الحمد لله والصلاة والسلام على رسول وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،،
فهذه رسالة مختصرة حول أحكام الجهل بمسائل التوحيد وما يتعلق بذلك، دعاني لكتابتها ما استشعرته من استشكالٍ عند بعض الطلبة حول هذا الموضوع المهم.
وقد تكلم العلماء حول هذه المسألة وبينوها بياناً شافياً لاسيما أئمة الدعوة النجدية إلى عصرنا هذا، إذ أن صراعهم مع الناس كان منصباً حول مسائل التوحيد والشرك، فلذلك كان كلامهم في تقرير مثل هذه المسائل أكثر من غيرهم، كما كان لشيخ الإسلام وابن القيم نصيبٌ وافرٌ من الكلام حول هذه المسائل لظهور الشرك في الأعصار المتأخرة وانتشاره مع ظهور التصوف والرفض وعبادة الأولياء.
وقد خاض بعض الباحثين في هذه المسائل وتكلموا بمعزلٍ عن الدليل، وبجهل بمواقع الخطاب ومقاصد العلماء، فجاءوا بأصول مخالفة لما درج عليه العلماء، وصاروا يتكلمون في عذر أهل الشرك وعبدة القبور والأولياء ممن يعيشون بين أوساط المسلمين، ويسمعون داعي التوحيد، والقرآن بين أيديهم، وهم متمكنون من العلم وقد تهيأت لهم أسبابه، إلا أنهم معرضون عن تدبر القرآن وتفهمه، إما استكباراً عن الانقياد لأهل الحق، وإما اتباعاً للآباء والأجداد وما ألفوه، وإما اشتغالاً بالدنيا عن أصل الدين وأساسه.
قال الشيخ صالح آل الشيخ: (وهنا خاض قوم من المعاصرين خوضاً سيئاً في منهج الدعوة، هل كان منهج دعوة الشيخ محمد وأئمة الدعوة هل كانوا يعذرون بالجهل أو لا يعذرون بالجهل؟ ونحو ذلك من الألفاظ، وهذه لم تكن أصلاً عندهم بهذا اللفظ؛ نعذره بالجهل أو لا نعذره، وإنما كانت المسألة مرتبطة بأصل شرعي آخر وهي: هل بلغته الحجة؟ أو لم تبلغه الحجة؟ والحجة المناسبة وغير المناسبة) ا. هـ [محاضرة منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب في العقيدة]
وقد قسمت هذا البحث إلى مسائل حاولت من خلالها توضيح هذه المسألة، واكتفيت في كل مسألة بنقل ما يُحصّل المقصود ويبيّن المراد من نصوص بعض الأئمة، ولم أرد الاستيعاب وإلا لطال المقام، وبحمد الله فإن كتب العلماء قد استفاضت في ذكر هذه المسائل لا سيما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأئمة الدعوة النجدية بما لا مزيد عليه.
المسألة الأولى:
أمور الدين تنقسم إلى مسائل ظاهرة ومسائل خفية
أمور الدين ليست على حد سواء، فمنها أمور ظاهرة معلومة من الدين ضرورة كمسائل التوحيد ومعرفة الله – تعالى -بصفاته، ومنها مسائل قد تخفى على بعض الناس كدقيق الصفات ومسائل الرؤية ونحو ذلك. فالجهل في الأمور الظاهرة يختلف عن الجهل في الأمور الخفية.
ومن أعظم المسائل الظاهرة المعلومة من الدين ضرورة توحيد الله – تعالى -وإفراده بالعبادة، فإن العبد مفطور على معرفة الله – تعالى -والإقرار بربوبيته وألوهيته، والله – تعالى -قد أوضحه في كتابه، وبيّنه النبي – صلى الله عليه وسلم – بياناً شافياً قاطعاً للعذر، إذ هو زبدة الرسالة وأساس الملة وركن الدين الأعظم.
قال – تعالى – (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الروم: 30]
وقال – تعالى – (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)[الأعراف: 172-173]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان دلالة الفطرة على توحيد الله – تعالى -وإبطال الشرك: (جميع بني آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق وهو مما خلقوا عليه وجبلوا عليه وجعل علما ضروريا لهم لا يمكن أحدا جحده.
ثم قال بعد ذلك: (أن تقولوا)أي كراهة أن تقولوا ولئلا تقولوا: (إنا كنا عن هذا غافلين)عن الإقرار لله بالربوبية وعلى نفوسنا بالعبودية، فإنهم كانوا غافلين عن هذا، بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم التي لم يخل منها بشر قط بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم من علوم العدد والحساب وغير ذلك فإنها إذا تصورت كانت علوما ضرورية لكن كثير من الناس غافل عنها.
وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه، بل لا بد أن يكون قد عرفه، وإن قُدِّر أنه نسيه، ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيراً فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية قد ينساها العبد….
إلى أن قال: (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد:
إحداهما: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل.
والثاني: (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم)فهذا حجة لدفع الشرك، كما أن الأول حجة لدفع التعطيل، فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه، والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم.
وقوله: (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون): وهم آباؤنا المشركون وتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ وذلك لأنه قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم.
فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية.
كما قال صلى الله عليه سلم: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)) فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها، وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا.
هذا لا يناقض قوله – تعالى -: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فإن الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله – تعالى -في تصديق رسله، فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلاً، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذوراً في التعطيل، ولا الإشراك، بل قام به ما يستحق به العذاب.
ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال رسول إليهم وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب، والرب – تعالى -مع هذا لم يكن معذباً لهم حتى يبعث إليهم رسولاً) ا. هـ [درء التعارض 4/332]
وقال الطبري: (ثم لن يعدوا جميع أمور الدين- الذي امتحن الله به عباده معنيين:
أحدهما: توحيد الله وعدله.
والآخر: شرائعه التي شرعها لخلقه من حلال وحرام وأقضية وأحكام.
فأما توحيده وعدله فمدركة حقيقة علمه استدلالاً بما أدركته الحواس، وأما شرائعه فمدركة حقيقة علم بعضها حساً بالسمع، وعلم بعضها استدلالاً بما أدركته حاسة السمع.
ثم القول فيما أدركت حقيقة علمه منه استدلالاً على وجهين:
أحدهما: معذور فيه بالخطأ والمخطئ، ومأجور فيه على الاجتهاد والفحص والطلب،…
والآخر منهما غير معذور بالخطأ فيه مكلف قد بلغ حد الأمر والنهي، ومكفَّرٌ به الجاهل، وذلك ما كانت الأدلة على صحته متفقة غير مفترقة، ومؤتلفة غير مختلفة، وهي مع ذلك ظاهرة للحواس،…
وأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف لوجود الأدلة متفقة عليه غير مختلفة، ظاهرة للحس غير خفية، فتوحيد الله – تعالى -ذكره، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله….) ا. هـ [التبصير في معالم الدين ص112-118]
وعلى هذا فالجهل بأمور التوحيد ليس كالجهل بغيرها من المسائل ولو كانت من العقائد، لأن الفطرة شاهدة بذلك دالة عليه.
وفي الحديث القدسي:((خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)) [مسلم 2865]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن رؤوس المتكلمين: (وقد يحصل لبعضهم إيمان ونفاق ويكون مرتداً: إما عن أصل الدين أو بعض شرائعه، إما ردة نفاق وإما ردة كفر، وهذا كثير غالب؛ لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق، فهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقال.
وإذا كان في المقالات الخفية فقد يُقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمداً بُعث بها، وكفَّر من خالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله: من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك. ثم تجد كثيرا من رءوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون) ا. هـ [مجموع الفتاوى 17/54]
وقال أيضاً: (مسألة: «فمن جحد وجوبها بجهله عرف ذلك وأن جحدها عنادا كفر».
هذا أصل مضطرد في مباني الإسلام الخمسة وفي جميع الأحكام الظاهرة المجمع عليها من مكلف إن كان الجاحد لذلك معذوراً، مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو قد نشأ ببادية هي مظنة الجهل بذلك لم يكفر حتى يُعَرَّف أن هذا دين الإسلام، لأن أحكام الكفر والتأديب لا تثبت إلا بعد بلوغ الرسالة، لا سيما فيما لا يُعلم بمجرد العقل قال الله – تعالى -: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وقال – تعالى -: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقال- تعالى-:(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً) وقال – تعالى -:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) وقال – تعالى -:(لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) فالإنذار لمن بلغه القرآن بلفظه أو معناه فإذا بلغته الرسالة بواسطة أو بغير واسطة قامت عليه الحجة وانقطع عذره.
فأما الناشئ بديار الإسلام ممن يعلم أنه قد بلغته هذه الأحكام فلا يقبل قوله أي: لم أعلم ذلك، ويكون ممن جحد وجوبها بعد أن بلغه العلم في ذلك، فيكون كافراً كفراً ينقل عن الملة) ا. هـ [شرح العمدة ص51]
وقال ابن القيم: (وقوله: «حيثما مررت بقبر كافر فقل: أرسلني إليك محمد» هذا إرسال تقريع وتوبيخ لا تبليغ أمر ونهي، وفيه دليل على سماع أصحاب أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم، ودليل على أن من مات مشركاً فهو في النار وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوماً من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرناً بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان – سبحانه – لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل والله أعلم) ا. هـ [زاد المعاد 3/588]
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب بعدما نقل كلام ابن تيمية السابق في التفريق بين المقالات الظاهرة والخفية: (فانظر كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية، وبين ما نحن فيه، في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤوسهم، فلاناً وفلاناً بأعيانهم، وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام، مع كونه عند علمائكم من الأئمة الأربعة؛ هل يناسب هذا لما فهمت من كلامه أن المعين لا يكفر، ولو دعا عبد القادر في الرخاء والشدة، ولو أحب عبد الله بن عون، وزعم أن دينه حسن، مع عبادته أبي حديد) ا. هـ [الدرر السنية 10/71]
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بعد نقل كلام ابن تيمية أيضاً: (فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية، والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية التي هي كفر: «قد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها»، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة؛ بل قال: «ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين»، فحكم بردتهم مطلقاً، ولم يتوقف في الجاهل فكلامه ظاهر في التفرقة بين الأمور المكفرة الخفية، كالجهل ببعض الصفات ونحوها، فلا يكفر بها الجاهل، كقوله للجهمية: «أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال»، وقال فيمن ارتكب بعض أنواع الشرك جهلاً، «لم يمكن تكفيرهم حتى يُبيّن لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه سلم »، ولم يقل: لم يمكن تكفيرهم، لأنهم جهال، كما قال في المنكر لبعض الصفات جهلاً؛ بل قال: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه سلم فلم ينتهوا، أو إن كانوا جهالاً) ا. هـ [الدرر السنية 10/355]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في معرض رده على من لم يحكم بالكفر في المسائل الظاهرة بالشبهة ببعض كلام ابن تيمية: (بل عبارته صريحة في إبطال هذا المفهوم، فإنها تفيد قلة ذلك، كما في المسائل التي لا يعرفها إلا الآحاد، بخلاف محل النزاع أي مسائل التوحيد- فإنه أصل الإسلام وقاعدته، ولو لم يكن من الأدلة إلا ما أقرّ به من يعبد الأولياء والصالحين من ربوبيته – تعالى -، وانفراده بالخلق والإيجاد والتدبير لكفى به دليلاً مُبطلاً للشبهة، كاشفاً لها، منكراً لمن أعرض عنه ولم يعمل بمقتضاه من عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك حَكَم على المعينين من المشركين في جاهلة العرب الأميين لوضوح الأدلة وظهور البراهين. وفي حديث المنتفق:((ما مررت عليه من قبر دوسي أو قرشي فقل له: إن محمداً يبشرك بالنار))، هذا وهم أهل فترة، فكيف بمن نشأ من هذه الأمة وهو يسمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأحكام الفقهية في إيجاب التوحيد والأمر به، وتحريم الشرك والنهي عنه؟ فإن كان ممن يقرأ القرآن فالأمر أعظم وأطم…) ا. هـ [منهاج التأسيس ص102]
وقال الشيخ سليمان بن سحمان:(وبهذا تعلم غلط هذا العراقي، وكذبه على شيخ الإسلام، وعلى الصحابة والتابعين في عدم تكفير غلاة القدرية وغلاة المعتزلة، وغلاة المرجئة، وغلاة الجهمية، والرافضة. فإن الصادر من هؤلاء كان في مسائل ظاهرة جلية، وفيما يعلم بالضرورة من الدين، وأما من دخل عليه من أهل السنَّة بعض أقوال هؤلاء، وخاض فيما خاضوا فيه من المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، أو من كان من أهل الأهواء من غير غلاتهم، بل من قلدهم وحسن الظن بأقوالهم من غير نظر ولا بحث فهؤلاء هم الذين توقف السلف والأئمة في تكفيرهم، لاحتمال وجود مانع بالجهل، وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته قبل قيام الحجة عليهم، وأما إذا قامت الحجة عليهم، فهذا لا يتوقف في كفر قائله. ) ا. هـ [الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق ص383]
المسألة الثانية:
قيام الحجة الرسالية شرطٌ في الحكم بالكفر على الباطن، أما الظاهر فيُحكم بالشرك على كل من تلبّس به
الأصل في الحكم في الدنيا أن يكون على الظواهر، وأما البواطن فالله أعلم بها.
قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في الحديث المتفق: (إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه سلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة).
فكل من أبدى أمراً من كفرٍ أو فسقٍ حُكم عليه به، وهذا قاعدة أهل السنَّة. لا سيما في مسائل التوحيد التي يختلف العذر بالجهل بها عن غيرها من مسائل الدين الخفية.
قال ابن القيم: (والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل، فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عناداً أو جهلاً وتقليداً لأهل العناد…
إلى أن قال: (الله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا فذلك ما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله – سبحانه وتعالى – لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم، وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة) ا. هـ [طريق الهجرتين ص608-610]
وعلى هذا فكل من ظهر منه شرك في العبادة فإنه يُحكم عليه به بعينه ظاهراً، لأن الأصل أننا نحكم على الظواهر، وأما البواطن فلا يحكم بها عليه إلا بعد قيام الحجة الرسالية.
قال – تعالى – (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
فمن أقيمت عليه الحجة الرسالية حُكم بكفره باطناً وظاهراً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإن الكتاب والسنَّة قد دل على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأساً، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية. وذلك مثل قوله – تعالى -(لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)… ) ا. هـ [مجموع الفتاوى 12/493]
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب: (أما ما ذكره الأعداء عني، أني أكفر بالظن وبالموالاة، أو أكفِّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله) ا. هـ [مجموع مؤلفات الإمام 5/25]
وسئل الشيخ حسين والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، – رحمهم الله -: عمن مات قبل هذه الدعوة ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم، يفعلها ولم تقم عليه الحجة، ما الحكم فيه؟ وهل يسب ويلعن أو يكف عنه؟ وهل يجوز لولده الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة، ومن أدركها ومات معادياً لهذا الدين وأهله؟
فأجابا: من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه: أنه إذا كان معروفاً بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك، فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له، ولا يضحى عنه، ولا يتصدق عنه، وأما حقيقة أمره فإلى الله: فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند، فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة، فأمره إلى الله) ا. هـ [الدرر السنية 6/162]
وقال الشيخ صالح آل الشيخ: (فإن المتلبس بالشرك يُقال له مشرك سواءً أكان عالما أم كان جاهلاً، والحكم عليه بالكفر يتنوع:
فإن أُقيمت عليه الحجة؛ الحجة الرسالية من خبير بها ليزيل عنه الشبهة وليُفهمه بحدود ما أنزل الله على رسوله التوحيد وبيان الشرك فتَرَك ذلك مع إقامة الحجة عليه فإنه يُعدّ كافرا ظاهراً وباطناً.
وأما المعرض فهنا يعامل في الظاهر معاملة الكافر، وأما باطنه فإنه لا نحكم عليه بالكفر الباطن إلا بعد قيام الحجة عليه؛ لأنه من المتقرر عند العلماء أن من تلبس بالزنا فهو زان، وقد يؤاخذ وقد لا يؤاخذ، إذا كان عالماً بحرمة الزنا فزنى فهو مؤاخذ، وإذا كان أسلم للتو وزنى غير عالم أنه محرم فالاسم باق عليه؛ لكن -يعني اسم الزنا باق أنه زانٍ واسم الزنا عليه باق- لكن لا يؤاخذ بذلك لعدم علمه.
وهذا هو الجمع بين ما ورد في هذا الباب من أقوال مختلفة.
فإذن يفرق في هذا الباب بين الكفر الظاهر والباطن، والأصل أنه لا يُكَفَّر أحد إلا بعد قيام الحجة عليه لقول الله – جل وعلا – (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، والعذاب هنا إنما يكون بعد إقامة الحجة على العبد في الدنيا أو في الآخرة، قد يُعامل معاملة الكافر استبراء للدين وحفظاً له، من جهة الاستغفار له، ومن جهة عدم التضحية له، وألاّ يزوج وأشباه ذلك من الأحكام) ا. هـ [شرح كشف الشبهات]
وعلى هذا فالحكم بكفر من وقع في الشرك عيناً لا يتوقف على قيام الحجة، وإنما الذي يتوقف على قيام الحجة هو الحكم على البواطن، فيكون كافراً ظاهراً وباطناً.
قال كل من الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: (وأما قوله: نقول بأن القول كفر، ولا نحكم بكفر القائل; فإطلاق هذا جهل صرف، لأن هذه العبارة لا تنطبق إلا على المعين، ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة، إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين، إذا قال ذلك لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
وهذا في المسائل الخفية، التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية، من رد أدلة الكتاب والسنَّة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم العلم بنقض النص، أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها؛ ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه في كثير من كتبه.
وذكر أيضا تكفير أناس من أعيان المتكلمين، بعد أن قرر هذه المسألة، قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية، فقد يقال بعدم التكفير؛ وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة، فهذا لا يتوقف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة، تدفع بها في نحر من كفر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات، بعد بلوغ الحجة ووضوح المحجة) ا. هـ [الدرر السنية 10/432]
وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: (نقول: من كان من أهل الجاهلية، عاملاً بالإسلام، تاركاً للشرك، فهو مسلم، وأما من كان يعبد الأوثان، ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين، فهذا ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية، لجهله وعدم من ينبهه، لأنا نحكم على الظاهر، وأما الحكم على الباطن فذلك إلى الله، والله – تعالى -لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال – تعالى -: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
وأما من مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرض له، ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به، )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(فمن كان منهم مسلما أدخله الله الجنة، ومن كان كافرا أدخله الله النار، ومن كان منهم لم تبلغه الدعوة، فأمره إلى الله؛ وقد علمت الخلاف في أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الحجة الرسالية) ا. هـ [الدرر السنية 7/145]
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: (كل من فعل اليوم ذلك عند هذه المشاهد، فهو مشرك كافر بلا شك، بدلالة الكتاب والسنَّة والإجماع؛ ونحن نعلم أن من فعل ذلك ممن ينتسب إلى الإسلام، أنه لم يوقعهم في ذلك إلا الجهل، فلو علموا أن ذلك يبعد عن الله غاية الإبعاد، وأنه من الشرك الذي حرمه الله، لم يقدموا عليه، فكفرهم جميع العلماء، ولم يعذروهم بالجهل، كما يقول بعض الضالين: إن هؤلاء معذورون لأنهم جهال.
وهذا قول على الله بغير علم، معارض بمثل قوله – تعالى -:(فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)الآية، (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً)الآيتين. ) ا. هـ [الدرر السنية 10/404]
وقال أيضاً: (ما سألت عنه، من أنه هل يجوز تعيين إنسان بعينه بالكفر، إذا ارتكب شيئاً من المكفرات، فالأمر الذي دل عليه الكتاب والسنَّة وإجماع العلماء على أنه كفر، مثل الشرك بعبادة غير الله – سبحانه -، فمن ارتكب شيئاً من هذا النوع أو جنسه، فهذا لا شك في كفره.
ولا بأس بمن تحققت منه شيئاً من ذلك، أن تقول: كفر فلان بهذا الفعل،…. ولا مانع من تكفير من اتصف بذلك، كما أن من زنى قيل: فلان زان، ومن رابى: قيل: فلان مراب) ا. هـ [الدرر السنية 10/416]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (وأما الكلام في تكفير المعين، فالمقصور به مسائل مخصوصة قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية من ردّ أدلة الكتاب والسنَّة المتواترة النبوية، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يُحكم على قائله بالكفر لاحتمال وجود مانع، كالجهل وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها. ولذلك ذكر هذا أي ابن تيمية- في الكلام على بدع أهل الأهواء، وقد نص على هذا، فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين بعد أن قرر هذه المسألة: «وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يُقال بعد التكفير، وأم ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يُعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يُتوقف في كفر قائله») ا. هـ [منهاج التأسيس ص101]
وقال الشيخ سليمان بن سحمان: (الوهابية لا يكفرون إلا من كفره الله ورسوله، وقامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، ولا يلزم من تكفير من قام به الكفر وقامت عليه الحجة تكفير جميع المسلمين، فإن هذا من اللوازم الباطلة، والأقوال الداحضة.
وأما تكفير الشخص المعين، فلا مانع من تكفيره إذا صدر منه ما يوجب تكفيره فإن عبادة الله وحده لا شريك له من الأمور الضرورية المعلومة من دين الإسلام، فمن بلغته دعوة الرسول، وبلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة.
وأما الأمور التي لا يكفر فاعلها مما ليس معلوماً بالضرورة من دين الإسلام، بل في الأمور الخفية فهذا لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة، لأن هذا إنما هو في المسائل النظرية والاجتهادية التي قد يخفى دليلها.
وأما عباد القبور، فهم عند السلف وأهل العلم يسمون الغالية، لأن فعلهم غلو، يشبه غلو النصارى في الأنبياء والصالحين، وعبادتهم. ) [الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق ص652]
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: (مسألة تكفير المعين: من الناس من يقول: لا يكفر المعين أبداً، ويستدل هؤلاء بأشياء من كلام ابن تيمية غلطوا في فهمها، وأظنهم لا يُكفِّرون إلا من نص القرآن على كفره كفرعون. والنصوص لا تجيء بتعيين كل أحد، يدرس باب «حكم المرتد» ولا يطبق على أحد، هذه ضلالة عمياء وجهالة كبرى، بل يطبق بشرط.
ثم الذين توقفوا المعين في الأشياء التي قد يخفى دليلها فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة، فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر، سواء فهم أو قال: ما فهمت، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد.
وأما ما علم بالضرورة أن الرسول جاء به وخالفه فهذا يكفر بمجرد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريف، سواء في الأصول أو الفروع ما لم يكن حديث عهد بإسلام.
والقسم الثالث أشياء تكون غامضة فهذا لا يكفر الشخص فيها ولو بعدما أقيمت عليه الأدلة، وسواء كانت في الفروع أو الأصول، ومن أمثلة ذلك الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه إذا مات) ا. هـ [مجموع فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم 1/73]
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لمن سأله عن أبيه: ((إن أباك في النار))، فلما رأى تغير وجهه قال: ((إن أبي وأباك في النار)). وأبوه مات في الجاهلية، رواه مسلم في الصحيح؛ لأنهم كانوا على شريعة تلقوها عن خليل الله إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – وهي التوحيد، وأمه – عليه الصلاة والسلام – ماتت في الجاهلية، واستأذن ربه أن يستغفر لها، فلم يؤذن له، واستأذن أن يزورها فأذن له، فدل ذلك على أن من مات على كفر لا يستغفر له ولا يدعى له، وإن كان في الجاهلية، فكيف إذا كان بين المسلمين، وبين أهل التوحيد، وبين من يقرأ القرآن، ويسمع أحاديث الرسول، هو أولى بأن يقال في حقه: إنه كافر وله حكم الكفار) ا. هـ [فتاوى نور على الدرب 1/241]
وقال الشيخ صالح آل الشيخ: (من قام به الشرك فهو مشرك، الشرك الأكبر من قام به فهو مشرك، وإنما إقامة الحجة شرط في وجوب العداء، كما أن اليهود والنصارى نسميهم كفار، هم كفار ولو لم يسمعوا بالنبي أصلا، كذلك أهل الأوثان والقبور ونحو ذلك من قام به الشرك فهو مشرك، وترتَّب عليه أحكام المشركين في الدنيا، أما إذا كان لم تقم عليه الحجة فهو ليس مقطوعا له بالنار إذا مات، وإنما موقوف أمره حتى تقام عليه الحجة بين يدي الله – جل وعلا -.
فإذن فرقٌ بين شرطنا لإقامة الحجة، وبين الامتناع من الحكم بالشرك، من قام به الشرك الأكبر فهو مشرك ترتب عليه آثار ذلك الدنيوية، أنه لا يستغفر له ولا تؤكل ذبيحته ولا يضحى له ونحو ذلك من الأحكام، وأما الحكم عليه بالكفر الظاهر والباطن فهذا موقوف حتى تقام عليه الحجة، فإن لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله – جل وعلا -.
هذا تحقيق كلام أهل العلم في هذه المسألة وهي مسألة مشهورة دقيقة موسومة بمسألة العذر بالجهل). [شرح مسائل الجاهلية/ الشريط الرابع]
وقال في موضع آخر:(فإن المتلبس بالشرك يُقال له مشرك سواءً أكان عالما أم كان جاهلا، والحكم عليه بالكفر يتنوع:
فإن أُقيمت عليه الحجة؛ الحجة الرسالية من خبير بها ليزيل عنه الشبهة وليُفهمه بحدود ما أنزل الله على رسوله التوحيد وبيان الشرك فترك ذلك مع إقامة الحجة عليه فإنه يعد كافرا ظاهراً وباطناً.
وأما المعرض فهنا يعمل في الظاهر معاملة الكافر، وأما باطنه فإنه لا نحكم عليه بالكفر الباطن إلا بعد قيام الحجة عليه؛ لأنه من المتقرر عند العلماء أن من تلبس بالزنا فهو زان، وقد يؤاخذ وقد لا يؤاخذ، إذا كان عالماً بحرمة الزنا فزنى فهو مؤاخذ، وإذا كان أسلم للتو وزنى غير عالم أنه محرم فالاسم باق عليه؛ لكن -يعني اسم الزنا باق أنه زانٍ واسم الزنا عليه باق- لكن لا يؤاخذ بذلك لعدم علمه.
وهذا هو الجمع بين ما ورد في هذا الباب من أقوال مختلفة.
فإذن يفرق في هذا الباب بين الكفر الظاهر والباطن، والأصل أنه لا يُكَفَّر أحد إلا بعد قيام الحجة عليه لقول الله – جل وعلا – (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، والعذاب هنا إنما يكون بعد إقامة الحجة على العبد في الدنيا أو في الآخرة، قد يُعامل معاملة الكافر استبراء للدين وحفظاً له، من جهة الاستغفار له، ومن جهة عدم التضحية له، وألاّ يزوج وأشباه ذلك من الأحكام) ا. هـ [شرح كشف الشبهات]
وقال أيضاً: (فهناك أحكام دنيوية وهناك أحكام أخروية، فأحكام الدنيا بحسب الظاهر وأحكام الآخرة بحسب الظاهر والباطن، والعباد ليس عليهم إلا الظاهر، وربنا – جل وعلا – يتولى السرائر. فإذا أظهر طائفة كفراً أو معين كفراً فإنه يكفره العالم إذا قامت الشروط وانتفت الموانع يكفره بعينه، ومن قام به الكفر أو قام به الشرك سواء كان معذوراً أو غير معذور؛ يعني لم تقم به الحجة فهو كافر ومشرك ظاهراً.
فإذن من قام به الشرك فهو مشرك؛ لأن كل مولود ولد على الفطرة، والله – جل وعلا – أقام الدلائل على وحدانيته في الأنفس وفي الآفاق، وهذه الدلائل حجة على المرء في أنه لا يعذر في أحكام الدنيا بارتكاب الكفر والشرك؛ نعني بأحكام الدنيا ما يتعلق بالمكلف من حيث علاقته بهذا الذي قام به هذا الشرك، من جهة الاستغفار له والأضحية عنه ونحو ذلك.
أما الأشياء التي مرجعها إلى الإمام مثل استحلال الدم والمال والقتال ونحو ذلك فهذه إنما تكون بعد الإعذار وقيام الحجة.
فهناك شيء متعلق بالمكلف من حيث هو هناك شيء يتعلق بالإمام.
فإذن صار عندنا أشياء متعلقة بالظاهر، وأخرى بالباطن، الباطن يتبعه بعض أحكام الدنيا كالاقتتال ونحو ذلك بعد إقامة الحجة والباطن يتبعه الأحكام الأخروية لقوله – جل وعلا – (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، لهذا أجمع أهل العلم على أن أهل الفَتْرة كفار مشركون لا يوصفون بإسلام) ا. هـ [شريط بعنوان «الإيمان»]
تنبيه: ومما ينبغي التنبيه عليه أن العلماء متفقون على أن من تلبّس بالشرك فإنه لا يُحكم له بإسلام ولا يُسمى مسلماً سواء بلغته الحجة أو لم تبلغه، فمن بلغته الحجة فلا يُتوقف في الحكم عليه بالشرك، وإنما الخلاف فيمن لم تقم عليه الحجة هل يُطلق عليه الشرك؟
فقال بعضهم: نسميه مشركاً لوقوعه فيه، وقال بعضهم لا نقول هو مسلم ولا مشرك بل نقول هو من أهل الفترة.
قال ابن القيم: (فالمعرض عن التوحيد مشركٌ شاء أو أبى) ا. هـ [إغاثة اللهفان 1/214]
وقال الشيخ محمد بن علي بن غريب -وهو من تلاميذ إمام الدعوة-: (وإذا فُقد العمل بمعنى هذه الكلمة الطيبة -كلمة التوحيد- ووجد العمل بضدها الشامل للقول أو الاعتقاد عُدمت بالكلية وإن تلفظ بها وقالها باللسان، إذ لا يجتمع متضادان في شيء واحد، والمُثبت له الإسلام في هذه الحالة جامعٌ بين النقيضين، وهو غير ممكن) [التوضيح لتوحيد الخلاق في جواب أهل العراق ص147]
وقال أيضاً: (وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا:
أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني: مُعرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي.
والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه، ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز، وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق، فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزاً وجهلاً، والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض) ا. هـ [طريق الهجرتين ص609]
وقال أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحمد بن ناصر بن معمر: (إذا كان يعمل بالكفر والشرك وعدم من ينبهه، لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن لا نحكم بأنه مسلم، بل نقول عمله كفر يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يُقال إن لم يكن كافراً فهو مسلم، بل نقول: عمله عمل الكفار، وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية، وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفترات يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمه حكم الكفار، ولا حكم الأبرار) ا. هـ [الدرر السنية 10/136]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (إن ابن القيم – رحمه الله – جزم بكفر المقلدين لشيوخهم في المسائل المكفرة إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته، وتأهلوا لذلك، فأعرضوا ولم يلتفتوا. ومن لم يتمكن ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل فهو عنده من جنس أهل الفترة ممن لم تبلغه دعوة رسول من الرسل. وكلا النوعين لا يُحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مسمى المسلمين، حتى عند من لم يُكفِّر بعضهم وسيأتيك كلامه، وأما الشرك فهو يصدق عليهم، واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله وقاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله، وبقاء الإسرم ومسماه مع بعض ما ذكر الفقهاء في باب حكم المرتد أظهر من بقائه مع عبادة الصالحين ودعائهم) ا. هـ [منهاج التأسيس ص99]
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (كل من كان بين المسلمين أو بلغه القرآن أو السنَّة فقد قامت عليه الحجة، فالواجب عليه التفقه والسؤال والتعلم حتى تبرأ ذمته، وحتى يكون على بصيرة، أما من كان في بلاد بعيدة لم يبلغه القرآن ولا السنَّة، فهذا يقال له: من أهل الفترة، حكمه حكم أهل الفترة، ليس بمسلم ولا كافر، بل هو من أهل الفترة، موقوف أمره إلى يوم القيامة، يُمتحن يوم القيامة فإن أجاب دخل الجنة، وإن عصى دخل النار، لأنه لم تبلغه الدعوة، وأما من كان بين المسلمين، قد سمع القرآن وسمع السنَّة وعنده العلماء ثم يُعرض ولا يتبصر فهذا غير معذور) ا. هـ [فتاوى نور على الدرب 1/259]
المسألة الثالثة
بم تقوم الحجة على تارك التوحيد؟
كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يُقيم الحجة على المشركين بالقرآن.
قال – تعالى – (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام: 19]
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه سلم أنه قال:((والذي نفسي محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) [مسلم 384]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه كقوله)لأنذركم به ومن بلغ(فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت عليه الحجة بما بلغه دون ما لم يبلغه) ا. هـ [الجواب الصحيح 2/293]
وقال أيضاً: (وقال – تعالى -: (لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)فالإنذار لمن بلغه القرآن بلفظه أو معناه فإذا بلغته الرسالة بواسطة أو بغير واسطة قامت عليه الحجة وانقطع عذره) ا. هـ [شرح العمدة ص51]
وقال أيضاً: (إن أصول الدين إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها ويجب أن تذكر قولاً أو تعمل عملاً كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد، أو دلائل هذه، أما القسم الأول فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته واعتقاده والتصديق به من هذه المسائل فقد بيَّنه الله ورسوله بياناً شافياً قاطعاً للعذر، إذ هذا من أعظم ما بلَّغه الرسول البلاغ المبين، وبيَّنه للناس، وهو من أعظم ما أقام الله الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه، وكتاب الله الذي نقل الصحابة ثم التابعون عن الرسول لفظه ومعانيه، والحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه سلم التي نقلوها أيضاً عن الرسول مشتملة من ذلك على غاية المراد وتمام الواجب والمستحب) ا. هـ [درء التعارض 1/27]
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب: (وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة) ا. هـ [الدرر السنية 13/90]
فكل من بلغه القرآن وهو يفهمه فقد بلغته حجة الله – تعالى -على عباده، أو بلغته دعوة التوحيد والتحذير من الشرك وسمع بمن يدعو إلى لذلك فلم يكترث لهذا الداعي ولم يتدبر القرآن ويتفهمه، بل أعرض عن ذلك اتباعاً لما ألفه، أو بغضاً لمن دعاه، أو اشتغالاً بدنياه، أو لطروء شبهة ونحو ذلك، فإنه لا يُعذر بالشرك وبترك التوحيد لوضوح الحجة والبراهين ولدلالة الفطرة.
قال – تعالى – (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا) [الكهف: 57]
فكل من تمكن من العلم لكنه أعرض عنه لأمر ما، فقد بلغته الحجة ووضحت له المحجة، إذ ليس من شرط الرسل وأتباعهم إيصال رسالتهم وأمرهم ونهيهم إلى كل مكلف في العالم بعينه، بل الواجب تبليغ الدين والدعوة بحيث يتمكن منه من أراده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم، إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة، فكيف يشترط فيما هو من توابعها؟ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم، ثم إذا فرّطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه كان التفريط منهم لا منه) ا. هـ [مجموع الفتاوى 28/125]
وقال ابن القيم: (لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان في الوجود، فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان….
إلى أن قال: الأصل الثاني أن العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها، الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.. ) ا. هـ [طريق الهجرتين ص611]
وقال القرافي: (القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف رفعه لا يكون حجة للجاهل، فإن الله – تعالى -بعث رسله إلى خلقه برسائله، وأوجب عليهم كافة أن يعلموها ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلاً فقد عصى معصيتين؛ لتركه واجبين، وإن علم ولم يعمل فقد عصى معصية واحدة بترك العمل، ومن علم وعمل فقد نجا) ا. هـ [الفروق 4/408]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (فإن النزاع فيمن قامت عليه الحجة، وعرف التوحيد، ثم تبيَّن في عداوته ومسبته وردِّه، كما فعل هذا العراقي، أو أعرض عنه فلم يرفع به رأساً، كحال جمهور عباد القبور ولم يعلم، ولكن تمكن من العلم ومعرفة الهدى، فأخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولم يلتفت إلى ما جاءت به الرسل ولا اهتم به) ا. هـ [منهاج التأسيس ص222]
وقال أيضاً: (أما من أعرض عن الهدى ودين الحق، ولم يرفع به رأساً بعد معرفته، او مع تمكنه من معرفته، فالأدلة القرآنية والأحاديث النبوية دالة على دخول هؤلاء في الوعيد. قال – تعالى – (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى123 وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ) ا. هـ [منهاج التأسيس ص227]
وقال الشيخ ابن عثيمين: (فإن كان جاهلاً لم يكفر. لقوله – تعالى -:(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً). وقوله: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) وقوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً).
لكن إن فرط بترك التعلم والتبيّن لم يعذر، مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت، ولا يبحث فإنه لا يكون معذوراً حينئذ) ا. هـ [مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين 2/126]
وقال أيضاً: (فالجهال بما يُكفِّر وبما يُفسِّق إما أن لا يكون منهم تفريط وليس على بالهم إلا أن هذا العمل مباح فهؤلاء يعذرون، ولكن يدعون للحق فإن أصروا حكم عليهم بما يقتضيه هذا الإصرار، وأما إذا كان الإنسان يسمع أن هذا محرم أو أن هذا مؤدٍّ للشرك ولكنه تهاون أو استكبر فهذا لا يعذر بجهله. ) ا. هـ [مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين 2/127]
وقال أيضاً: (يجب أن نعلم أن من الجهلة من يكون عنده نوع من العناد، أي أنه يذكر له الحق ولكنه لا يبحث عنه، ولا يتبعه، بل يكون على ما كان عليه أشياخه، ومن يعظمهم ويتبعهم، وهذا في الحقيقة ليس بمعذور، لأنه قد بلغه من الحجة ما أدنى أحواله أن يكون شبهة يحتاج أن يبحث ليتبين له الحق، وهذا الذي يعظم من يعظم من متبوعيه شأنه شأن من قال الله عنهم: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون). وفي الآية الثانية: (وإنا على آثارهم مقتدون). فالمهم أن الجهل الذي يعذر به الإنسان بحيث لا يعلم عن الحق، ولا يُذكر له، هو رافع للإثم، والحكم على صاحبه بما يقتضيه عمله) ا. هـ [مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين 2/128]
المسألة الرابعة
صفة من تقوم به الحجة
ظن بعض طلبة العلم أن الحجة على تارك التوحيد لا تكون إلا من عالمٍ، فإن كانت من طالب علم أو من أحد عوام المسلمين فإنها لا تقوم به، ولو أوضح الأدلة وبيّن الحجة، وهذا خطأٌ كبير، فإن حجة الله على عباده القرآن فكل من أحسن عرض الحجة بتبيين الدليل مع ما رُكز في الفِطَر من الدلالة على التوحيد فقد أقيمت به الحجة، بل كل من تأهّل وتمكن من العلم وتهيأت له أسبابه فقد قامت عليه الحجة، ولا يُعذر حينئذٍ بالجهل لإعراضه عن تعلم أصل الدين، كما سبق بيانه، فبيان الحجة وتوضيحها يحتاجه من لا يتمكن من فهم القرآن ولا الاطلاع على العلم والأدلة فيحتاج إلى من ينبهه إلى الأدلة ويوضح لها دلالتها وهذا يكون في أزمنة الفترات وغلبة الجهل، سواءٌ كان المنبِّه عالماً أو غير عالم.
بل بالغ بعضهم وظن أن الحجة لا تقوم إلا ممن يعرفه المخاطب ويثق به، وهذا جهل وضلالة، فقد كان النبي يبعث الرسل إلى كسرى وقيصر فتقوم بهم الحجة، مع كون العرب كانوا مُستحقرين عند فارس والروم وغيرهم من الأمم آنذاك.
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: (وقولك: حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية، من إمام أو نائبه، معناه: أن الحجة الإسلامية لا تقبل إلا من إمام أو نائبه، وهذا خطأ فاحش، لم يقله أحد من العلماء، بل الواجب على كل أحد قبول الحق ممن قاله كائنا من كان.
ومقتضى هذا: أن من ارتكب أمرا محرماً، شركاً فما دونه بجهل، وبَيّن له من عنده علم بأدلة الشرع أن ما ارتكبه حرام، وبَيّن له دليله من الكتاب والسنَّة، أنه لا يلزمه قبوله، إلا أن يكون ذلك من إمام أو نائبه، وأن حجة الله لا تقوم عليه، إلا أن يكون ذلك من الإمام أو نائبه.
وأظنك سمعت هذا الكلام من بعض المبطلين، وقلدته فيه، ما فطنت لعيبه؛ وإنما وظيفة الإمام أو نائبه: إقامة الحدود، واستتابة من حكم الشرع بقتله، كالمرتد في بلاد الإسلام.
وأظن هذه العبارة مأخوذة، من قول بعض الفقهاء في تارك الصلاة: أنه لا يقتل حتى يدعوه إمام أو نائبه إلى فعلها؛ والدعاء إلى فعل شيء، غير بيان الحجة على خطئه أو صوابه، أو كونه حقاً أو باطلاً بأدلة الشرع; فالعالم مثلا: يقيم الأدلة الشرعية على وجوب قتل تارك الصلاة، ثم الإمام أو نائبه يدعوه إلى فعلها، ويستتيبه) ا. هـ [الدرر السنية 1-/394]
وقال الشيخ سليمان بن سحمان: (وأما قول السائل: هل كلٌّ تقوم به الحجة أم لا بد من إنسان يحسن إقامتها على من أقامها عليه؟ فالذي يظهر لي والله أعلم- أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها، وأما من لا يحسن إقامتها: كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه، ولا ما ذكره العلماء في ذلك، فإنه لا تقوم به الحجة فيما أعلم، والله أعلم) ا. هـ [منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع ص75]
المسألة الخامسة
لا يشترط في قيام الحجة أن يفهمها المُخاطب فهماً يتبين به أنها حق
لما كانت مسائل التوحيد الظاهرة كوجوب إفراد الله – تعالى -بالعبادة، وبالدعاء والنذر والذبح ونحو ذلك، مسائل فطرية، قد جعل الله- تبارك وتعالى -في فطرة الإنسان ما يدل عليها ويرشد إليها، فإنه لا يُحتاج في إقامة الحجة على تاركها إلى أكثر من التذكير بها إذا طرأ عليها من النشأة والألفة ما يسترها ويخفيها. فمن رحمة الله – تعالى -بعباده أنه لا يعذبهم بهذه الفطرة التي فطر الناس عليها حتى يبعث إليهم من يذكرهم بها فتتم الحجة بهم عليهم.
قال – تعالى -(رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء: 165]
وعلى هذا فمن قامت عليه الحجة بالبيان والقرآن وذُكِّر بالتوحيد الذي فُطر عليه الإنسان فقد انقطع في حقه العذر، فلا يُقبل منه بعد ذلك الاعتذار بعدم الفهم، أو عدم التبيّن.
والمراد بالفهم غير المشترط هنا: الفهم بأن الحجة قاطعة لشبهته، وأنها حقٌّ في نفسها، أما الفهم بمعنى: معرفة مراد المتكلم ومفهوم ومقصود الخطاب فهذا لا خلاف في اشتراطه.
قال ابن القيم: (قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه؛ كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً ولا يتمكن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة) ا. هـ [طريق الهجرتين ص611]
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب: (ولكن أصل الإشكال، أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال – تعالى -: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).
وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر; وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموه.. ) ا. هـ [الدرر السنية 13/90]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في معرض ردّه على عثمان بن منصور في اعتذاره عن أهل الشرك بعدم الفهم: (هذا الرجل من المحن على الدين، ومن أكابر المحرفين للكلم عن مواضعه، أي عالم وأي فقيه اشترط في قيام الحجة والبيان معرفة علم المخاطَب بالحق؟
قال الله – تعالى – (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)[الفرقان: 44]
وقال – تعالى – (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)[الأنعام: 25]
وقال – تعالى -(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً 103 الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)[الكهف: 103-104]
وقال – تعالى – (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)[فصلت: 44]
وأمثال هذه الآيات التي تدل على عمايتهم وعدم معرفتهم للحق كثير، ولم يقل هذا أحدٌ قبل هذا الغبي، وإنما يُشترط فهم المراد للمتكلم والمقصود من الخطاب، لا أنه حقّ. فذاك طور ثان، هذا هو المستفاد من نص الكتاب والسنَّة، وكلام أهل العلم لا ما قاله هذا المخلط الملبس) ا. هـ [مصباح الظلام ص205]
ولما احتج داود بن جرجيس في اشتراط الفهم لقيام الحجة بقول ابن تيمية: «ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه)»، ردّ عليه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بقوله: (ومراد شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الاستدراك، أن الحجة إنما تقوم على المكلفين، ويترتب حكمها بعد بلوغ ما جاءت به الرسل من الهدى ودين الحق،….، وقد مثل العلماء هذا الصنف بمن نشأ ببادية، أو ولد في بلاد الكفار، ولم تبلغه الحجة الرسالية، ولذلك قال «لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة»….
إلى أن قال: وهذا هو المراد بقول الشيخ ابن تيمية – رحمه الله تعالى -«حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه سلم » فإذا حصل البيان الذي يفهمه المخاطب ويعقله فقد تبين له، وليس بين «بيَّن» و «تبيَّن» فرق بهذا الاعتبار؛ لأن كل من بُيِّن له ما جاء به الرسول، وأصر وعاند، فهو غير مستجيب، والحجة قائمة عليه سواء كان إصراره لشبهة عرضت، كما وقع للنصارى وبعض مشركي العرب، أو كان ذلك عن عناد وجحود واستكبار، كما جرى لفرعون وقومه وكثير من مشركي العرب، فالصنفان يُحكم بكفرهم إذا قامت عليهم الحجة التي يجب اتباعها، ولا يلزم أن يعرف الحق في نفس الأمر كما عرفته اليهود وأمثالهم، بل يكفي في التكفير ردّ الحجة، وعدم قبول ما جاءت به الرسل) ا. هـ [مصباح الظلام ص499]
وقال أيضاً في توضح قاعدة مهمة: (فليس كل تأويل وكل جهل يُعذر صاحبه، وليس كل ذنب يجري فيه التأويل فيه ويُعذر الجاهل به، وقد تقدم أن عامة الكفار والمشركين من عهد نوح إلى وقتنا هذا جهلوا وتأولوا… ) ا. هـ [منهاج التأسيس ص262]
وسئل الشيخ صالح الفوزان: هل يشترط في إقامة الحجة فهم الحجة فهماً واضحاً جلياً أم يكفي مجرد إقامتها؟ نرجو التفصيل في ذلك مع ذكر الدليل؟
فأجاب: (هذا ذكرناه في الجواب الذي قبل هذا، أنه إذا بلغه الدليل من القرآن أو من السنة على وجه يفهمه لو أراد، أي بلغه بلُغَتِه، وعلى وجه يفهمه، ثم لم يلتفت إليه ولم يعمل به فهذا لا يعذر بالجهل لأنه مفرِّط) ا. هـ [أسئلة وأجوبة في مسائل الإيمان والكفر/ السؤال الرابع عشر]
وقال أيضاً: (من بلغه القرآن والسنَّة على وجه يستطيع أن يفهمه لو أراد ثم لم يعمل به ولم يقبله فإنه قد قامت عليه الحجة، ولا يعذر بالجهل لأنه بلغته الحجة، والله – جل وعلا – يقول:(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)، سواء كان يعيش مع المسلمين أو يعيش مع غير المسلمين، فكل من بلغه القرآن على وجه يفهمه لو أراد الفهم ثم لم يعمل به فإنه لا يكون مسلماً ولا يعذر بالجهل) [أسئلة وأجوبة في مسائل الإيمان والكفر]
وقال الشيخ صالح آل الشيخ: (تحقيق المقام هنا لأن بعض الناس قال كيف لا تشترطون فهم الحجة وكيف تقام الحجة إلى فهم، وتفصيل الكلام هنا أن فهم الحجة نوعان:
النوع الأول: فهم لسان.
والنوع الثاني: فهم احتجاج.
أما فهم اللسان فهذا ليس الكلام فيه، فإنه شرط في بلوغ الحجة، لأن الله – جل وعلا – قال(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)[إبراهيم: 4]، والله – جل وعلا – جعل هذا القرآن عربياً لتقوم الحجة به على من يفقه اللسان العربي.
وإذا كان كذلك فإن فهم اللسان هذا لابد منه؛ يعني إذا أتاك رجل يتكلم بغير العربية فأتيت بالحجة الرسالية باللغة العربية، وذاك لا يفهم منها كلمة، فهذا لا تكون الحجة قد قامت عليه بلسان لا يفهمه، حتى يَبلَغُه بما يفهمه لسانه.
والنوع الثاني من فهم الحجة هو فهم احتجاج، يفهم أن تكون هذه الحجة التي في الكتاب والسنَّة حجة التوحيد أو في غيره أرجح وأقوى وأظهر وأبين، أو هي الحجة الداحضة لحجج الآخرين، وهذا النوع لا يشترط؛ لأنه – جل وعلا – بين لنا وأخبر أن المشركين لم يفقهوا الحج…..
فإذن فهم الحجة ليس شرط في إقامتها ونعني بفهم الحجة فهم الحجة من حيث كونها داحضة بحجج الخصوم ومن حيث كونها أوضح من حجج الخصوم) [شرح كشف الشبهات]
المسألة السادسة
الذي يُعذر في مسائل التوحيد هو من كان حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، أما من كان يعيش بين المسلمين ويسمع القرآن والسنَّة ويسمع بالحق أو يتمكن من العلم فلا يُعذر بالجهل في مسائل التوحيد وإن كان قد يُعذر في غيرها من المسائل التي قد يخفى دليلها
لما كانت الفطرة دالة على التوحيد منبهة عليه، فإن بلوغ العلم والتذكير بهذه الفطرة كاف في إقامة الحجة، لظهور الأدلة والبراهين وتوافر العلوم الضرورية الفطرية، ولذلك لا يُعذر أحد في الوقوع في الشرك إذا كان ممن يسمع القرآن والحديث، ويسمع بمن يدعو إلى التوحيد ويحذِّر من الشرك، وهذا لا يكاد يخلو منه بلد من بلاد الإسلام إلا ما ندر، وإنما الذي يُتصور أن يفقد العلم بالقرآن ويفقد الداعي إلى التوحيد هو من كان حديث عهدٍ الإسلام، أو من كان يعيش في بلاد لا يبلغها العلم ولا يوجد فيها دعاة التوحيد.
واليوم بحمد الله قد انتشر العلم وتهيأت أسبابه في ظل التطور الكبير في وسائل الإعلام، وقد حصل البلاغ بدعاة التوحيد في الإذاعة والتلفاز والفضائيات والإنترنت وغيرها من وسائل الإعلام، وحصل أيضاً باختلاط الناس بعضهم ببعض، بحيث تيسر اللقاء بدعاة التوحيد وتهيأت الظروف الكثيرة للسماع بداعي التوحيد، كما يحصل في المدارس والجامعات وغيرها، ولا يكاد يوجد أحدٌ من أهل الشرك وعبادة الأولياء وغيرهم من آل البيت إلا وقد سمع بدعوة أهل التوحيد أو بدعوة من يُسمونهم بالوهابية ونحو ذلك، فالتنبيه قد حصل وانتشر، إلا أن كثيراً ممن بقي على شركه أعرض عن البحث والتدبر، مع كون الفطرة دالة على التوحيد مرشدة إليه.
وإنما يُتصور عدم ذلك فيمن نشأ بمكان بعيد عن بلاد الإسلام كغياهب إفريقيا وأطراف الدنيا أو من كان يعيش ببلاد الكفار بحيث لا يسمع بالحق ولا يتمكن منه، أو من كان حديث عهدٍ بإسلام.
قال النووي: (واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا يكفر أحد من أهل الأهواء والبدع، وأن من جحد ما يُعلم من دين الإسلام ضرورة حُكم بردته وكفره إلا أن يكون قريب عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيُعرَّف بذلك، فإن استمر حُكم بكفره) ا. هـ [شرح مسلم 1/150]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوات حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول) ا. هـ [مجموع الفتاوى 11/407]
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب في رسالة له: (ما ذكرتم من قول الشيخ: كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة؟ فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مراراً؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف) ا. هـ [[الدرر السنية 10/93]
وقال كل من الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: (وأما قوله: نقول بأن القول كفر، ولا نحكم بكفر القائل; فإطلاق هذا جهل صرف، لأن هذه العبارة لا تنطبق إلا على المعين، ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة، إذا قال قولا يكون القول به كفراً، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين، إذا قال ذلك لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
وهذا في المسائل الخفية، التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية، من رد أدلة الكتاب والسنَّة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم العلم بنقض النص، أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها؛ ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه في كثير من كتبه.
وذكر أيضا تكفير أناس من أعيان المتكلمين، بعد أن قرر هذه المسألة، قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية، فقد يقال بعدم التكفير; وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة، فهذا لا يتوقف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة، تدفع بها في نحر من كفر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات، بعد بلوغ الحجة ووضوح المحجة) ا. هـ [الدرر السنية 10/432]
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز: هل يوجد عذر بالجهل في أمور التوحيد؟ وهل ينطبق هذا على من يدعون وينذرون للأولياء، ويعتبرون معذورين بجهلهم؟
فأجاب: لا يعذر بذلك من أقام في بلد التوحيد، لا يعذر فيه بالجهل، وما دام بين المسلمين، ليس في فترة من الزمان، ولا في محل بعيد عن أهل الإسلام، بل بين المسلمين لا يعذر في التوحيد، بل متى وقع الشرك منه أخذ به، كما يقع الآن في مصر والشام ونحو ذلك، في بعض البلدان عند قبر البدوي وغيره.
فالواجب على علماء الإسلام أن ينبهوا الناس، وأن يحذروهم من هذا الشرك، وأن يعظوهم ويذكروهم في المساجد وغيرها، وعلى الإنسان أن يطلب العلم ويسأل، ولا يرضى بأن يكون إمعة لغيره، بل يسأل، والله يقول – سبحانه -:(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) فلا يجوز للإنسان أن يبقى على الكفر والشرك! لأنه رأى الناس على ذلك، ولا يسأل ولا يتبصر. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه سلم، أنه قال لمن سأله عن أبيه: ((إن أباك في النار))، فلما رأى تغير وجهه قال: ((إن أبي وأباك في النار)). وأبوه مات في الجاهلية، رواه مسلم في الصحيح؛ لأنهم كانوا على شريعة تلقوها عن خليل الله إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – وهي التوحيد، وأمه – عليه الصلاة والسلام – ماتت في الجاهلية، واستأذن ربه أن يستغفر لها، فلم يؤذن له، واستأذن أن يزورها فأذن له، فدل ذلك على أن من مات على كفر لا يستغفر له ولا يدعى له، وإن كان في الجاهلية، فكيف إذا كان بين المسلمين، وبين أهل التوحيد، وبين من يقرأ القرآن، ويسمع أحاديث الرسول e، هو أولى بأن يقال في حقه: إنه كافر وله حكم الكفار. وكثير منهم لو سمع من يدعوه إلى توحيد الله، وينذره من الشرك لأنف واستكبر وخاصم، أو ضارب على دينه الباطل، وعلى تقليده لأسلافه وآبائه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالواجب على كل إنسان مكلف، أن يسأل ويتحرى الحق، ويتفقه في دينه، ولا يرضى بمشاركة العامة، والتأسي بكفرهم وضلالهم، وأعمالهم القبيحة، وعليه أن يسأل العلماء، ويعتني بأهل العلم عما أشكل عليه، من أمر التوحيد وغيره يقول – سبحانه -(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون) ) ا. هـ [فتاوى نور على الدرب 1/241]
وفي فتاوى اللجنة الدائمة [فتوى رقم (9260)]: (س: فقد كثر الاختلاف بين الجماعات الإسلامية في جمهورية مصر العربية في مسألة من مسائل الإيمان، وهي: حكم الجاهل المخالف للعقيدة الإسلامية وحكم تارك بعض الشريعة، حتى وصل الأمر إلى العداء بين الإخوة بعضهم البعض، وزادت المناظرات والأبحاث لكلا الفريقين الذي يعذر بالجهل والذي لا يعذر بالجهل – فمنهم من يقول: العذر في الفروع ولا يعذر في الأصول، ومنهم من يقول: يعذر في الفروع والأصول. ومنهم من يقول: قد أقيمت الحجة. فهذا الذي يعذر بالجهل يدعو الناس ولا يحكم عليهم بالكفر حتى يبلغهم، فإن رفضوا هذا الهدي فهم كفار. والذي لا يعذر بالجهل حكم عليهم أنهم كفار لمجرد أنهم يفعلون فعل الكفر ودعوهم على أنهم كفار خرجوا من الإسلام بفعل الشرك، ولكونهم يأتون بالأدلة على ما يعتقدون، وأنا حائر بين هؤلاء وهؤلاء من أتبع، وقد أصبح فريق من هذا يبدع الآخر وكذلك العكس، وكل منهما يعتبر نفسه على حق والآخر على ضلال، ولا أدري من هو على حق ومن هو على ضلال، فقد عمت البلوى بين المسلمين، في هذا البلية بسبب الاختلاف على هذا الأمر، فمن هو الذي على حق ومن هو الذي على باطل. وأريد أن أتبع الحق الذي كان عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين؟
ج: لا يعذر المكلف بعبادته غير الله أو تقربه بالذبائح لغير الله أو نذره لغير الله ونحو ذلك من العبادات التي هي من اختصاص الله إلا إذا كان في بلاد غير إسلامية ولم تبلغه الدعوة، فيعذر لعدم البلاغ لا لمجرد الجهل؛ لما رواه مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله أنه قال:((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار))، فلم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم من سمع به، من يعيش في بلاد إسلامية قد سمع الرسول فلا يعذر في أصول الإيمان بجهله.
أما من طلبوا من النبي أن يجعل لهم ذات أنواط يعلقون بها أسلحتهم فهؤلاء كانوا حديثي عهد بكفر، وقد طلبوا فقط ولم يفعلوا، فكان ما حصل منهم مخالفا للشرع، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه سلم بما يدل على أنهم لو فعلوا ما طلبوا كفروا.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، نائب رئيس اللجنة: عبد الرزاق عفيفي، عضو: عبد الله بن غديان، عضو: عبد الله بن قعود) ا. هـ [1/764]
وقال الشيخ صالح الفوزان في تقديمه لكتاب «عارض الجهل»: (فرأيته كتاباً جيداً في موضوعه، تدعو الحاجة إليه في هذا الوقت الذي التبس فيه الحق بالباطل، بسبب فشو الجهل وغلبة اتباع الهوى، والخوض بغير علم بمهمات العقيدة، والاعتذار عن المشركين والمرتدين بادعاء أنهم جهلة مع كونهم يعيشون في بلاد الإسلام ويسمعون القرآن والأحاديث وكلام أهل العلم وقد قامت عليهم الحجة؛ لكنهم آثروا الاستمرار على ما هم عليه، وما وجدوا عليه آباءهم، ورفضوا الاستجابة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه سلم، واتهموا من استدل بهما، وتمسك بهما بأنه خارج عما عليه المسلمون إذ المسلمون في عرفهم هم عباد اقبور المتمسكون بالبدع والمحدثات الكفرية- مع أن العذر بالجهل إنما يكون في أحوال خاصة مثل:
1- من يعيش في بلاد بعيدة عن بلاد الإسلام ولم يبلغه القرآن والسنَّة.
2- يُعذر الجاهل في بلاد الإسلام في الأمور الخفية التي تحتاج إلى إيضاح وبيان، وأما الأمور الزاهرة كالتوحيد والشرك، والمحرمات القطعية كالزنا والربا والميتة ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، وما أجمع عليه أهل العلم فهذه لا يُعذر فيها من بلغه الكتاب والسنَّة على وجه يفهمه لو أراد الفهم، لأن الجهل ولله الحمد قد زال ببعثة النبي صلى الله عليه سلم وتيسر العلم لمن أراده وطلبه) ا. هـ [عارض الجهل ص5]
وسئل أيضاً – رحمه الله – عن حكم من يدعو غير الله وهو يعيش بين المسلمين وبلغه القرآن، فهل هذا مسلم تلبس بشرك أم هو مشرك؟
فأجاب: (من بلغه القرآن والسنة على وجه يستطيع أن يفهمه لو أراد ثم لم يعمل به ولم يقبله فإنه قد قامت عليه الحجة، ولا يعذر بالجهل لأنه بلغته الحجة، والله – جل وعلا – يقول: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)، سواء كان يعيش مع المسلمين أو يعيش مع غير المسلمين.. فكل من بلغه القرآن على وجه يفهمه لو أراد الفهم ثم لم يعمل به فإنه لا يكون مسلماً ولا يعذر بالجهل) ا. هـ [أسئلة وأجوبة في مسائل الكفر والإيمان/ السؤال الثالث عشر]
المسألة السابعة
من الأخطاء الشائعة حمل كلام أهل العلم في ضوابط تكفير أهل الأهواء والبدع على تكفير أهل الشرك
من الأمور المهمة التي لا بد من بيانها، والتي حصل فيها لبس عند بعض من تكلم في هذه المسائل: عدم التفريق بين مسائل التوحيد الفطرية والكلام في أهل الشرك، وبين المسائل المتعلقة بالصفات وبأهل البدع والأهواء، فحمل بعض من لم يعرف مواقع الكلام كلام أهل العلم في عذر أهل البدع والأهواء في بعض المسائل الخفية على أهل الشرك وعبادة الأولياء، فسوى بين ما دلت عليه الفطرة وبين ما قد تخفى بعض أدلته لما فيه من الاشتباه.
ومن لم يفرِّق في العذر بالجهل بين في مسائل التوحيد التي فطر الله عليها الخلق وبين المسائل التي قد تخفى وتشتبه، فقد ألغى حكم الفطرة! فصار وجود الفطرة وعدمه سواء! وهذا لازم لهم لا مناص منه.
وقد نقل بعضهم نصوصاً لشيخ الإسلام ابن تيمية في الخطأ في مسائل الصفات وأراد تعميمها على مسائل التوحيد والشرك، وممن وقع في ذلك قديماً أئمة الضلال كداود بن جرجيس وعثمان بن منصور وغيرهم، وقد تصدى للرد عليهم أئمة الدعوة كالشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف وعبد الله أبا بطين وغيرهم – رحمهم الله – أجمعين.
ومن أشهر النصوص التي يحتج بها هؤلاء حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – في الذي أمر أهله بحرقه وذره في اليم لئلا يعذبه الله، فقد احتج به شيخ الإسلام ابن تيمية على قاعدة أن الوقوع في الكفر لا يستلزم الحكم به على فاعله، ومن النصوص المشهورة لابن تيمية في هذا قوله: (والتكفير هو من الوعيد. فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة. وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا، وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: «إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، ففعلوا به ذلك، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت. قال: خشيتك. فغفر له». فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك. والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا). [مجموع الفتاوى 3/231]
وقد أجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن استدلالهم بهذا الحديث وبمثل هذه النصوص من ابن تيمية بقوله: (فرض الكلام الذي نقلته عن أبي العباس ومحله في أهل البدع، كما هو صريح كلامه، والمشركون وعبَّاد القبور عند أهل السنَّة والجماعة معدودون من أهل الشرك والردة، والفقهاء فرقوا بين القسمين في الأبواب والأحكام، فذكروا أهل الشرك والردة في باب الردة، وذكروا أهل الأهواء في باب قتال أهل البغي كالخوارج والقدرية ونحوهم، وهذا يعرفه صغار الطلاب، وقد خفي على ثور المدار والدولاب، فلبَّس على العامة والجهال، وأدخل أهل الشرك في أهل البدع، وسوّى بينهم في الأحكام، خلافاً لكتاب الله وسنة نبيه وما عليه علماء أهل الإسلام، فسحقاً له سحقاً، وبعداً له بعداً، حيث جادل بالباطل المحال) ا. هـ [مصباح الظلام ص516]
وقال أيضاً في موضع آخر في الرد ابن جرجيس في استدلاله بكلام ابن تيمية في مثل هذا: (موضوع الكلام والفتوى في أهل الأهواء، كالقدرية والخوارج والمرجئة ونحوهم، وأما عباد القبور فهم عند السلف وأهل العلم يُسمون الغالية، لأن فعلهم غلو يشبه غلو النصارى في الأنبياء والصالحين وعبادتهم. فالعراقي لا يعرف أهل الأهواء وما يُراد بهم، ومع هذا الجهل فالتحريف غالب عليه في كل ما يشير إليه….، ومسألة توحيد الله وإخلاص العبادة له لم ينازع في وجوبها أحد من أهل الإسلام، لا أهل الأهواء ولا غيرهم، وهي معلومة من الدين بالضرورة) ا. هـ [منهاج التأسيس ص101]
وقال أيضاً: (فالتشبيه في هذه المسألة بخبر الذي أمر أهله أن يذروه، أو بقول الشيخ أي ابن تيمية-: إن المخطئ لا يكفر إذا اجتهد واتقى، ونحو هذه العبارات تمويه وتشبيه. والنزاع فيمن قامت عليه الحجة، أو أمكنه الاستدلال، لا فيما يخفى من المسائل، أو كان ممن يختص أهل العلم بمعرفته، فه1ا ونحوه ليس مما نحن فيه، وإيراده والاحتجاج به على مسألة النزاع وهي تكفير الواقع في الشرك- تمويه لا يروج على أهل البصائر) ا. هـ [منهاج التأسيس ص250]
وقال أيضاً زيادة في التوضيح على بطلان الاستدلال بحديث الذي أمر أهله بحرقه ونحو ذلك: (وكلام شيخ الإسلام – رحمه الله – إنما يعرفه ويدريه من مارس كلامه، وعرف أصوله، فإنه صرّح في غير موضع أن الخطأ قد يغفر لمن لم يبلغه الشرع، ولم تقم عليه الحجة في مسائل مخصوصة، إذا اتقى الله ما استطاع واجتهد بحسب طاقته، وأين التقوى والاجتهاد الذي يدعيه عباد القبور والداعون للموتى والغائبين؟ كيف والقرآن يُتلى في المساجد والمدارس والبيوت؟ ونصوص السنَّة النبوية مجموعة مدونة معلومة الصحة والثبوت؟ والحديث الذي ذكره الشيخ في رجل من أهل الفترات قام به من خشية الله والإيمان بثوابه وعقابه ما أوجب له أن أمر أهله بتحريقه. فأين هذا من هؤلاء الضلال الذين)نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين(على دعاء غير الله، والشرك برب العالمين، فسحقاً لهذا الجاهل المفتري، وبعداً لكل ال غوي) ا. هـ [منهاج التأسيس ص215]
وقال الشيخ سليمان بن سحمان: (والجواب أن نقول: هذا كذب على السلف رضوان الله عليهم، فإنهم كفروا غلاة الرافضة كالذين حرقهم علي بن أبي طالب t، وكذلك كفروا غلاة القدرية، وغلاة المرجئة، والمعتزلة وغلاة الجهمية.
وقد حكى شيخ الإسلام تكفير من قام به الكفر من أهل الأهواء، قال: «واضطرب الناس في ذلك: فمنهم من يحكي عن مالك فيه قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد روايتين، وأبو الحسن الأشعري وأصحابه لهم فيه قولان، قال: وحقيقة الأمر: أن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير قائله، ويقال لمن قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال: لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها» انتهى.
وحيث كان الحال هكذا في الخوارج، قد اختلف الناس في تكفيرهم. والغلاة في علي لم يختلف أحد في تكفيرهم، وكذلك من سجد لغير الله، أو ذبح لغير الله، أو دعاه مع الله رغباً أو رهباً، كل هؤلاء اتفق السلف والخلف على كفرهم، كما ذكره أهل المذاهب الأربعة، ولا يمكن أحد أن ينقل عنهم قولاً ثانياً.
وبهذا تعلم أن النزاع وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثاله في غير عباد القبور والمشركين، فرضه وموضوعه في أهل البدع المخالفين للسنة والجماعة، وهذا يعرف من كلام الشيخ.
فإذا عرفت أن كلام الشيخ ابن تيمية في أهل الأهواء كالقدرية والخوارج والمرجئة، ونحوهم، ما خلا غلاتهم، تبين لك أن عباد القبور والجهمية خارجون من هذه الأصناف.
وأما كلامه في عدم تكفير المعين فالمقصود به في مسائل مخصوصة قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء، ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء.. ) ا. هـ [الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق ص380]
ومن النصوص التي احتج بها من لم يعرف مواقع الكلام قول شيخ الإسلام: (ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله – تعالى -فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال) ا. هـ [الرد على البكري 2/494]
وممن أجاب عن مثل هذا الاستدلال بهذا الموضع من كلام شيخ الإسلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن فقال بعد أن نقلاً كلاماً لابن تيمية احتج بهم مروجوا الشرك: (فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية، والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية التي هي كفر: «قد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها»، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة؛ بل قال: «ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين»، فحكم بردتهم مطلقاً، ولم يتوقف في الجاهل فكلامه ظاهر في التفرقة بين الأمور المكفرة الخفية، كالجهل ببعض الصفات ونحوها، فلا يكفر بها الجاهل، كقوله للجهمية: «أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال»، وقال فيمن ارتكب بعض أنواع الشرك جهلاً، «لم يمكن تكفيرهم حتى يُبيّن لهم ما جاء به الرسول»، ولم يقل: لم يمكن تكفيرهم، لأنهم جهال، كما قال في المنكر لبعض الصفات جهلاً؛ بل قال: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه سلم فلم ينتهوا، أو إن كانوا جهالاً) ا. هـ [الدرر السنية 10/355]
واحتج بعض هؤلاء أيضاً بكلام الإمام محمد بن عبد الوهاب في أول الدعوة ونفيه عن نفسه تكفير عباد القبور.
فقال كل من الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان في دحض استدلالهم بكلام الإمام: (وأما قوله – عن الشيخ محمد، – رحمه الله -: إنه لا يكفر من كان على قبة الكواز، ونحوه، ولا يكفر الوثني حتى يدعوه، وتبلغه الحجة، فيقال: نعم; فإن الشيخ محمداً – رحمه الله -، لم يُكفِّر الناس ابتداء، إلا بعد قيام الحجة والدعوة، لأنهم إذ ذاك في زمن فترة، وعدم علم بآثار الرسالة، ولذلك قال: لجهلهم وعدم من ينبههم، فأما إذا قامت الحجة، فلا مانع من تكفيرهم وإن لم يفهموها.
وفي هذه الأزمان، خصوصاً في جهتكم، قد قامت الحجة على من هناك، واتضحت لهم المحجة، ولم يزل في تلك البلاد من يدعو إلى توحيد الله، ويقرره، ويناضل عنه، ويقرر مذهب السلف، وما دلت عليه النصوص من الصفات العلية، والأسماء القدسية، ويرد ما يُشبِّه به بعض أتباع الجهمية، ومن على طريقتهم، حتى صار الأمر في هذه المسائل في تلك البلاد أظهر منه في غيرها، ولا تخفى النصوص والأدلة حتى على العوام؛ فلا إشكال – والحالة هذه – في قيام الحجة وبلوغها على من في جهتكم من المبتدعة والزنادقة الضلال.
ولا يجادل في هذه المسألة ويُشبِّه بها إلا من غلب جانب الهوى، ومال إلى المطامع الدنيوية، واشترى بآيات الله ثمنا قليلا) ا. هـ [الدرر السنية 10/434]
والله أعلم وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.