مع كل واحد منهم أكثرُ من عشرة آلاف، يقاتل بعضهم بعضا، ويشهدُ بعضهم على بعض بالكفر، حتى يصبحَ المؤمنُ خائفاً على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله، لا يدري مع من يكون، قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}، وقال: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا}، فلو كانوا مؤمنين لنصروا، وقال: {وإن جندنا لهم الغالبون}) [«سير أعلام النبلاء» 8/124]
التنبيه السادس: الاعتذار عن خصوم الدعوة بالتأويل غير مقبول
وكأنّ قائل هذا يشير إلى أنّ تأويل بعضهم مانعٌ من تنزيل الأحكام الشرعية عليهم.
والردّ على هذا من وجوه:
الوجه الأول
أن يُقال: إنّ هذا لا يستقيم مع قواعد الشرع ودلائله، لأنّ التأويل والاجتهاد لا يُقبل في أصل الإسلام والتوحيد، فقد أجمع العلماء على أن من بلغه العلم وقامت عليه الحجة ثم أصرّ على الشرك وعبادة غير الله من الأولياء وغيرهم أنه مشرك لا يُقبل منه دعوى الاجتهاد والتأويل، ولا يُعذر في هذا الباب إلا من لم تبلغه الحجة، كأنْ يكون حديث عهدٍ بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن المدن والقرى والحواضر.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: (وقد ثَبَتَ بالكتاب والسنّة والإجماع أن من بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به فهو كافر لا يُقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة). [«مجموع الفتاوى» 12/496]
وقال ابن القيّم -رحمه الله-: (الطبقة السابعة عشرة: طبقةُ المُقلِّدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم. ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام، غيرُ محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أُولئك أنفسهم من السعى فى إطفاءِ نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب.
وقد اتفقت الأُمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث فى الإسلام…
وصح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: «إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة»، وهذا المُقلِّد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلَّف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر. وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمُكلَّف فى تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين.
وقد تقدم الكلام عليهم، والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاءَ به، فما لم يأْت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل. فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد. فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد…). [«طريق الهجرتين» ص 411]
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية: (التقليد لا يجوز عند جمهور الأصوليين في العقائد، كوجود الله تعالى ووحدانيته ووجوب إفراده بالعبادة، ومعرفة صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بد في ذلك عندهم من النظر الصحيح والتفكّر والتدبّر المؤدي إلى العلم وإلى طمأنينة القلب، ومعرفة أدلة ذلك… ولا يكفي التعويل في ذلك على سكون النفس إلى صدق المقلَّد، إذ ما الفرق بين ذلك وبين سكون أنفس النصارى واليهود والمشركين الذين قلدوا أسلافهم وسكنت قلوبهم إلى ما كان عليه آباؤهم من قبل، فعاب الله عليهم ذلك.
وذهب بعض الفقهاء إلى جواز الاكتفاء بالتقليد في العقائد، ونُسب ذلك إلى الظاهرية.) [«الموسوعة الفقهية الكويتية» ١٣/ 160]
الوجه الثاني
أن يُقال: إنّ الشيخ لم يُقدم على تنزيل الأحكام على أهل نجد، سواء من معارضيه أو غيرهم من عوام الناس، في أول دعوته، بل كان يتلطَّف في دعوتهم، ويمتنع من تكفيرهم على الرغم من كونهم واقعين في الشرك الصريح، ولكنّه اشتغل بنشر العلم وإقامة الحجة، ومكث سنين طويلة في بيان التوحيد والتحذير من الشرك في العبادة، قبل أن يُقدم على تنزيل الأحكام على من استحقها.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- حفيد الشيخ -وقد أدرك جده وأخذ عنه العلم- وهو يذكر طريقة الشيخ في أول دعوته: (كما جرى لشيخنا: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في ابتداء دعوته، فإنه إذا سمعهم يدعون زيداً بن الخطاب، قال: الله خير من زيد، تمريناً لهم على نفي الشرك بلين الكلام، نظراً إلى المصلحة وعدم النفرة). [»الدرر السنية«2/212]
وقد سبق ذِكرُ امتناع الشيخ عن تكفير من عبد الصنم، الذي على عبد القادر؛ والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم.
وقال في رسالته -رحمه الله- إلى عبد الله بن عيسى وابنه: (والله الذي لا إله إلا هو لو يعرف الناس الأمر على وجهه لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله ووجوب قتلهم كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم لا أجد في نفسي حرجاً من ذلك). [«مجموع مؤلفات الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب» ص49]
وللحديث بقية، والله أعلم، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيرا