الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
فقط طلب مني بعض المحبين الكتابة بذكرِ أهم الأنشطة التي قمتُ بها في مسيرتي العلمية، والتي استعملني الله فيها، ووفقني لها، وأعانني عليها، بيانًا لواقع الحال، وردًّا على بعض المشككين والمشبِّهين والملبِّسين، من باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنها صفية». وسيكون هذا البيان والتوضيح عبر هذه الوقفات، فأقول مستعينًا بالله:
الوقفة الأولى
من طبعي بحمد الله أني إذا عرفتُ الحقَّ وتثبتُّه وتيَّقنتُه، لا يزحزحني عنه أحدٌ كائنًا من كان، مهما كانت مرتبته ومنزلته، لأنه دينٌ أدين الله به، وأما الذي يُحْجَمُ عنه فهو: المسائل النازلة العامة التي مردُّها إلى الأكابر من العلماء والأمراء، على تفصيل معروف قد قررته في بعض مؤلفاتي مثل كتاب «حقيقة الخوارج في الشرع وعبر التاريخ».
وأنا في مواقفي وأفعالي وأقوالي لا أراقب إلا الله تعالى وحده، لا أراقب أحدًا من الخلق، ولا ألتمس رضا أحدٍ سوى الله، لا حاكمٍ ولا عالمٍ ولا وجيهٍ، كما أني لا أطلب تزكية فلان وفلان، ولو كان أعلمَ الناس، فالمرء لا يزكيه إلا عمله، كما قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: (إنَّ الأرض لا تقدّس أحدًا، وإنما يقدّس الإنسان عمله)، ولستُ ممن يلتمس رضا المخلوقين، ويرجو تزكيتهم وثناءهم عليه، كما يفعله بعض الناس والدعاة، فإنَّ هذا لا يفعله إلا من هو مرتابٌ، غير واثق من منهجه وطريقته، {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِه}، والتزكية التي لا تنخرم هي تزكية الله ورسوله، وتكون بعد الوحي بموافقة الدليل والبرهان، لا بتزكية فلان وفلان، فقد زكَّى الملهم المُحدَّث عمر الفاروق رضي الله عنه عبد الرحمن بن ملجم، وما نفعه ذلك، فكيف بمن هو دون عمر رضي الله عنه.
الوقفة الثانية
من فضل الله عليّ أنْ حبّب إليَّ العلم والبحث العلمي، وردودي على المخالفين كلُّها بحمد الله ردودٌ علمية بحثية بحتة، ليس فيها اتهامٌ للنيات والمقاصد، ولا تحقيرٌ وتسفيه، وليس فيها كلامٌ مُرسلٌ بلا بينة وبرهان، وليست قصصًا وحكايات ومواقف، بل كلُّها من فضل الله مسائل علمية محررة، يستفيد منها القارئ في أيِّ زمان ومكان.
الوقفة الثالثة
من فضل الله عليَّ أنَّ منهجي معروفٌ وواضحٌ لا خفاء فيه، فإنَّ لي بحمد الله مؤلفات كثيرة تبلغ اثني عشر مؤلفًا ما بين كبير ومتوسط ومختصر، ولي قريبٌ من أربعين بحثًا ومقالة علمية، فضلًا عن آلاف الساعات من المحاضرات والدروس العلمية، وهي مبثوثة في موقعي في النت، وفي قناتي في اليوتيوب، فأمري ليس خافيًا بحيث يعجز الإنسان عن الحكم عليّ ومعرفتي إلا من خلال سؤال الناس عني، بل أنا واضحٌ، مستبينٌ أمري بحمد الله، فكل من أراد أنْ يحكم عليَّ وأن يعرف حالي ومنهجي أمكنه ذلك بسهولة من خلال مؤلفاتي وأبحاثي ومقالاتي ومحاضراتي ودروسي.
الوقفة الرابعة
من فضل الله عليَّ أن يسّر لي الردَّ على كثير من شبهات أهل الباطل بردود علمية ومؤلفات تمس الحاجة إليها:
فأنا بحمد الله من أوائل من ردَّ على شبهات القاعدة بعد أحداث سبتمبر في كتابي «كشف الشبهات في مسائل العهد والجهاد» سنة 1423/٢٠٠٣.
وقد رددت على شبهات الأشاعرة التي ذاعت وانتشرت بعد أن قاموا بنشر كتابهم «أهل السنة الأشاعرة» على نطاق واسع، في كتابي «الأشاعرة في ميزان أهل السنة».
ورددت على شبهات الصوفية وجماعة حمد سنان وعبد الله نجيب سالم عندما نشطوا في الكويت بنشر التصوف، وذلك في كتابي «تجريد التوحيد من درن الشرك وشبه التنديد»، وفي تحقيقي لرسالة «بيان الشرك» للشيخ محمد بن سليمان الجراح.
ورددت على السرورية القطبية الثوريين في كتابي «حقيقة الخوارج في الشرع وعبر التاريخ» سنة 1427هـ، وذكرتُ فيه بعض أوصافهم وطرائقهم ومناهجهم ومقالاتهم، كما بيّنت أن التكفير بكل كبيرة ليس من شرط وصف الخوارج.
ورددتُ على شبهات جماعة الإخوان المسلمين والحركات التكفيرية والتنظيمات الدعوية وغيرهم في الدعوة لإقامة الخلافة، وجعلِهم هذه القضية من صلب واجبات ووظائف الدعاة، وتخصيصهم أحكام الإمامة بالخلافة العامة، وذلك في كتابي «مسائل منهجية حول مفهوم الخلافة الإسلامية»، وهو من تقديم الشيخ صالح السحيمي.
ولما ذاعت وانتشرت شبهاتٌ كثيرة حول دعوة الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب، ونُسِبَتْ إلى الغلو والتطرّف، والمبالغةِ في التكفير، وتشبيهها بالجماعات التكفيرية كالقاعدة وداعش، كتبتُ في الردِّ على تلك الشبهات، وبرَّأتُ دعوة الإمام المصلح من تلك الاتهامات، وذلك في كتابي «الإعلام ببطلان نسبة جماعات الغلو والتكفير لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب». كما كتبتُ كتابًا في التعريف بالدعوة السلفية النجدية كمقدمة لمن أراد أن يعرف حقيقة الدعوة السلفية النجدية، وهو كتاب «التعريف بالدعوة السلفية النجدية».
ولما تعالت أصواتُ بعض الناقدين لدعوة الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب في جوانب معينة من تاريخها ومنهجها، حيث نسبوا إليها شيئًا من الغلو والتطرف، مع كونهم من المناصرين لها في الجملة، كبعض المؤرخين السعوديين وغيرهم، رددتُ على شبهاتهم في كتابي «حقيقة الصراع في تاريخ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قراءة تحليلية نقدية».
ولما زَهَّد بعضُ السروريين والحزبيين في باب الردِّ على المخالفين، أو في بعض جوانبه، وادَّعوا أن الردَّ يُفرق الكلمة، وعزوا ذلك منهجًا للشيخ عبد العزيز بن باز، كتبتُ كتابًا في بيان منهج الشيخ عبد العزيز بن باز وأصوله في الردِّ على المخالفين، وهو «أصول الشيخ عبد العزيز بن باز في الردِّ على المخالفين»، وهو أصل رسالة الماجستير.
ولما خاض كثيرٌ من الناس في المنهج السلفي، ما بين غالٍ وجافٍ، واختلفوا في مسائل: هل هي من منهج السلف أم لا؟ كتبتُ كتابًا في بيان منهج السلف وأصوله وقواعده، وهو كتاب «إيضاح المحجة في بيان سبيل السلف في أخذ الدين وفهمه والعمل به والدعوة إليه».
ولما راجت فكرةُ تأسيسِ التنظيمات الدعوية السلفية، والعمل الجماعي التنظيمي، باعتباره حاجة أو ضرورة لهذا العصر بالخصوص، وسبيلًا لنشر الدعوة السلفية، ما بين مُجيزٍ ومانعٍ، كتبتُ كتابي «التنظيمات الدعوية أنواعها وأحكامها»، بيّنت فيه ما يجوز وما يمتنع من صور العمل الجماعي والتنظيمات، وفق الأصول العلمية والعملية للسلف.
ولما كثر الكلام حول العلم والمنهجية في طلبه، وسلك كثيرون طرقًا مخالفة لما عليه العلماء قديمًا وحديثًا، كتبتُ كتابًا في كيفية ضبط العلم وإتقانه، وهو كتاب «ضبطُ العلم».
فَمِنْ فضل الله عليَّ، أنه ما مِن ضلالة تنتشر، أو مخالفة تشتهر، وفي وسعي العملُ على ردّها وإبطالها، وكشفِ زيفها إلا اجتهدتُ في ذلك مع إخواني وأصحابي، وبذلتُ ما أمكنني فعلُه، وهذا من فضل الله عليَّ ومنّته وكرمه، لا بقوتي وعلمي وعقلي، ولا بشجاعتي، والأمثلة على ذلك كثيرة:
فأنا بحمد الله قد أقمتُ مع بعض المشايخ وطلبة العلم مؤتمرات بحثية علمية تخصصية في مسائل مهمة في السياسة الشرعية، بهدف توضيح منهج السلف في باب الإمامة والجماعة، خاصةً بعد انتشار الأفكار الثورية التي تدعو إلى الثورة على الحكومات، وتزهّدُ في أصول السمع والطاعة وحقوق الإمامة والجماعة، فقد ترأستُ بحمد الله اللجنة العلمية لثلاثة مؤتمرات في هذا الباب:
أولها: مؤتمر (الإصلاح والتغيير) الذي عُقد في سنة ٢٠١١م في أوج ثورات الخريف العربي، والذي أفرز أهمية إقامة مؤتمرات علمية بحثية في مسائل (السياسة الشرعية) لمسيس الحاجة إليها، فأقمنا بفضل مؤتمرين بحثيين في موضوع (السياسة الشرعية) بعده، ونُشرت أبحاثها بحمد الله، واستفاد منها كثيرٌ من الباحثين والدارسين في الجامعات والكليات في العالم الإسلامي، وقد أثْرَتْ هذه البحوث بفضل الله بابًا مهمًا من أبواب الفقه والمنهج وهو السياسة الشرعية، كان المتفردَ بالكتابة المعاصرة فيه الحزبيون، والمؤتمرات الثلاث كلُّها كانت تحت رعاية وزارة الأوقاف الإسلامية بالكويت جزاهم الله خيرًا.
ولما عقد الأشاعرة والصوفية مؤتمرهم في جمهورية الشيشان، بحضور جمعٍ كبيرٍ من الشخصيات العلمية من مختلف العالم الإسلامي، وعلى رأسهم شيخ الأزهر، وقرروا فيه أنَّ أهل السنَّة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية والصوفية فقط، عقدتُ مع بعض المشايخ مؤتمرًا في الردِّ على أطروحاتهم الباطلة، وكنتُ وقتها أمينَ عام المؤتمر، وكان تحت عنوان (المفهوم الصحيح لأهل السنّة والجماعة وأثره في الوقاية من الغلو والتطرف)، حضره شخصياتٌ علمية من خمس وعشرين دولة إسلامية، وكان له أثرٌ كبير في ردِّ باطل مؤتمر الشيشان، وانتشار واسع بحمد الله.
ولما كثر الكلام حول دعوة الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب، واتهامها بالغلو والتطرف، عقدتُ مع بعض طلبة العلم مؤتمرًا بحثيًا علميًّا بعنوان (عالمية دعوة الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب).
وهكذا ما من فكرة خاطئة تنتشر، أو ضلالة تشتهر، أو مفهوم شرعي يُحرّف، إلا وساهمتُ حسب طاقتي مع إخواني وأصحابي من طلبة العلم والدعاة في إبطالها وإيضاح الحق وبيانه، فألقيتُ في ذلك عشرات المحاضرات العلمية، منها على سبيل المثال لا الحصر: (الموقف من التمذهب)، و(العمل السياسي وأثره في الدعوة والدعاة)، و(مفهوم الجماعة ومظاهر الانحراف فيه)، و(مفهوم الجهاد ومظاهر الانحراف فيه)، و(مفهوم الدعوة ومظاهر الانحراف فيه)، و(الفكر التنويري تاريخه ومبادؤه وموقفه من الأديان)، و(الإسلام وموقفه من الأديان)، و(حكم بناء الكنائس ودور العبادة في الإسلام)، و(موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين بين الغلو والجفاء)، و(منهج السلف في الرد على المخالفين وصيانته من التحريف والتشويه)، و(كيف نقرأ التاريخ)، و(تنزيه الدعوة السلفية عن المناهج الجديدة)، وغيرها كثير.
فضلًا عن الدروس العلمية في مختلف الفنون، فبحمد الله تعالى وفضله، أتممتُ شرح كثير من المتون العلمية، في الفقه والعقيدة والتوحيد والحديث والأصول والمصطلح والتفسير وغير ذلك، وعقدتُ دورات تخصصية في فنِّ علم الحديث، وعلم العقيدة، وعلم التوحيد، ورسائل أئمة الدعوة النجدية، وغير ذلك، حتى بلغ مجموع الساعات الصوتية والمرئية أكثر من ١٦٠٠ ساعة، كلها مثبتة في موقعي في النت، وفي قناتي في اليوتيوب.
وأما الأبحاث والمقالات العلمية فهي متنوعة، بَلَغَتْ بفضل الله قريبًا من أربعين بحثًا ومقالة.
وأما الردود العلمية على المبطلين والمخطئين والمخالفين فهي كثيرة بحمد الله، ما بين مكتوبة ومرئية ومسموعة، منها الردُّ على بعض دعاة الشرك والبدعة كمحمد عبد الغفار الشريف وحمد سنان وحاتم العوني وخالد باحميد الأنصاري وعبد الله نجيب سالم، ومنها الردُّ على بعض دعاة الفتن والثورات كجاسم الجزاع وغيره، ومنها الردُّ على دعاة التمذهب والتعصب كمحمد بن عبد الواحد المصري وغيره، ومنها الردُّ على شبهات في الإمامة والجماعة كردّي على عبد الرحمن عبد الخالق وعبد العزيز الريس، ومنها الردُّ على أخطاء علمية أو عقدية كردّي على عدنان عبد القادر وصالح المغامسي، ومنها الردُّ على مسائل تاريخية كردّي على الدكتور أحمد الدعيج وأحمد البسام وعبد الله العثيمين، وغير ذلك.
وهذه الجهود لا منّة لي فيها، بل المنّة والفضل لله وحده، الذي هداني لهذا، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله ووفقني وأعانني. ولست أطلبُ بما ذكرتُ مَدْحَ فلان وفلان، لا عالمٍ ولا حاكمٍ ولا غيرهما، ولا أطمعُ أن يشتهر ذكري بين الأنام، وإنما أطلبُ رضا الله وحده وتزكيته ومعونته وهدايته وتأييده وتثبيته.
وأنا إذ أذكر هذه الأمور، لا أذكرها تمدحًا ورياءً، حاشا لله، وإنما أذكرها مضطرًا لدفع إفك الأفاكين، وصدِّ عادية المفترين الظالمين، الخائضين بالباطل والبهتان المبين.
فللمنصف أن يقارن بين هذه الجهود العلمية والأنشطة الدعوية المنهجية التي وُفِّقت لها، وبين جهود بعض الناقدين، ليُعلمَ مَنْ أحقُّ بالنقد، والعيب، والملامة، والعتاب.
فكم من موقفٍ عظيم أوجب قيام أهل العلم بالحق، وكم من حادثة عامة احتاج الناس فيها لبيان الصواب ونصرة أهله وردِّ الباطل ودحره، وَقَفَ فيها بعض الناقدين موقف المتفرج، وفترت عزيمتُهم عن القيام فيها لله، والصدع بالحق وبيانه للناس، كمسألة الأصنام والمعابد الوثنية في جزيرة العرب، ومسألة التقريب بين الأديان ومشروع البيت الإبراهيمي، ومسألة التقارب والتسامح مع اليهودية والتطبيع العقائدي، ومسائل التشكيك في أحاديث الآحاد وحجية السنّة، ومسائل العلمانية وفكر التنوير، وتغيير المناهج الدراسية لتوافق التوجهات العلمانية والتحررية وإذابة عقيدة الولاء والبراء، ومسائل تعظيم الآثار، والمسائل المتعلقة ببعض الظلم الواقع على بعض فئات المجتمعات، ومسألة مناصرة المسلمين المعتدى عليهم كالفلسطينيين وغيرهم، ومسألة انتشار حفلات الغناء والرقص والانحلال الأخلاقي.
ومن المواقف التي تخاذل فيها بعض الناقدين عن بيان الحق ونصرة أهله: الهجوم الكبير على دعوة الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب في كثير من وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية، والتشكيك في منهج أئمة الدعوة الإصلاحية، فلم يقم هؤلاء الناقدون بالانتصار للإمام محمد بن عبد الوهاب ولأئمة دعوته، وردِّ شبهات المُبطلين والمشككين، مع عِظَم الحاجة لذلك.
وغيرُ ذلك كثيرٌ من المواقف التي تخاذل عن نصرة الحق فيها بعض الناقدين، بحيث لو أُحصِيت لطال المقال.
وأنا والله وبالله وتالله، لا أقصد الشماتة بأحد من الناس، ولا الاستعلاء على أحد، حاشا لله، لكنني أقول ذلك لبيان الحال والواقع، حتى يكون بعض الفضلاء على بيّنة من الأمر، ولئلا يكونوا ضحية افتراء وبهتان.
ولي في شيخ الإسلام ابن تيمية أسوة فيما ذكرتُ من نشاطي وجهودي، حيث قال في سياق ذكر قصة محاكمته على عقيدته التي اتُّهم بفسادها: (فأنا أُحْضِرُ عقيدةً مكتوبة؛ من نحو سبع سنين قبل مجيء التتر إلى الشام. وقلتُ قبل حضورها كلامًا قد بعد عهدي به، وغضبتُ غضبًا شديدًا؛ لكني أذكر أني قلت: أنا أعلمُ أنَّ أقوامًا كذبوا عليَّ، وقالوا للسلطان أشياء، وتكلمتُ بكلام احتجت إليه؛ مثلُ أن قلت: من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري؟ ومن الذي أوضح دلائله وبينه؟ وجاهد أعداءه وأقامه لما مال؟ حين تخلى عنه كل أحد؛ ولا أحدٌ ينطق بحجته، ولا أحدٌ يجاهد عنه، وقمت مظهرًا لحجته، مجاهدًا عنه مرغِّبًا فيه؟).
الوقفة الخامس
إنَّ بعض الناس قد تجاوزوا في النقد إلى حدِّ الطعن في بعض دعاة أهل السنّة والجماعة، ورميهم بالإفك والبهتان، وإلقاء التهم الجزاف، وصرفِ الناس عن الحق، والصدِّ عنه بلا حجة ولا برهان، وتفريق كلمة الدعاة وتحزيبهم، فكان المتعيّنُ بيان الحال والواقع، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيَّ عن بينة.
وقد حصلت تعدَّيات عليَّ وعلى غيري من طلبة العلم السلفيين، ووقع ظلمٌ وافتراءٌ، تجاوز أصحابها الحدود والخطوط، وتعرَّضوا لبعض الدعاة المصلحين، وانتقدوهم على مخالفة رأي واجتهاد، لا على مخالفة نصٍّ أو إجماع أو عملٍ شائعٍ للسلف، حتى صار بعض هؤلاء يحاكم خصومه من السلفيين على رأيٍ واجتهادٍ وتقديرٍ شخصي وتنزيلٍ تقديريٍّ لبعض الأحكام على بعض الوقائع، ويجعل رأيه وتقديره وقياسه واجتهاده كالمنصوص نصًّا أو المجمع عليه إجماعًا، ويَخرُجُ كثيرًا في ردوده عن محلِّ النزاع، ويخوض في غيره، حتى غدا معول هدم وتفريق، لا معول بناء واجتماع.
مع التنبيه على أنني لست عاجزًا عن ردِّ بهتان من تكلَّم فيَّ وفي غيري بغير حقٍّ، وكشفِ زيفه، بل هذا الأمر من أسهل الأشياء عندي، وذلك لكثرة مخالفات بعضهم العلمية والمنهجية، بل والعقلية، وتعدّد تناقضاتهم العملية، وخروجهم عن حدِّ المروءة والرجولة والشهامة والأخوة الإسلامية، فضلًا عن الكذب الصريح والبهتان، لكنني لا أحبُّ أن أشتغل بمثل هذا النوع من الردود، والقارئُ المنصف يستبين له الكذب والإفك والعدوان بأدنى تأمل.
وأنا قد أخذتُ عهدًا على نفسي ألا أتعرض لجاهلٍ، جهلُه كافٍ في فضحه، بل أكتفي بالإعراض عنه عملًا بقوله تعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وقوله تعالى في وصف المؤمنين: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}.
لكن المصلحة تقتضي، بسبب كثرة تشغيب هؤلاء الناقدين وتكرره، أن أفرد فيهم في المستقبل القريب، بعون الله وتوفيقه، مؤلفًا في بيان أغلاطهم العلمية، ومخالفاتهم المنهجية، وتناقضاتهم العملية، حتى يرتدع صاحب الغيِّ عن غيِّه والمعتدي عن عدوانه.
الوقفة السادسة
أحبُّ أن أؤكد على أنني لستُ بحاجة إلى أن أبرئ نفسي عند شخص معين، ولو كان شيخًا كبيرًا، ولا أن أسترضي أحدًا، فإنَّ مثل هذا لو ساغ فإنما يكون عند خفاء الأمر والتباسه، لا مع وضوحه وانكشافه.
وفي الختام أحبُّ أن أؤكد أنني لا أطلب بمقالي هذا رضا أحدٍ، ولا ألتمس رجوع شخصٍ معيّنٍ عن نقدي والكلام فيّ بغير الحق، بل أحببتُ تنبيهَ ونصحَ عموم الدعاة في كلِّ ما ذكرتُه في هذا المقال، إذ إني أحبُّ للجميع الخير، وأن يختم الله للجميع بالطاعة، وأعلمُ أنه ما من حُكمٍ يصدر من أحدٍ، عالمٍ كان أو من هو دونه، إلا وسُيسأل عنه يوم القيامة، حين يوقف بين يدي الله، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال)، وقوله: (ما من حَكمٍ يحكم بين الناس، إلا حُبس يوم القيامة، ومَلَكٌ آخذ بقفاه، حتى يقفه على جهنم، ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل، فإن قال: الخطأ، ألقاه في جهنم، يهوي بها أربعين خريفًا).
وكلُّ من علم مني خطأً مُحقَّقًا، مُحكمًا لا مشتبهًا، وجب عليه نصيحتي بالتي هي أحسن، بأن يوقفني على الخطأ، ويبيّن وجه كونه خطأً شرعيًّا، فإنني لست معصومًا عن الخطأ والزلل، ورحم الله من أهدى إليَّ عيوبي، ولست بذلك مانعًا من الردِّ عليَّ أو على غيري علنًا، عند وقوعي في خطأٍ محقّقٍ علنًا، مُحكمٍ لا مُشتبه، لكنْ يجب أن يكون الردُّ وفق أصول الردِّ والبيان والإنكار عند أهل السنّة والجماعة، بعيدًا عن التخرصات، والظنون، والتحليلات، والمجازفات.
كما أحب تحذير الجميع من أن يكونوا أُذُنًا لغيرهم من المجازفين والمبالغين والملبِّسين، بل الواجب: التحقُّق والتثبُّت، لئلا يصيبوا قومًا بجهالة، فيصبحوا على ما فعلوا نادمين، وهذا ما ذمَّ الله به اليهود في قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ}، وعابه سبحانه على بعض المؤمنين في سماع كلام المنافقين كما في قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتب في الكويت، ٢٢ ربيع الأول ١٤٤٣هـ