الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،،
فقد وقفت على ما كتبه فضيلة الشيخ عدنان عبد القادر حفظه الله على حسابه في تويتر حول مسائل متعلقة بولاية السلطان المتغلّب، فألفيت الشيخ حفظه الله قد جانب الصواب فيها، وأتى بأقوال لم يُسبق إليها فيما نعلم، وذكر أشياء يظهر منها التناقض، ولما كانت هذه المسائل مسائل علمية، وكان الواجب فيها التناصح والتباحث، وبيان ما وافق الحق منها وما خالفه، لا سيما وأن كلام الشيخ قد التبس على بعض أهل الخير والصلاح، والزمن زمن فتنة، وقانا الله شرها، وقد يستدل ببعض كلام الشيخ من يريد إيقاد الفتنة وإشعالها، كان من اللازم التنبيه على ما وقع فيه الشيخ من خطأ فيما نرى بحسب ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنّة، وعمل به سلف الأمة.
وستكون هذه التنبيهات عبر هذه التعقبات:
التعقب الأول: ما أسماه الشيخ وفقه الله بالفتوى الشبابية في ثبوت ولاية المتغلّب بالقوة والقهر حقناً للدماء ودرءاً للفتنة هي فتوى العلماء وليس الشباب، وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع عليها، كابن بطال وابن حجر ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من أهل العلم، وقد نقلت بعض نصوصهم في ردي الثاني على الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق بما يغني عن إعادته، وذكرت عليها أدلة من السنّة، وشواهد من عمل السلف، فليُرجع إليه.
على أن لقائل أن يقول: إن الشيخ إنما أنكر إطلاق القول بثبوت ولاية التغلب ولم ينكر أصلها، إذ اشترط لها شروطاً ستة، فالجواب أن يُقال: إن ما ذكره الشيخ من الشروط تعود على أصل ثبوت الولاية بالتغلب بالنقض، وهذا ما سيأتي بيانه.
التعقب الثاني: استدل الشيخ حفظه الله على ما ادعاه بعمومات من الكتاب والسنّة، كقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى)الآية وغيرها من الآيات، وكقوله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخالك ظالماً أو مظلوماً»، ولا يخفى أن هذه العمومات لا يمكن الاستدلال بها في إبطال دلالة ما جاء به النصوص الخاصة في المسألة، ولا في إبطال الاستدلال بإجماع العلماء وعمل السلف والأئمة، وهذا أمرٌ ينبغي التفطن له إذ أن أكثر ما يقع فيه الاشتباه إنما هو من جهة العموم والإجمال والاشتراك كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، لا سيما إذا كان الوقت وقت فتنة، ومن تأمل أحداث الفتن يجد أن كثيراً ممن خاضوا فيها إنما استدلوا بعمومات من النصوص معرضين عما جاء فيها من النصوص الخاصة، ومعرضين عما جرى عليه عمل السلف والأئمة.
على أن بعض ما ذكره الشيخ حفظه الله من النصوص لا يدل على مراده، نعم قد يدل على تحريم الخروج والثورة على من انعقدت له الإمامة، لكنها لا تدل على وجوب قتال المتغلّب والثورة عليه، مثل استدلاله بحديث «يُنصب لكل غادر لواء عند إسته»، وحديث «من خلع يداً من طاعة لقي الله لا حجة له»، ولا شك أن تحريم الخروج على الحاكم شيء، ومسألة قتال المتغلّب شيء آخر.
التعقب الثالث: استدل الشيخ حفظه الله ببعض النصوص التي يزعم دلالتها على ما يقرره من وجوب دفع المتغلّب وقتاله، كحديث «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» ونحوها من الأحاديث، وقد فصَّلت القول فيها وبينت أن هذه الأحاديث دليل عليهم لا لهم، وذلك في ردي الثاني على الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق بما يُغني عن إعادته.
التعقب الرابع: استدل الشيخ حفظه الله ببعض القواعد الشرعية كوجوب العدل والإحسان وتحريم الغدر والظلم نحو ذلك، ولا يخفى أن الاستدلال بمثل هذه القواعد على نقض ما جاءت به النصوص، وردّ ما أجمع عليه العلماء وجرى عليه عمل السلف، يعود على الشريعة بالنقض ويؤول بها إلىى التعارض والتضارب.
التعقب الخامس: استدل الشيخ حفظه الله على دعواه بفتاوى العلماء الذين أفتوا بوجوب دفع اعتداء النظام البعثي على الكويت وقت المحنة، حيث زعم أن صورة المسألة الواقعة الآن في مصر هي عين صورة ما وقع أيام الغزو، فأراد حمل فتاواهم في تلك الواقعة على ما هو واقع اليوم، ولا ريب أن الواقعتين غير متطابقتين من أوجه كثيرة جداً، وقد ذكرت بعض أوجه الاختلاف في تغريدات لي على حسابي في تويتر، ويؤكد هذا أن العلماء الذين أفتوا آنذاك بوجوب دفع الغزو العراقي هم أنفسهم –أي من بقي منهم- يُفتون فيما هو واقع الآن بخلاف ما أفتوا به في تلك الواقعة، من أمثال الشيخ الفوزان وغيره، وإلا لزم تناقضهم، ولا يخفى ما في ادعاء هذا اللازم من الجرأة.
التعقب السادس: ذكر الشيخ لثبوت ولاية المتغلّب شروطاً ستة لم نعلم أحداً من العلماء نصّ عليها على نحو ما ذكره الشيخ، ولذلك فالجواب على دعوى اشتراط هذه الشروط تفصيلي وإجمالي.
أما التفصيلي فيُقال: إن هذه الشروط التي ذكرها الشيخ أنواع: منها ما ينقض القول بثبوت ولاية التغلب أصلاً، ومنها شروط في غير موضع المسألة المتنازع عليها، وتفصيل القول فيها على النحو التالي:
أولاً: ما ذكره من اشتراط إجماع الناس لثبوت ولاية المتغلّب استناداً على قول الشافعي رحمه الله، وقول الإمام أحمد رحمه الله، فالأظهر أن مرادهما هو استقرار الأمر للمتغلّب، وعجز منازعيه عن مغالبته، ويؤكد هذا أن العلماء ومنهم الشافعية والحنابلة لم يذكروا اشتراط إجماع الناس في ولاية الاختيار فضلاً عن التغلّب، إذ لا دخل لعامة الناس في شأن الولاية، فإن الولاية منوطة بأهل الحل والعقد دون عامة الناس.
ولا يخفى أنه إذا كان لا يُشترط إجماع أهل الحل والعقد في اختيار الإمام بل يكفي اختيار جمهورهم، فكيف يُشترط إجماع عامة الناس الذين لا شأن لهم في أمر الولاية في ثبوت ولاية المتغلّب الذي قهر الناس وغلبهم، وغلب أهل الشوكة منهم، حتى صار لا شوكة إلا شوكته، هذا من التناقض !!
ثانياً: ما ذكره الشيخ حفظه الله في الشرط الثاني وهو: اتفاق الجمهور، والثالث وهو: اتفاق أهل الشوكة، أخذاً من بعض نصوص شيخ الإسلام، فعليه مؤاخذات عدة:
منها: أن المعنيين بـ”الجمهور” هم المعنيون بـ “أهل الشوكة”، وهذه مسميات لأهل الحل والعقد الذين بيدهم حل الأمور وعقدها، بحيث إذا عقدوا لأحد الولاية لم يستطع أحد منازعته، والعكس بالعكس، وللعلماء تفصيلات في أهل الحل والعقد وذكر صفاتهم ومسمياتهم، ليس هذا مقام البحث فيها.
ومنها: أن كلام شيخ الإسلام في اشتراط موافقة جمهور أهل الحل والعقد إنما هو في صورة ولاية الاختيار، لا في ولاية القهر والتغلّب، إذ كيف يُتصور اشتراط موافقتهم على ولايته، وقد أخذ الولاية بالقهر والغلبة، حتى صار لا شوكة إلا شوكته، فإن القول بثبوت الولاية بالتغلّب ينافي اشتراط موافقة جمهور أهل الحل والعقد، وإنما قد يُتصور اشتراط موافقتهم إذا كانت لهم القدرة على إزالته وعزله، فأما إذا غلبهم وأعجزهم فكيف يُتصور اشتراط موافقتهم؟
ثالثاً: ما ذكره في الشرط الرابع وهو: أن يأمر بطاعة الله، فإنه لا معنى له، لأن المتغلّب غالبٌ على الناس قاهرٌ لهم، وإنما الذي ينبغي أن يُذكر هو اشتراط أن لا يكون كافراً، لأنه لا ولاية لكافر على مسلم، ولذلك متى ما قهر الناس كافر ٌوعجز المسلمون عنه، صبروا حتى يتمكنوا من خلعه وإزالته.
وأما ما ذكره شيخ الإسلام في قوله: (فهو ذو سلطان مطاع إذا أمر بطاعة الله)، فليس قيداً أو شرطاً في ثبوت ولاية المتغلّب ونفوذها كما ظنه الشيخ، وإنما المراد: أنه لا يُطاع إلا فيما هو طاعة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الطاعة بالمعروف»، وهذا عام يعم جميع الولاة.
رابعاً: ما ذكره في الشرط الخامس وهو: أن تكون مفسدة زواله أعظم من بقائه، فهذا في صورة من ولاه أهل الشوكة ثم ظهر منه ما يوجب عزله، وأراد الناس عزله، فهو إذاً في سياق ذكر مفاسد الخروج على الولاة، هذا هو مراد شيخ الإسلام وهو نص قوله: (الحاكم إذا ولاه ذو الشوكة لا يمكن عزله إلا بفتنة، ومتى كان السعي في عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه لم يجز الإتيان بأعظم الفسادين لدفع أدناهما)، فالكلام لا علاقة له بالمتغلّب لا من قريب ولا من بعيد، بل فيه بيان تعليل نحريم الخروج على من ولاه أهل الشوكة.
خامساً: ما ذكره في الشرط السادس وهو أن يكون قادراً على سياستهم، هذا أيضاً لا معنى له، لأن سياسة الناس تعني إذعانهم لأوامره، وتمكنه من إنفاذ أحكامه فيهم، وهذا إما أن يكون بطاعتهم له اختياراً، وإما بقهره لهم، فمتى ما قهرهم واستتب له الأمر صار قادراً على سياسهم، ولذلك قال شيخ الإسلام: (متى صار قادراً على سياسة الناس إما بطاعتهم أو بقهره فهو ذو سلطان مطاع).
هذا هو الجواب التفصيلي.
وأما الجواب الإجمالي فهو أن نقول: إن ولاية التغلّب ولاية ضرورة، وهي إنما تكون حينما يقهر المتغلّب الناس، ويأخذ الولاية بالقوة والقهر، حتى تغلب شوكته شوكتهم، وإذا كان الحال كذلك فكيف يُقال باشتراط شروط معينة لثبوت ولايته في الوقت الذي الناس فيه عاجزون عن مغالبته.
وما يذكره العلماء من شروط الولاية في كتب الإمامة وغيرها، يعنون بها حال الاختيار لا حال الاضطرار.
قال السعد التفتازاني في شرح المقاصد فيما نقله عنه محمد رشيد رضا في المنار: (وبالجملة: مبنى ما ذُكر في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار، وأما عند العجز والاضطرار، واستيلاء الظلمة والكفار والفجار، وتسلط الجبابرة الأشرار، فقد صارت الرئاسة الدنيوية تغلّبية، وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالإمام ضرورة، ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط، والضرورات تبيح المحظورات).
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية: (اتفق العلماء على أن من شروط أصحاب الولايات العامة – كالإمام الأعظم الخليفة وأمراء الولايات والقضاة وغيرهم – العدالة، وألا يكونوا من أصحاب الأهواء والبدع، … ولكن ولاية المتغلّب على الإمامة أو غيرها من الولايات تنعقد، وتجب طاعته فيما يجوز من أمره ونهيه وقضائه باتفاق الفقهاء، وإن كان من أهل البدع والأهواء، ما لم يكفر ببدعته؛ درءاً للفتنة، وصوناً لشمل المسلمين، واحتفاظاً بوحدة الكلمة).
وأما دعوى الشيخ حفظه الله: أن إطلاق لفظ السلطان المتغلّب كإطلاق سائر الألفاظ الشرعية كالبيع في قوله (وأحل الله البيع)، أي: بتوفر الشروط وانتفاء الموانع، فهذا خطأ لا شك فيه، إذ فيه تسوية حال الضرورة بحال الاختيار، وقد قال تعالى (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه)، والعلماء متفقون أن الشروط تسقط عند العجز عنها، كشروط الصلاة والوضوء وكذلك الإمامة والولاية ونحو ذلك.
التعقب السابع: ذكر الشيخ حفظه الله إجماع العلماء على وجوب قتال البغاة الخارجين على الإمام، نقلاً عن البهوتي، وما ذكره الشيخ خارج عن محل النزاع، فإن البغاة قومٌ خرجوا على الإمام ولهم شوكة، وهؤلاء بغاة بخروجهم، ولذا فإن وجوب قتالهم إنما هو في حال بغيهم، أما إذ غلبوا الإمام واستتب لهم الأمر صاروا ولاة تجب طاعتهم، وقد انعقد الإجماع على تحريم قتالهم والخروج عليهم بعد تغلبهم.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحم بن حسن آل الشيخ: (وأهل العلم مع هذه الحوادث متفقون على طاعة من تغلَّب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه وصحة إمامته، لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون المنع من الخروج عليهم بالسيف، وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة ظلمة فسقة، ما لم يروا كفرا بواحاً، ونصوصهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم، وأمثالهم ونظرائهم). [الدرر السنية 9/28]
وقال في موضع آخر مؤكداً الإجماع على عدم جواز الخروج على المتغلّب، فقال: (ولم يَقُل أحد منهم بجواز قتال المتغلّب والخروج عليه، وترك الأمة تموج في دمائها، وتستبيح الأموال والحرمات). [الدرر السنية 9/20]
على أن ما ذكره الشيخ من الإجماع على وجوب قتال البغاة ليس بمسلّم، ففي المسألة خلاف معروف، ولشيخ الإسلام كلام طويل فيها.
هذا ما لزم بيانه والتنبيه عليه.
وإني في ختام هذه التعقبات، أود من الشيخ حسماً للنزاع، وسداً لسبل الشيطان في إيغار الصدور والتحريش بين المختلفين في المسائل العلمية، أن يُعرض الخلاف في هذه المسألة على أكابر العلماء ليبينوا وجه الصواب فيها، ويرجع الجميع لقولهم كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى.
هدى الله الجميع للحق، ووفقنا جميعاً لكل خير، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.