الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
فقد قرأت بيانًا بعنوان «الحج ليس آمنا» وقَّعَه عدد من المفكرين والناشطين من ذوي التوجهات الحزبية والثورية، وعنوان البيان يُعبِّر عن مقصود موقِّعيه، «الحج ليس آمنًا»، إذ حقيقته: الصدُّ عن شعيرة الحج، والتزهيد في فريضة الإسلام، كل ذلك لمقاصد حزبية، ومصالح فردية، وأمور وهمية.
وقد سلط فيه موقِّعوا البيان سهام النقد على المملكة العربية السعودية، وزعموا قيامها بتسييس الحرمين، باتخاذ الحج والعمرة أداة للقمع والتصفية، ووسيلة للمناورات السياسية، متعامين بشكل واضح ومتعمد عن الجهود الجبارة التي بذلتها وتبذلها المملكة العربية السعودية لخدمة الحرمين الشريفين، منذ قيامها وإلى ساعتنا هذه، على نحوٍ عجزت عنه كثير من الدول الإسلامية التي تولت ولاية الحجاز قرونًا عديدة.
وقد تقصَّد أصحاب البيان الإيحاء للقارئ وإيهامه بشيطنة المملكة، وخبث طويتها، وسوء صنيعها مع العلماء والدعاة والمصلحين بمنعهم وقمعهم وإسلامهم إلى من يسومهم سوء العذاب، وذلك من خلال استعمالهم عبارات التعميم والتفخيم والتضخيم والتهويل.
ومن تأمل البيان وقرأه بإنصاف وتَجَرُّدٍ، وسَبَر الوقائع وعَرَف الحقائق، أيقن أن البيان معولٌ للهدم والإتلاف، وليس سبيلًا للبناء والتصحيح والتقويم، وتَحَقَّقَ أنه منكرٌ لا معروف، وفسادٌ لا إصلاح، لما اشتمل عليه من المفاسد العظيمة، كالصدِّ عن شعيرة الحج والتنفير عنها، وتزييف الحقائق، وإنكار وجحد المحاسن، واستعداء أهل الشرك والبدع والرفض على أهل السنَّة والجماعة، وتحريضهم على بلاد المسلمين ومقدساتهم، وتسييس الدين للدنيا، وتوظيف الخطاب الديني، واستدرار العاطفة، لخدمة الأعداء وتمكينهم من ضرب عقيدتنا وتهديد أمننا، وتدنيس مشاعرنا ومقدساتنا.
ولا ينكر دور المملكة العربية السعودية في تيسير الحج والعمرة، وتذليل الصعاب، وفرض الأمن، وخدمة الحجاج والمعتمرين إلا جاحد أو مكابر.
فإن كل من استقرأ التاريخ وقلب صفحاته يعلم ما شهده الحج خلال قرون طويلة، في عهد الدولة العثمانية وولاية الأشراف، وقبلها، من تعرض قوافل الحج والعمرة للسلب والنهب، وقطع الطريق، واضطرار الحجاج والمعتمرين لدفع الإتاوات والضرائب لبعض القبائل، وأشراف مكة، في سبيل تأمين حجهم وعمرتهم وتمكينهم من أداء مناسكهم، فضلًا عن انتشار البدع والمحدثات، واصطحاب المحامل المصرية والشامية وغيرها (قوافل الحج) للمعازف والراقصات، على ما كان معهودًا إبان حكم الدولة العثمانية والأشراف، حتى تأسست الدولة السعودية، وتمكنت من ضم الحجاز، فانقطع بذلك الشر، وعم الخير، وعزّت السنّة، وأُمنت السبل، ورُفعت الضرائب والمكوس، وذُللت الصعاب، فكانت ولايتها للحجاز والحرمين فتحًا عظيمًا للإسلام والمسلمين، شهد به العدو والصديق، والموافق والمخالف، ولولا أنني أكتب هذه المقالة حال سفري، بعيدًا عن مكتبتي، لسقت الشواهد والدلائل والنصوص التاريخية التي تشهد بذلك، وممن أفاض في بيان ذلك: المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي.
ولعلي أكتفي بهذا النقل عنه، حيث يقول –رحمه الله-: (شاع بين الناس أنَّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمعاونة أنصاره من السعوديين مَنَعَ الناس في الشام ومصر عن الحج. والحال ليس كذلك، فإنه لم يمنع أحدًا يأتي إلى الحج على الطريقة المشروعة، وإنما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع التي لا يجيزها الشرع: مثل المحمل والطبل والزمر وحمل الأسلحة. وقد وصل طائفة من الحجاج المغاربة، وحجوا ورجعوا في هذا العام وما قبله، ولم يتعرض لهم أحد بشيء.
ولما امتنعت قوافل الحج المصري والشامي، وانقطع عن أهل المدينة ومكة ما كان يصل إليهم من الصدقات والعلائف والصّرر التي كانوا يتعيشون منها، خرجوا من أوطانهم بأولادهم ونسائهم، ولم يمكث إلاّ الذي ليس له إيرادٌ من ذلك، وأتوا إلى مصر والشام، ومنهم من ذهب إلى اسلامبول يشتكون من الوهابي، ويستغيثون بالدولة في خلاص الحرمين لتعود لهم الحالة التي كانوا عليها من إجراء الأرزاق واتصال الصلات، والنيابات والخدم في الوظائف التي بأسماء الدولة كالفراشة والكناسة ونحو ذلك…). [«تاريخ عجائب الآثار في التراجم والخيار» 3/247]
ولم تزل المملكة العربية السعودية تقوم بهذا العمل الجبار المشكور في خدمة الحجاج والمعتمرين، حتى صارت مضرب المثل، ومعقد العز والفخر.
وما هذا البيان الذي يزعم أصحابه تسييس المملكة للحرمين إلا حلقة من سلسلة محاولات حثيثة لتدويل الحرمين، والسعي لنزع سلطة المملكة العربية السعودية عن ولاية الحرمين ورعاية الحج، حنقًا وغيظًا من قيام المملكة بنشر التوحيد والسنّة، وقمع الشرك البدعة، وكبت أهلها، فإنَّ الحج من أعظم المواسم للدعوة والتعليم، ولم يزل أهل البدع يستغلون مواسم الحج والعمرة في نشر باطلهم، وتعزيز مذاهبهم، وترويج بدعهم، فكانت المملكة سدًّا منيعًا أمام طموحاتهم وأهدافهم، وحصنًا حصينًا لحمى التوحيد والسنّة، فلما قُطع عليهم الطريق، وسُدَّت عليهم السبل، ناصبوها العداء.
والعجيب أنَّ الذي عابه أصحاب البيان على المملكة –بزعمهم-، قد وقعوا أنفسهم فيه، فالبيان سياسي بالدرجة الأولى، وهدفه ظاهر، فإنهم قاموا بتوظيف بعض الأحداث التي ادّعوها، مما لا نحيط علمًا بحقيقتها، ولا نعرف أسبابها وتفاصيلها -إن صحّت-، للطعن في المملكة والتحريض عليها وتشويه سمعتها، على نحو ما اعتادوا القيام به في وسائل التواصل، وفي القنوات الإعلامية وغيرها، فقد عُرف عن كثير منهم نقدُ المملكة، وتتبع عثراتها، والتأليب عليها بشكل مباشر وغير مباشر، وتوظيف الأحداث لتحقيق هذا الغرض، يُخرِجون هذا النقد والعيب والقدح في قالب النصيحة والانتصار للحق والغيرة على الشريعة.
على أنّه لو قُدّر صحة الوقائع التي ذُكرت في البيان، وسلّمنا بحسن نوايا أصحابه، لم تكن الوسيلة التي سلكوها مشروعة، بل تكون من الحق الذي يُراد به الباطل، فإنّ هذا البيان لا يخدم القضية التي يدافع عنها أصحاب البيان، ولا يحقق الهدف الذي يَدَّعون سعيهم لتحقيقه، وإنما يحقق أهدافًا أخرى كالتحريض والتشويه والتأليب، ويخدم أعداء الإسلام، وخصوم التوحيد والسنَّة.
ولا ريب أنَّ مثل هذه الأحداث والوقائع التي ادَّعوها -إن صحَّ وقوعها- لا تُعالج بمثل هذا البيان، فإنَّها أحداث ووقائع لها ارتباطات أمنية وحقوقية، وقد يكون لها تعلق بمواثيق ومعاهدات دولية، وقد يحتف بها من الأسباب والدوافع ما لا يُحاط به، ولا يخفى قيام النبي صلى الله عليه وسلم بردِّ أبي جندل رضي الله عنه إلى المشركين، بعدما تمكن من الفرار منهم، على الرغم من كونه مستضعفًا بينهم، يُعذب على إسلامه، كل ذلك وفاءًا بالعهد الذي أبرمه النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين.
والمقصود أنَّ مثل هذه الوقائع قد تعتريها من الأحداث والأسباب والتفاصيل ما لا يُمكن الاطلاع عليه إلا من خلال التواصل مع المسؤولين، وسلوك القنوات الشرعية والقانونية في ذلك.
ولو قدَّرنا عدم وجود المسوغ الشرعي لتلك الأحداث والوقائع -على فرض وقوعها- فإنَّ المنكر لا يُنكر بما يزيد الشرَّ ويعمم الفساد، وإنما يُنكر بالمعروف، والخطأ لا يُعالج بالخطأ، بل كان الواجب والمتعين حينها سلوك الطرق الشرعية الكفيلة بتحقيق المقصود، وبما يحفظ بيضة الإسلام، ويصون بلادهم ومقدساتهم، ويحفظ أمنهم، ويصون عقيدتهم، ولا يشمّت بهم خصومهم وأعداءهم.
وأما ما أشار إليه أصحاب البيان من قيام المملكة العربية السعودية بمنع بعض الدعاة والشخصيات العلمية والأكاديمية، واستنكارهم هذا المنع، وزعمهم عدم أحقيته وبطلان شرعيته من أصله، فإن إنكارهم لأصل المنع منكرٌ في نفسه، لأنَّ مَنْعَ من يُخشى ضرره وفساده مشروعٌ، بل متعيّن، (والله لا يحب الفساد)، وهذا أصلٌ متقرر في الشرع، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمنع آكل الثوم والبصل من حضور المساجد لتأذي المصلين برائحته، فما كان أشد إيذاءً للمسلمين فهو من باب أولى، وقد أدَّب عمر رضي الله عنه صبيغ بن عسل بسبب إثارته للشبهات، وأرسله إلى العراق، وأمر بهجره وعدم مجالسته حتى تظهر توبته.
فَمَنْعُ من يُخشى ضرره على الناس حال الاختلاط بهم، أمرٌ مشروعٌ في الجملة.
هذا على سبيل التأصيل العام، أما تفصيل المسائل وتفريعها، والكلام على حوادث الأعيان، وتنزيل الأحكام على الوقائع والأحوال، فليس مدار حديثنا وتعليقنا.
ولا ريب أنَّ الحج من مجامع المسلمين العامة، ومن أعظم مواطن التقاء المسلمين واجتماعهم، ولذلك كان ولا يزال الحج من أعظم مواسم الدعوة والتعليم، وفيه يتنافس أهل الخير والشر، أهل الخير في نشر السنّة والتوحيد، وأهل الشر في نشر الشرك والبدعة والضلالة، والمملكة العربية السعودية لها قصب السبق في نشر التوحيد والسنّة، في ربوع الأرض، وأرجاء المعمورة، فضلًا عن موسم الحج والعمرة، وهذا ما حمل أهل البدع، على اختلاف بدعهم وضلالاتهم، على رمي المملكة العرية السعودية عن قوس واحدة، وتسليط سهام النقد والعيب والطعن، والسعي في التأليب والتحريض، والمطالبة بتدويل الحرمين، ومحاولة نزع يد المملكة عن مواسم الحج والعمرة، حتى يتهيأ لهم الجو لنشر بدعهم وضلالاتهم، وما هذا البيان هو وسيلة من وسائلهم لتحقيق أغراضهم.
هذا ما أحببت بيانه والتعليق عليه على عجل واختصار، والله أسأل أن يهدي المسلمين ويصلح أحوالهم، وأن ينصر السنّة ويعزّ أهلها، وأن يوفق ولاة المملكة العربية السعودية لما يحب ويرضى، وأن يجزيهم خيرًا على ما يقومون به من خدمة الحجاج ورعاية الحرمين، وأن يحفظ أمن المملكة وسائر بلاد المسلمين.
والله أعلم وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.