الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وبعد،
فهذه بعض التوجيهات النصائح المهمة لطالب العلم، اخترت منها ما تمس الحاجة إليه.
أولاً: مراجعة النية وتجديد الإخلاص لله – تعالى -، فإن مدار قبول الأعمال على الإخلاص لله – تعالى -والاتباع لسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، قال – تعالى -(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ)[النساء: 125]، وإسلام الوجه لله هو الإخلاص له – سبحانه -.
والنيّة في العلم عزيزة، فإنّ العلم مما يُنال بها الشرف والسؤدد، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما تجوز فيه الغبطة ذكر العلم والمال، لأن السيادة على الناس والشرف والرفعة تحصل بهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذراً: ((من طلب العلم ليباهي به العلماء، ويماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار)).
وقال ابن مسعود: (لا ينفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول ولا عمل إلا بنية، ولا ينفع قول ولا عمل ولا نية إلا بما وافق السنة). [جامع العلوم والحكم]
وقال يوسف بن أسباط: (تخليص النية من فسادها أشدّ على العاملين من طول الاجتهاد).
وضابط النية الحسنة هو التواضع للمعلِّم وللطلبة، والانتفاع بالعلم عملاً وتعليماً.
ومما يعين على تصحيح النية: النظر في كتب فضل العلم والعلماء، ككتاب «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر، وغيره من الكتب التي تبين منزلة وشرف العلم، فيزداد الطالب حباً له ورغبة فيه، مع القراءة في سير السلف، والنظر في أحوالهم.
ثانياً: الحرص على العمل، إذ هو المقصود من العلم، فطالب العلم كلما ازداد علماً ازداد عملاً.
قال الحسن: (كان الرجل إذا طلب العلم لم يَلْبَث أن يُرى ذلك في بصره وتخشِّعه ولسانه ويده وصلاته وزهده). [سنن الدارمي 1/118]
وقال الشافعي: (ليس العلم ما حُفظ، العلم ما نفع). [حلية الأولياء 9/123]
فاحرص دوماً على أن تعمل بكل ما تتعلمه من السنن والمستحبات فضلاً عن الفرائض والواجبات، حتى كان بعض السلف كالإمام أحمد وغيره يوصون بأن لا يسمع الطالب بسنَّة إلا ويعملها ولو مرة، فإنه يُكتب من أهلها.
ومما يعين على ذلك، تجديد النية دوماً ومعالجتها، فقد قال الثوري: (ما عالجت شيئاً أشدّ عليّ من نيتي، إنها تقلَّب عليّ).
ثالثاً: الحرص على الأخلاق الملازمة للعلم، والتي لا تنفك عنه ما كانت النية صالحة، ومن أظهرها: الزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله، والتعبّد بالقيام والصيام.
قال ابن مسعود: (ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حليماً حكيماً سكيتاً). [ابن أبي شيبة 7/231]
فالزهد والقيام والصيام من أكثر ما وصف الله بها المتقين، ومن أعظم ما رغب الله بها المؤمنين.
قال صلى الله عليه وسلم:((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم)).
ولما استضاف الإمام أحمد أحد طلبة العلم في بيته، ترك له ماءً يتوضأ به لقيام الليل، ثم أتى ليوقظه لصلاة الفجر فوجد الماء على حاله، فقال: سبحان الله طالب علم لا يقوم من الليل، فقال الطالب: يا إمام إني مسافر، فقال: لقد سافر مسروق فما نام إلا ساجداً.
أي: أن السفر لا يمنع من قيام الليل، فها هو النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يترك قيام الليل لا في سفر ولا في حضر.
وهذه الأخلاق سمة بارزة لأهل العلم، حتى لا يُكاد يُعرف عالمٌ وإلا وله حظ وافر منها، ومن تأمل كتب التراجم عرف ذلك. فأين نحن من هذه النماذج؟
ومن أعظم ما يعين الطالب على ذلك: تأمل الآيات والأحاديث في ذكر الزهد والقيام والصيام وفضلها، وكذلك النظر في سير السلف، وكتب الزهد. فقد قال أبو حنيفة: (لمذاكرة سير السلف أحب إلينا من نوافل العبادت، لأنها أخلاق القوم وآدابهم).
فينبغي لطالب العلم أن يكون وردٌ من النظر في سير السلف، والتأمل في كتب الرقاق والزهد، فقلما يخلو منها كتاب من كتب السنَّة، فضلاً عما أفرد لها.
رابعاً: الحرص على الانتظام في طلب العلم، وهذا في عدة أمور:
الأمر الأول: الانتظام في حِلَق العلم، وعدم الانقطاع والتذبذب. فالعلم يحتاج إلى صبرٍ وطول بال.
قيل للشعبي – رحمه الله -: من أين لك كل هذا العلم؟ قال: بنفي الاغتمام، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب.
فاحذر من العجلة في التحصيل.
الأمر الثاني: الانتظام في التدرج في طلب العلم، فيبدأ بصغار العلم قبل كباره، ولا ينتقل من متن في فنٍّ من الفنون إلى متن أعلى منه حتى يتقن الأول ويضبطه.
الأمر الثالث: الانتظام في الشيوخ، فلا يتنقَّل الطالب بين الشيوخ، فتراه مع هذا تارة، ومع ذاك تارة، بل يلتزم ما تيَّسر من الشيوخ المتقنين، ويصبر معهم، ويلتزم منهجهم وطريقتهم في التدريس والتعليم. وليحذر الطالب من تتبع طرق المشايخ المختلفة في طلب العلم ومحاولة اتباعها وترك ما ابتدأه، إذ قد يكون لكلٍّ من الشيوخ طريقة في التحصيل، فترى بعض الطلبة يسمع من هذا الشيخ طريقته فيلتزمها برهة من الزمن، ثم يسمع طريقة الآخر فيلتزمها ويترك الأولى وهكذا، وهذا من العبث في التحصيل ومن الفوضى التي لا تورث علماً، بل يلتزم طريقة شيخه الملازم له، ويأخذ بنصائحه وتوجيهاته.
خامساً: الانضباط في اختيار الأقوال الفقهية والمسائل العلمية، فيختار من الأقوال في زمن الطلب ما هو مشهور مُفتى به بين العلماء المعتبرين الذين تنتشر فتواهم بين الناس، ولا يبدأ طلبه للعلم باختيار أقوال غريبة أو شاذة، أو تخالف ما عليه فتاوى عامة العلماء المعتبرين عند الناس، وهذا أمر مهم، إذ أن بعض الطلبة يبدأ في اختيار بعض الأقوال الشاذة والغريبة أو المخالفة لما عليه الفتوى العامة، كل هذا قبل أن يقوى عوده، ويشتد ساعده، وقبل أن يكون ذا دربة في العلم وحضوة بين الناس.
وإغفال هذا الأمر في زمن الطلب يدل على أحد أمرين:
الأول: عدم الإخلاص، وحب الظهور والبروز بالمخالفة لما هو معهود، والتميز بشيء.
الثاني: العجلة والجهل، والإعجاب بالنفس والاعتداد بها.
سادساً: الحرص على اختيار المشايخ المتقنين، والمعروفين بسلامة المنهج والعقيدة السائرين على طريقة ومنهج العلماء الربانيين، والبعد عن أهل الانحراف في المنهج، والمعروفين بمخالفة العلماء في القضايا المنهجية والنازلة، فإن هؤلاء لا يُؤخذ عنهم العلم ولا كرامة.
قال البخاري: (كتبت عن ألف نفرٍ من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عن من قال: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عن من قال: الإيمان قول). [اللالكائي 5/889]
وقال شيخ الإسلام في تعليل ترك السلف الرواية عن الداعية إلى البدعة والمظهر لها: (لأنهم لم يَدَعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم، ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه بخلاف من أخفاها وكتمها، وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يُهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته، ومن هجره أن لا يؤخذ عنه العلم). [منهاج السنة 1/63]
سابعاً: الحرص على تعلم أدب الطلب، بقراءة كتب آداب طلب العلم، ومعرفة ما ينبغي على الطالب في نفسه، وفي حق شيخه، وغير ذلك، ومن الكتب المهمة: «حلية طالب العلم» لبكر أبو زيد، و«تذكرة السماع والمتكلم» لابن جماعة، و«الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع» للخطيب.